الأربعاء، 2 أغسطس 2017

السلطان ونعال الشاعر ابي العتاهية


كنت قد قرأت كتاباً طريفاً لعالم النفس الفرنسيّ جوزيف ميسنجر(Joseph Messinger) المتخصّص في قراءة دلالات التواصل غير اللفظيّ بشتّى أشكاله وقراءة الطرائق المفعمة بالمعنى التي نتعامل بها مع الأشياء، في كتابه اللطيف:"هذه الأشياء التي تشي بنا، لغة المظهر"، (Ces objets qui vous trahissent,le langage du look).

وكانت النعال من جملة الأمور التي تناولها ودرس دلالتها فيقول إنّها كانت في بدايات استخدامها علامة فارقة  تميّز الأحرار من العبيد لأنّه لم يكن للعبد حقّ الانتعال، كما يتكلّم على التعامل مع الأحذية لدى بعض الحضارات كما في اليابان مثلاً حيث لا يحقّ لها الدخول إلى حرم البيت، فتخلع عند عتبة البيت. ويحاول الكاتب، بشكل طريف، قراءة أحوال النفس الإنسانيّة من خلال استهلاك كعب الحذاء، فهو يقول إنّ الطموحين تتآكل أكعاب أحذيتهم من الأطراف الخارجيّة، أمّا استهلاك الأطراف الداخليّة فهي تعني أنّ الإنسان خجول، كتوم، لأنّه يكبح مشيته. وبري الكعب لا يحمل الدلالة التي يحملها بري النعل.

ولا يخلو تراثنا العربيّ من بعض الأمور الطريفة حول النعال، منها كتاب وضعه المقري التلمسانيّ صاحب المؤلف الشهير " نفح الطيب في غصن الاندلس الرطيب" الذي يعدّ أبرز المراجع المكتوبة حول الأدب الأندلسيّ، والكتاب يحمل العنوان التالي: "فتح المتعال في مدح النعال"، وهو عن النعال التي انتعلها الرسول عليه السلام، وهل ننسى صلة النعال بالمقدّس؟ ومن لا تخطر بباله النعال حين الكلام عن الوادي المقدس في الآية الكريمة:" فاخلع نعليك إنّك بالوادي المقدس طوى" [طه/12] ؟ واذا اردنا الطرافة الا يمكن تأليف كتاب عن الاحذية وانشغال البال على النعال في صلوات الجمع والاعياد؟ أليس هناك من ينتهز هذه المناسبة لانتعال حذاء جديد بالمجّان؟ بل اليس للنعال حضور في تفسير المنامات العربية؟ ألا يعني النعل في المنام العربيّ رحلة موفّقةً أو غير موفّقةٍ بحسب حال النعال في المنام او زواجا او طلاقا أو امرأة؟ وما يعني "يحذو حذوه"؟ وما مصدر هذا التعبير غير الحذاء؟ وماذا نقول عن الكرامة العربية التي انتفضت على شكل حذاء في وجه رئيس الولايات المتحدة على يد الصحافي العراقيّ المجروحة كرامته الوطنيّة؟

ومن باب الكرامة سأدخل الى الجزء الثاني من مقال النعال. وسيتناول مقالي عن النعال ثلاثة  أمور؟ المثقف والنعال والسلطان؟ والنعال ستكون ساحة العلاقة بين المثقف والسلطان؟ وبين الشاعر والسلطان؟ بين الشاعر الذليل في بلاط الحاكم، والشعر ديوان العرب على ما كان يقال في كتب الأدب، وكان للشعر في غابر الوقت مقام الإعلام اليوم أيضاً، به تدافع القبيلة عن نفسها، وبه تحفظ ارشيفها، ومن خاصية الشعر انه كذّاب. وهذا ما تقوله العبارة المأثورة " أعذب الشعر أكذبه". والشعر العربيّ القديم كان يتمحور حول المدح والهجاء؟ فهل هذا يعني أنّ الشعر ديوان العرب وأكاذيبهم وحقائقهم؟ هل الحاجة أم تلفيق الكذب؟ تقلّص كثيراً حجم الكذب عند الشعراء بإلغاء مفهوم الشعر القديم القائم على المديح ونقيضه؟ ولكن من يحمل راية المديح والهجاء بعد الشاعر؟ ألم يذهب الشاعر المتكسّب وحلّ معه الصحافيّ المتكسّب؟ ألا تستحقّ رحلة المدح والهجاء ذهابا وإياباً  دراسة سياسية واجتماعية؟

لقد وقع نظري على بعض ابيات الشعر ذات الصلة بالنعال. ولكنها في الوقت نفسه ذات صلة بالسلطان والمثقفين، ولقد أوردها الجاحظ في كتابه البديع: البيان والتبيين". والأبيات بمضمونها وسياقاتها تنمّ عن حالة الارتباك النفسي التي كان يعيشها الشاعر في ظلال الخلفاء. وما يزيد دلالتها حدّة وبروزاً هي انها لشاعر عرف بالزهد والحكمة، وهو أبو العتاهية؟ اي منسوبة لشاعر اسقط من حسابه عالم السلاطين ومغريات الدنيا وألاعيب الشهوات السلطانية.

يروي الجاحظ ان ابا العتاهية اهدى ذات يوم نعلاً للخليفة المأمون. الهدية من الادنى الى الاعلى فخّ شفّاف، ومحاولة محاكاة الطبقات العليا، ولكن الهدية المنسوبة الى مقام عليّ كانت مرفقة ببيتين من الشعر يضعان الشاعر في مكان سفليّ، ويحوّلان الشاعر الى رباط نعل الخليفة، يقول ابو العتاهية:

نَعْلٌ بَعَثْتُ بها لتَلْبَسها ... تَسْعَى بها قَدَمٌ إِلى المَجْدِ

لَوْ كان يَحْسُنُ أَن أُشَرِّكَها ... خَدِّى جَعَلْتُ شِرَاكَها خَدِّي

ولقد قبل الخليفة النعل بعد أن قرأ البيتين.  الشعر هنا كان مطية تغري الخليفة بقبول الهدية. ولقد ردد الشاعر هذه الفكرة في قصيدة اخرى قالها في عمرو بن العلاء صاحب الخليفة المهديّ على ما يقول ابو علي القالي في كتابه "الأمالي":

إني أمنت من الزمان وريبه      لما علقت من الأمير حبالا

لو يستطيع الناس، من إجلاله،    لحذوا له حرّ الوجوه نعالا

ما كان هذا الجود حتى كنت يا     عمْرا، ولو يوما تزول لزالا  

فأمر له بسبعين ألف درهم، وأمَرَ من حضَرَهُ من خدَمِهِ وغلمانه أن يخلعوا عليه، فخلعوا عليه حتى لم يقدِرْ على القيام لِما عليه من الثياب؛ ثم إنّ جماعة من الشعراء كانوا بباب عمر، فقال بعضهم : يا عجباً للأمير، يعطي أبا العتاهية سبعين ألف درهم! فبلغ ذلك عمرا، فقال: عَلَيَّ بهم، فأُدخِلوا عليه، فقال: ما أحسَدَ بعضَكم لبعضٍ يا معشر الشعراء! إنَّ أحدكم يأتينا يريد مدحنا فيُشَبِّب في قصديته بصديقته بخمسين بيتاً، فما يَبلُغنا حتى تذهب لَذَاذة مدحه ورَونَقُ شعره، وقد أتانا أبو العتاهية فشَبَّب ببيتين ثمّ دخل في مدحنا.

ذلّ فاقع السواد في سيرة أبي العتاهية يترجمه ليس تحويل وجوه العبيد إلى نعال وأسيار ( ربطة) وانّما تحويل وجوه الأحرار.

الدرهم والدينار حوّلا فيما مضى وجوه الأحرار الى سيور في النعال. ألا يسلك اليوم الدولار سلوك الدينار لدى بعض اصحاب الأقلام؟




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق