وضع تسمية لكتاب فيه ما في
التسميات من مصادفات وأقدار واختيارات أيضا, ولا ريب في أنها تمرّ بمخاضات لا تخلو
من مكابدات, والكتّاب يعرفون كم أجهضوا من عناوين كادت تزيّن أغلفة كتبهم لو لم
تستبدل في اللحظات الأخيرة وهنا أيضا تحلو دراسة العناوين الملغاة, أو قراءة
"عناوين ما قبل الولادة" وهي تنتمي إلى جملة النصوص الموازية لأنها تعين
وتضيء سيرة حياة العنوان الخفيّة، (أي أن لمسوّدات العناوين ما لمسوّدات الكتب
نفسها من أهميّة) وهذا أمر لم يؤخذ كثيرا بعين الاعتبار فيما أتصوّر في دراسة النصوص
التي كان ممكن ان تتوّجها هذه العناوين، لأنّ هذه الأخيرة بمثابة خيوط ينسج منها
حكما ضوء جديد على النصّ وعلى الشكل النهائي الذي استوى عليه العنوان. وأظنّ مشاعر
الحيرة أو "التردّد" أو "القلق"التي تنتاب المؤلف أو واضع
العنوان تعود إلى وجهة النظر التي تحكم النصّ المكتوب,
ليس من السهل ولادة العنوان, فمخاضه عسير, تماما كمخاض أسماء الأعلام, التي
تشترك في صنعها المصادفات والأقدار والاختيارات طبعا, فمن العناوين ما يكون جاهزا,
سهلا, كاسم وليد بكر العائلة الذي لا يلاقي صعوبة في تسميته. فالاسم حاضر قبل مجيء
الصبي(في المجتمعات العربية على الأقلّ) أي أن اسمه يخالف القول الشائع الذي يقوم
على تأجيل التفكير بالاسم. ولا ريب في أن اختيار الاسم مسؤولية أو وعد, وفيّ أو
مراوغ, لأنه يقوم بدور المفتاح إلى دهاليز النص, ولا أحد ينكر دور الاعتباط في
اختيار بعض الأسماء, إلا أننا لا يمكن ان نجزم بان كل الأسماء اعتباطية, أو ان
شئنا هي "اعتباطية نسبية" على ما يذهب إليه دي سوسير في تعليله لبعض
الصلات غير الاعتباطية القائمة بين الدالّ والمدلول، فعنوان "الوقائع الغريبة
في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" يخلو تماما من الاعتباطية وهو عنوان لا
يمكن لنا إلا أن نستشفّ منه مسار السرد في الرواية الشهيرة للكاتب الفلسطيني إميل
حبيبي القائم على المفارقة والتضاد وتوحيد الأضداد, وهو هنا كالدخان المتوالد من
جذوة أحداث النصّ نفسه.
كنت قد جمعت مقالاتي اللغوية لنشرها في كتاب، وهي 60
مقالاً نشرت اغلبها في جريدة الانشاء الطرابلسية. بعد ان اكتمل لم شمل المقالات،
بقي علي اختيار العنوان، لم يخطر ببالي سريعا، وكان عنوان الكتاب هو آخر ما تم
كتابته. اود هنا الاشارة الى كيفية تكوين الاسم الذي قرّ الاعتماد عليه، وهو
"لعنة بابل". واحب هنا، الاشارة الى كيفية ورود الاسم ببالي، اي انني
اريد ان اشير الى تداعيات المعاني التي أفضت الى ولادة العنوان.
كنت قد استبعدت فكرة اختيار عنوان مقالة من المقالات
ليكون اسما للكتاب، رغم وجود عناوين عامة ممكن ان تكون عنوانا منها مثلاً: "ألسنة
... وأوطان" وهو عنوان مقالة عن شاعر صينيّ هاجر قريته ثمّ عاد فلم يفهم عليه
صغار القرية واعتبروه غريباً عن القرية، والمقال يريد ان يتناول التطوّر الصوتيّ
للغة على الألسنة.
بداية خطر ببالي
عنوان: "عش لغتك" أو "لا تلعن لغتك"، والتسميتان من وحي رغبتي
في أن نعيش لغتنا العربية بلا عقد. ولكن كنت متردّدا في تبني الاسمين لقناعات
لغويّة شخصيّة. كنت اريد ان أمنح العنوان فرصة أن ينطق بالعاميّة أو الفصحى كما
يحلو لشفتي القارىء. وهذا لا يتوفّر للعنوانين المقترحين، فـ"عِشْ"
بالعامية تلفظ "عِيش" و"لا" في العامية تتحوّل إلى
"ما". ولكن كلمة " تلعن" كانت قوية الحضور، في ذهني، وكنت قد
استعملتها في عنوان مقال سابق لأسجّل لحظة لغوية ما. كنت في مقهى، ذات يوم، واذ بي
اسمع عجوزا يقول لصديقه : من أين أتيت بهذه المعلومة؟ فأجاب صديقه: من الانترنت.
فما كان من العجوز الا ان نظر نظرة استهزاء هازّا برأسه ، وقال لصديقه: "شو
بدّك بهل حكي، هيدا حكي انترنت". رنت كلمة "حكي انترنت" في ذهني، وخصوصا
اني كنت قد اخترت عنوانا لزاويتي في الانشاء "حكي جرايد". اعتبرت لحظة
سماعي هذه العبارة لحظة جليلة، فأنا لاوّل مرة اسمع عبارة " حكي انترنت"
بالدلالة التي كانت تضمرها "حكي جرايد". وكتبت مقالا بعنوان" لا
تلعن الانترنت"، ومن وحي" لا تلعن الانترنت" خطر ببالي احتمال
تسمية الكتاب بـ"لا تلعن لغتك".
ذهب العنوان المحتمل " لا تلعن لغتك"، وبقيت
اللعنة كمقطع من عنوان محتمل، وكلمة "اللعنة" بوجودها في كتاب عن اللغة
يستدعي حضور "بابل"، وهكذا شعرت ان العنوان صار جاهزا ومقبولا ويحمل
دلالات لغوية متعددة، وهو:" لعنة بابل".
لعنة بابل هي التعدّد اللغويّ بعد الوحدة اللغوية.
ولكن هل التعددية لعنة؟ إن التعددية "لعنة"
بحسب سفر التكوين. ولكن هناك وجهة نظر اخرى ايضا، يضمرها قول في القرآن الكريم.
حين كنت أعلن لبعض الزملاء عن الاسم المقترح لكتابي كانوا يريّثون في التعليق، فكلمة "
لعنة" سيئة السمعة، ومرعبة، وملعونة! وكان البعض يقول لي: كلمة لعنة في
العنوان قد تنفّر القارىء، ولكن كنت أشعر أنّ العنوان يلائم جوهر الكتاب. ولكن ليس
في المقالات الستين واحدة تحمل عنوان "لعنة بابل"، وإن كانت فكرة بابل
موجودة في المقال الأخير" كلام الخرسان". ولهذا السبب وجدت انه من المناسب
بدء الكتاب بوضع إضاءتين: الأولى من القرآن الكريم، والثانية من سفر التكوين
التوراتيّ، والإضاءتان بمثابة جسر يربط
بين عنوان الكتاب ومقالاته اللغوية.
فالكتاب يتناول مجموعة من اللغات من وجهة نظري الشخصية،
اي ان التعددية اللغوية من صلب الكتاب، فهناك مقالات تتناول اللغة العبريّة،
والتركيّة، والكوريّة، والصينيّة، والفارسيّة، والفرنسيّة، وبالتأكيد اللغة
العربية التي نظرت الى اللغات الأخرى بعيونها.
وإن كان العنوان يحمل مفردة " اللعنة " الاّ
أنّ مضامين المقالات تحمل فكرة ترحّب بالتعددية اللغويّة وتعتبرها بركة ونعمة.
ولكن كم من نعمة انقبلت لغباء القيّمين عليها إلى لعنة!
وفي عالمنا العربيّ ما أكثر النعم التي تحوّلت لعنات.
فالنفط العربيّ نعمة من حيث ما يحمله من إمكانات تنمويّة مذهلة ، ولكن أنهي في
صيغة تساؤل : هل النعمة النفطية نعمة أم لعنة؟
بلال عبد
الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق