غلاف كتاب لعنة بابل |
بلال عبد الهادي باحث في «ملاعب» اللغة
غسان علم الدين
الخميس ٢ يناير ٢٠١٤
قبل الشروع في أي كلام لا بد من الاعتراف أولاً بأنّ كتاب أستاذ الألسنية في الجامعة اللبنانية بلال عبد الهادي «لعنة بابل» (دار الإنشاء)، هو واحد من كتب نادرة، يحجم بعض النقاد عن الكتابة عنها، والخوض فيها، رغم الفتنة العارمـة، والغواية الطافحة التي يبذرها في أرجاء النصوص. فالنصوص، وإن تناظرت سيميائياً، تظلّ مشدودة الأزر، متّسقة الوشيجة والدلالات الذّاهبة إلى همّها وشغفها، وشغلها عن أن تكون المعرفة والجمالية وشيء من الحقيقة دأبها اللامنقطع.
يلعب بلال بالعناوين لعبة ساحر يشدّك، يدهشك بالغريب النافل، والبسيط في آن. ومنذ العناوين تقع أسير المكر والرؤية المخامِرة، المخادعة الزائفة والتّلقي الذي يقع منك موقع المتداول اليومي، الذي لا غنى لك عنه في معيشتك: «حرف ساقط، قاموس، مياه وأجنحة، تفاحة لغوية، مآكل لغوية، كرواسان، في ملعب اللغة»...
عناوين تستوقفك لبرهة سرعان ما تستجرّ خلفها دقائق، بل ساعات تمضيها مستمتعاً في احتضان صاحب صُنعة، يعرف كيف ومتى وإلى أين يأخذك، ثم يعيدك إلى حيث يريد.
في «ملعب اللغة» يعرض الكاتب «مقامات الحريري» الذي وفق عبد الهادي «يلعب باللغة لعباً يتطلّب صبراً لولوج مكامن وغايات كتابته، التّي صاغها وكأن كل نص منها نصّان، إذ يكتب الجملة في صيغة لغز، وحين تقرأ الجملة نفسها، من آخرها تقبض على جواب آخر». أما في «كرواسان»، فيحاول الكاتب إظهار أهمية الشكل والدلالة السيميائية على المعنى، إذ إن «اسم هذه الفطيرة هو وليد شكلها». وتعني بالفرنسية «الهلال» ويكتسي مضموناً غنياً، لا يمكن لمسه أو المسّ به.
فالإنسان كائن لا يمكنه الاستغناء عن الرمز، لأن «في ذلك هدراً معلناً لأحد شروط إنسانيته». ويضرب مثلاً على أن «ماذا يصير بتراثنا العشقي والشعري إذا قررت ليلى مغادرة بيوتها الشعرية والأغنيات، وماذا يصير بالمجنون»؟.
«لعنة بابل» وما نسجه صاحبها من مرويّات وقصص ونوادر لا يخلو صنف منها من درس أراد أن يحملنا على متونه وعلى ضفاف حواشيه إلى الامتلاء بالإحساس به، كأنه شعور ما، بل وحقيقة نلمسها في اليومي من حياتنا.
تداعيات انسانية
يسعى الكاتب عبر محاولات كثيرة إلى تحييد غالبية نصوصه عن الأدبي الفني، الذي يعكس نماذج من حيوات حميمة سابقة، وراهنة في آن، لا يمكنها أن تبلغ رسائلها إلا من خلال الشعري، أو الروائي، او القصصي او ماشابه. ففي حكاية «ألسنة وأوطان» التي يعرض فيها موضوع الغربة وما تمنى وما كابد من جرائها مجموعة من الكتّاب والشعراء العرب والعالميين، يضع نفـسه ويضـعنا أمام الشعرية الخالصة، يقطر أمنـيات وذكـريات وتـداعيات إنسـانية.
أقل هذه التداعيات طموح البشر، لا سيما الكتّاب والشعراء والفنانين إلى ان يدفنوا في تراب بلادهم. إذ يبدو أندريه جيد وفي سياق سؤال وجهه إليه أحد السائلين قائلاً: «أين تحب أن تعيش؟» فأجابه» أحب ان اعيش حيث أحب أن أموت». ويرمي عبد الهادي من خلال سوقه هذه الواقعة وبشكل واضح ميلهُ إلى حمل قارئه على الولوج إلى الشعرية العالية، التي ومن دونها لا يمكن سؤالاً عصياً على الإجابة ان يتحقق، ويقنع السائل ولا القارئ ولا الكاتب نفسه.
رويّ او حكي كهذا لم يكن ليتمكن كاتبه من أن يوصله إلى القرّاء لولا أنه عمد إلى القعود كما في اي راوية، او أي قاص، او أي حكواتي، وراح يخبرنا عمّا سلف من نوادر وحكايات ذات دلالات وأبعاد تشتمل على الأنواع الأدبية كافة : القصة، الشعر، الرواية، والطرفة.
المساحات الجمالية في «لعنة بابل» كثيرة ومتنوعة، وقد ظل الكاتب في إثرها، وبقينا نتبعه حتى آخر اللعبة. إلا أن حركة التناص الذي يواشج ما بين النصوص كانت منذ المفتتح الذي بدأه بآية من سورة «الروم» ثم بالإصحاح «11» من سفر «التكوين» في الكتاب المـقـدس، بحيث افتتح الكـلام الـكثيف الذي اكتـظـّت به حـكاياته. إذ لا يـمكن كـلاماً مهـما بـداً كبـيراً وعظيماً وفاتناً وآسـراً في أن يكون كلاماً نهائياً باتاً، قاطعاً القول والكلام على ما دونه.
وقال الأقدمون وفق «سفر التكوين»: «هلمّ نهبط ونبلبل هناك لغتهم، حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض». وذهب علماء الكلام الألسنيون، النّحاؤون، مفككو البنى والتراكيب والصياغات في الأعمال الإبداعية إلى ان التناص يمثل حواراً متبادلاً، ورباطاً متفاعلاً بين نصين، وفي النص الواحد تلتقي نصوص عدة، تتصارع، فيُبطِل احدها مفعول الآخر. كذلك تلتحم، تتلاصق، تتعانق. ثم يتمكن النص القادر من تفكيكها كلها، وتدميرها في الوقت ذاته. فالنص مجموعة استشهادات، وليس من حكمة النص نفسه أن توضع في خانات تحدد هوية ومصدر كل منها. بل إن اهميتها في ان تظل هجينة، لا مصدر ولا اشتقاق ولا من يدّعي كتابتها أو الانتماء إليها، ولا هي في الأصل طامحة إلى الانتماء إليه.
http://alhayat.com/Details/588331
يلعب بلال بالعناوين لعبة ساحر يشدّك، يدهشك بالغريب النافل، والبسيط في آن. ومنذ العناوين تقع أسير المكر والرؤية المخامِرة، المخادعة الزائفة والتّلقي الذي يقع منك موقع المتداول اليومي، الذي لا غنى لك عنه في معيشتك: «حرف ساقط، قاموس، مياه وأجنحة، تفاحة لغوية، مآكل لغوية، كرواسان، في ملعب اللغة»...
عناوين تستوقفك لبرهة سرعان ما تستجرّ خلفها دقائق، بل ساعات تمضيها مستمتعاً في احتضان صاحب صُنعة، يعرف كيف ومتى وإلى أين يأخذك، ثم يعيدك إلى حيث يريد.
في «ملعب اللغة» يعرض الكاتب «مقامات الحريري» الذي وفق عبد الهادي «يلعب باللغة لعباً يتطلّب صبراً لولوج مكامن وغايات كتابته، التّي صاغها وكأن كل نص منها نصّان، إذ يكتب الجملة في صيغة لغز، وحين تقرأ الجملة نفسها، من آخرها تقبض على جواب آخر». أما في «كرواسان»، فيحاول الكاتب إظهار أهمية الشكل والدلالة السيميائية على المعنى، إذ إن «اسم هذه الفطيرة هو وليد شكلها». وتعني بالفرنسية «الهلال» ويكتسي مضموناً غنياً، لا يمكن لمسه أو المسّ به.
فالإنسان كائن لا يمكنه الاستغناء عن الرمز، لأن «في ذلك هدراً معلناً لأحد شروط إنسانيته». ويضرب مثلاً على أن «ماذا يصير بتراثنا العشقي والشعري إذا قررت ليلى مغادرة بيوتها الشعرية والأغنيات، وماذا يصير بالمجنون»؟.
«لعنة بابل» وما نسجه صاحبها من مرويّات وقصص ونوادر لا يخلو صنف منها من درس أراد أن يحملنا على متونه وعلى ضفاف حواشيه إلى الامتلاء بالإحساس به، كأنه شعور ما، بل وحقيقة نلمسها في اليومي من حياتنا.
تداعيات انسانية
يسعى الكاتب عبر محاولات كثيرة إلى تحييد غالبية نصوصه عن الأدبي الفني، الذي يعكس نماذج من حيوات حميمة سابقة، وراهنة في آن، لا يمكنها أن تبلغ رسائلها إلا من خلال الشعري، أو الروائي، او القصصي او ماشابه. ففي حكاية «ألسنة وأوطان» التي يعرض فيها موضوع الغربة وما تمنى وما كابد من جرائها مجموعة من الكتّاب والشعراء العرب والعالميين، يضع نفـسه ويضـعنا أمام الشعرية الخالصة، يقطر أمنـيات وذكـريات وتـداعيات إنسـانية.
أقل هذه التداعيات طموح البشر، لا سيما الكتّاب والشعراء والفنانين إلى ان يدفنوا في تراب بلادهم. إذ يبدو أندريه جيد وفي سياق سؤال وجهه إليه أحد السائلين قائلاً: «أين تحب أن تعيش؟» فأجابه» أحب ان اعيش حيث أحب أن أموت». ويرمي عبد الهادي من خلال سوقه هذه الواقعة وبشكل واضح ميلهُ إلى حمل قارئه على الولوج إلى الشعرية العالية، التي ومن دونها لا يمكن سؤالاً عصياً على الإجابة ان يتحقق، ويقنع السائل ولا القارئ ولا الكاتب نفسه.
رويّ او حكي كهذا لم يكن ليتمكن كاتبه من أن يوصله إلى القرّاء لولا أنه عمد إلى القعود كما في اي راوية، او أي قاص، او أي حكواتي، وراح يخبرنا عمّا سلف من نوادر وحكايات ذات دلالات وأبعاد تشتمل على الأنواع الأدبية كافة : القصة، الشعر، الرواية، والطرفة.
المساحات الجمالية في «لعنة بابل» كثيرة ومتنوعة، وقد ظل الكاتب في إثرها، وبقينا نتبعه حتى آخر اللعبة. إلا أن حركة التناص الذي يواشج ما بين النصوص كانت منذ المفتتح الذي بدأه بآية من سورة «الروم» ثم بالإصحاح «11» من سفر «التكوين» في الكتاب المـقـدس، بحيث افتتح الكـلام الـكثيف الذي اكتـظـّت به حـكاياته. إذ لا يـمكن كـلاماً مهـما بـداً كبـيراً وعظيماً وفاتناً وآسـراً في أن يكون كلاماً نهائياً باتاً، قاطعاً القول والكلام على ما دونه.
وقال الأقدمون وفق «سفر التكوين»: «هلمّ نهبط ونبلبل هناك لغتهم، حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض». وذهب علماء الكلام الألسنيون، النّحاؤون، مفككو البنى والتراكيب والصياغات في الأعمال الإبداعية إلى ان التناص يمثل حواراً متبادلاً، ورباطاً متفاعلاً بين نصين، وفي النص الواحد تلتقي نصوص عدة، تتصارع، فيُبطِل احدها مفعول الآخر. كذلك تلتحم، تتلاصق، تتعانق. ثم يتمكن النص القادر من تفكيكها كلها، وتدميرها في الوقت ذاته. فالنص مجموعة استشهادات، وليس من حكمة النص نفسه أن توضع في خانات تحدد هوية ومصدر كل منها. بل إن اهميتها في ان تظل هجينة، لا مصدر ولا اشتقاق ولا من يدّعي كتابتها أو الانتماء إليها، ولا هي في الأصل طامحة إلى الانتماء إليه.
http://alhayat.com/Details/588331
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق