اللغات
رأسها ليس يابساً. وبالها طويل، وتحب المسايرة، وتدير بالها على جيرانها، واحيانا
تضحي بنفسها كرمى عيون الجيران. سأعطي مثالا واحدا من اللغة العربية وهو ما يسمّى
( اصطلاحاً ) بالمماثلة الصوتية.
لغتنا
العربية لغة نورانية، تحبّ الضوء لهذا قسمنا حروفنا الى حروف شمسية وحروف قمرية.
حروف كالشمس وحروف كالقمر، اختيار الكلمات ليس عبثيا. احب جدّا هذا التقسيم
الحرفيّ لأبجديتنا. تقسيم استعان بأشعة الشمس وضوء القمر لتبيان هويّته المشعّة.
حين
اكتب الشمس لا انطق ما كتبت، واذا نطقت ما كتبت يضحك عليّ من يعرف اصول النطق
العربيّ " الشمس" لا تخرج من فمي " الشمش" وانما تخرج "
أشْشَمس". اللام المكتوبة لام لا وجود صوتيا لها ، تتنازل عن حضورها الصوتي
لجارتها الشين، تتماهى معها، تصير هي هي. هنا اللام لها حضور صوريّ فقط ، اما
اللام نفسها تبقى بجوار القمر لا تتنازل عن حقّها الصوتي فنقول " القمر"
ولا نقول "أقْقَمر" مثلا.
وهكذا
نجد ان " الـ التعريف" ليست " الـ" دائما فهي أحيانا "
أش" التعريف واحيانا " أت" التعريف كما في " التصوير"
فلا انطق التصوير وانما " أتتصوير".
حكمة اللغة
ثمّة من لا يحبّ أن يرى
لأنّه يخاف على عينيه من الاثم والشطحات.بالنسبة لي احبّ ان ارى في اللغة حكيما
جليلا مهيبا ، عجن الدنيا وخبزها، أتخيلها شيخا جليلا ، وأحيانا اتخيلها شهرزاد
بخلاف جوهريّ وهو ان شهرزاد انتهت حكايتها في الليلة الأولى بعد الألف. واحيانا
اتخيل شهرزاد تقعد حدّي ونستمع معا الى الحكايات التي تخرج من بين شفتي اللغة. تتشكّل
اللغة من أحاديات وثنائيات وثلاثيات.
ومن ثنائيات اللغات ما يعرف
بالصوامت والصوائت او بالـ consonne وال voyelle أو كما
نعرفه في العربية تحت مسمّى الحروف والحركات. إذا جئت الى اللغة العربية واطلعت
على نقطة واحدة من نقاط اللغة فيما يخصّ الحروف والحركات، أجد ما يلي: الحركات
اقلّ من الحروف. فالحركات في العربيّة ستّ لا ثلاث بخلاف الشائع.
فالفتحة حركة ولكن الفتحة
في الواقع ليست فتحة بلا صفة. انها فتحة قصيرة، لأن الألف التي اراها في كلمة " سافر" مثلا هي فتحة قصيرة. سأحكي
هنا فقط عن العدد، عدد الحروف وعدد الحركات الشائعة اي الفتحة والضمة والكسرة.
ماذا استنتج ؟
استنتج بكل بساطة ان
الحركات أقل بكثير من الحروف، اي ان الحركات تنتسب الى الاقليات الصوتية، كما حال
الاقليات العرقية والدينية في الدول التي
تتواجد فيها. هل يمكنني ان اتعامل مع الاقليات كما اتعامل مع الحركات؟هل بوسع
خيالي ان يستوعب أنّ الاقليات حركات؟ وماذا يحدث اذا لم يستوعب؟
الاقليات الصوتية اي الفتحة
والضمة والكسرة هي الاقليات العرقية والدينية والسياسية في الشعوب.اللغة بلا هذه
الاقليات تموت. اعطني لغة واحدة في العالم تعيش بلا حركات، بلا فتحة أو ضمّة أو
كسرة؟ العرب كانوا رائعين حين سموا الحركات حركات، لأن الحركات هي التي تحرّك
اللغة. فالحركة ، كما في الأمثال، بركة.
هكذا الاقليات في بلادي،
الأكثرية هي الأبجدية، ولكن كلّ الاقليات هي حركات اللغة هي فتحة المجتمع وضمته
وكسرته. اللغات تعيش ببركات الحركات. الاقليات في بلادنا نعمة الهية. هكذا ارى
اقليات بلاد العرب.اللغة درس في الحكمة.
ما وراء اللغة والأشياء
أحب أن أرى في اللغة شيئا
غير اللغة. فنحن لا نرى الاشياء دائما حين نراها وانما نرى فيها اشياء أخرى ونرى
من خلالها اشياء أخرى. هكذا يتعامل الانسان مع الاشياء كلّها، انتبه ام لم ينتبه، الكبار
والصغار على السواء.
سأعطي مثالا صغيرا من طقوس
اطفال المسلمين الصغار، ليس كل الاطفال طبعا، ولكن قناعات الصغير قطفها من افواه
الكبار . فالصغار لا ينزل عليهم الوحي من السماء. أروي، في الأقل، ما كنت قد سمعته
وأنا صغير.
حكاية " نواة"
التمر التي نسميها في العامية باسم " العجوة". كنت اسمع من يقول : ان من
يحتفظ بعجوة من عجوات تمر الحجّ في جيبه لا يأتيه الفقر، ينعم ببركة عجوة آتية من
بلاد الخير والبركة. كان حصول طفل على عجوة من تمر الحج فرحة صغيرة في جيبه
الصغيرة. هل كان الطفل يرى في العجوة عجوةً أم كان يراها " حبّة
البركة"؟ وما أدراك ما حبّة البركة!
انتقل من عجوة التمر الى
عجوة المشمش. هل عجوة المشمش عجوة مشمش أم صفاّرة؟
كنّا ونحن صغار نأتي بعجوة
المشمش ونبرد بطنها وظهرها على الحائط أو طرف رصيف حتّى نثقبهما ثمّ نأتي بشكّلة
شعر او ما يقوم مقامها لاستخراج لب العجوة ورميه او اكل فتاته ان لم يكن عجوا مرّا
، وهكذا تتحول عجوة المشمش بين شفاهنا صفّارة نلعب بها. هل العجوة هنا عجوة أم
صفارة؟ الأشياء كلّ الأشياء لعبة بين يدي رغباتنا اذا رأيناها لعبة.
التاء تاءان
التاء
لعوب، فهي مصابة بانفصام في الشخصية لوجود شكلين لها: تاء طويلة وتاء قصيرة،
وتحتاج الى طبيب نحويّ متخصص في علم اللغة النفسي! والتاء القصيرة تنفصل عن التاء
الطويلة وتقطع علاقتها الصوتية معها كليا في الحالات العامية. وسأعطي مثالاً، اضعه
تحت العبارة التالية:
التاء
القصيرة هي كسرة، التاء القصيرة هي فتحة، التاء القصيرة هي هاء. وسأعطي أمثلة
لتراها بأمّ عينك وتسمعها بصوتك اذا احببت.( ما اقوله لا ينطبق على كل العاميّات
واللهجات). فتاة اسمها فاطمة ولكن اسمها يخرج من الفم ( فاطْمِي) 1- التاء هنا
تحوّلت الى ياء او كسرة طويلة، وين رايحة؟ تسمعها ( وين رايحا) 2- التاء المربوطة،
هنا، تحولت بسحر ساحر صوتيّ الى ألف، والالف هي فتحة طويلة. والسبب في ذلك هو
الدور الذي ، خفيةً، الهاء، فالهاء مثل قائد اوركسترا تحرك بعصاها افواه الناطقين.
ان
التاء تتحول ، في آخر الكلمة، الى هاء السكت. والهاء، في علم الأصوت، حرف رخو يميل
طوراً الى الألف وطوراً الى الياء.
الكسرة والياء
بين
الكسرة والياء يطيش صواب لوحة المفاتيح ممّا تتلقّاه من أصابع الكاتبين. يكتب شخص
ما تعليقاً على "تغريدة" في موقع التواصل الاجتماعيّ " تويتر"
كتبته فتاة فيقول لها مثلاً: "أحسنتي"، ثمّ يتابع كلامه بالفصحى. فمن
أين اتت هذه الياء التي ليست من صلب الفصحى؟ أتت من بطن الكسرة الملفوظة وغير
المرئية. الحركات في اللغات السامية خجولة لا تحبّ الظهور، تتوارى، لا تكلمك الاّ
من وراء حجاب أغلب الاحيان.
يظنّ
الناطق ان الكسرة ياء فيضعها ولا ينتبه ان الياء هي عمليا كسرتان لا كسرة واحدة. التمييز
بين الكسرة والياء يصعب على الصغار في المدارس، وتعجبني جدا رحلتهم من الياء الى
الكسرة، وهي رحلة تكتشفها اصابعهم شيئا فشيئا بفضل آذانهم. فما يميّز بين الاثنين
هو المدّة الزمنية الفاصلة بين الاثنتين.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق