الهمزة حرف يحبّ اللعب بأصابع الناس، ويحترف إرباك
الأذهان، يطيش من متطلّباته النزقة رأس القلم، ربّما لأنّ الهمزة من قماشة الزعماء
تحبّ الكراسيّ والفخفخة (والفخفخة فخّ مضاعف!) فهي طوراً تجلس على عرش الياء، وطوراً تمدّ
رجليها فوق كرسيّ الواو، وأحياناً لا يطيب لها أن تتمدّد الاّ على رأس حرف الألف.
كان الخليل بن أحمد الفراهيديّ لا يحبّ الكراسي ولا يميل
إلى تسنّم المناصب التي يسيل لها اللعاب، فزهده وصغر الدنيا في عينيه معروف. كانت
تغيظه هذه الهمزة المتبجّحة، المراهقة فقرّر حين قام بتأليف معجم العين، ان يسقطها
من حسابه، لم يحبّها لذبذبتها وتلوّنها. كان من حقّ معجمه بناءً للمنهاج الذي
اعتمده ان يكون "معجم الهمزة" لا "معجم العين"، أي أن يبتدىء
بها لا بالعين، الاّ انه قرّر معاقبتها علّها تستيقظ من غفلتها النرجسيّة فنقلها
من الصفّ الأوّل الى الصفّ الثالث بعد العين والحاء، وحجتّه في ذلك، "
هوائيّتها" وانّها تحبّ الكرّ والفرّ، ويستهويها التخفّي.
ولكن من يتأمّل لسانه لا بدّ له من أن يشفق على هذه
الهمزة التي يسقطها اللسان من حسابه في أوقات كثيرة. في علم الأصوات هناك ما يعرف
بتليين الهمزة أو تسهيلها، وتليين الهمزة تعبير ملطّف ومخفّف لما يعترضها من تبديل
ّأو إسقاط. وحول هذه النقطة أبيات شعر كثيرة، منها ما ورد في كتاب " الدرر اللوامع " لابن بري:
القــــول فــــي التحـــقيق والتســـهيل للهمـــــــز
والإســــــــقاط والتبـــــــديل
والهمــــز فــــي النطــــق بـــه تكـــلّف فســـــــــهلّوه
تـــــــــارة وحـــــــــذفوا
فالكراسيّ التي تعتمد عليها الهمزة تتمرّد عليها وتلفظها
بعيدا عنها، وبقدرة قادر تقوم الكرسيّ مقام الهمزة، فكلمة " بئر" على
سبيل المثال التي تعتمد في الكتابة على كرسيّ الياء تتحوّل الى " بير"،
تختفي الهمزة لصالح الياء. وفي كلمة" رأس" نجد أنّ الألف خلعت الهمزة
بعيداً وصارت تلفظ " راس"، وكذلك تفعل الواو بها، تطردها وتحلّ محلّها،
كما في كلمة "لولو" التي هي في الأصل "لؤلؤ". وفي التعبير
العاميّ، حين تجيء متطرّفة تسقط من اعتبار اللسان فالـ"السماء الزرقاء"
تصير في الاستعمال "سما زرقا".
ولعلّها انتقاماً لشرفها الذي مرّغه الخليل بوحل الاهمال
والاسقاط راحت تذيق اصابع الطلاب والكتّاب ألوان الارتباك، وتضع أمام أقلامهم
العراقيل. ورغم كلّ فظاظتها فهناك من يحبّها، يحبّ غنجها، وألاعيبها، وقفزها
البهلوانيّ على الحبال. وهنا أشير الى "كتاب الهمزة" الصادر عن دار
الجديد في بيروت للصديقة رشا الأمير، حيث نرى الهمزة تنطّ وتلعب كطفل صغير، مشاغب،
ولكن مشاغباته مهضومة. ومن طريق هذا الكتاب يمكن للطالب الصغير، في المدارس
الابتدائيّة، أن يتعلّم كيف يتعامل مع هذه الهمزة المزاجيّة والمتطلّبة.
والهمزة تحبّ النميمة، وتحبّ الحكي!
فمن يفتح القاموس العربيّ على جذر" همز" يظنّ
انه فتح وكر دبابير ووكر حكايات. ولقدت وردت كلمة من هذا الجذر في آية قرآنية لا
تخلو من تنديد بكلّ همّاز، لمّاز، تقول الآية الكريمة:" ويل لكلّ هُمَزة لُمَزة"،
ووزن " فُعَلَة" الذي انسكب فيه الجذر يعني المبالغة في الشيء.
ولكن لا يُخاف على الهمزة، فهي تحسن تدبير شؤونها، وتعرف
كيف تسحب الشعرة من العجين، فمن ينتبه اليها يكتشف انها تقوم بوظيفتين، من خلال
اسمَيْها او وظيفتيها، فهي همزة قطع حيث يجب قطع العلاقات وهمزة وصل حيث يكون
للوصل فائدة ترجى. ولا تختلف طبيعة الهمزة عن طبيعة البلاغة. للبلاغة تعريفات
كثيرة، ومن جملة هذه التعريفات:" البلاغة هي معرفة الفصل من الوصل"،
والفصل قطع. ولأنّ للهمزة مقدرة بلاغيّة فهي تعرف أن تخلّص حالها. ولا أدري ما الذي
فعلته همزة الوصل في حياتها الجميلة حتى لا يكون لها حضور على لوحة مفاتيح
الحاسوب، فأنت إن أردت وضع علامة همزة الوصل عليك ان تلفّ وتدور في مخّ الحاسوب
حتى تعثر على علامتها في باب الرموز.
ولا بدّ أيضا من ذكر دورها في اصطياد أجوبة كثيرة، فهي
لم تدخل اللغة من باب واحد وهو باب الصرف، وإنّما ولجت عالم النحو أيضا من باب
الاستفهام(والسؤال مفتاح المعرفة!) ومن باب المنادى للقريب.
وهنا تثأر الهمزة الماكرة لنفسها من الخليل بن أحمد
الفراهيديّ باستعادتها لحقّ الصدارة الذي سلبها إيّاه الفراهيديّ!
زَحْفَطَة
وزَحْفَطون
لم أفهم معنى هذه الكلمة يوم سمعتها في أوّل مرّة. وهي ليست،
الى الآن، كثيرة الشيوع على الأفواه، فيما أظنّ. ولم أكن اعرف من قام بإدخالها الى
اللغة العربية، وتحت اي ظرف، ولست ادري ان كانت من الكلمات التي اعترف بها المعجم،
فالمعجم يتدّلل على كلمات كثيرة، ويعاند فتح الأبواب أمام كثير من الكلمات، ولا
يعجبه العجب، ولكن لهذه الكلمة حضور مرحّب به في " غوغل" الديمقراطيّ إلى
أقصى حدود الديمقراطية، وسوف تعثر وأنت تتجوّل في أرجاء غوغل على تعريفات له بسيطة
وحادّة الملامح.
سوف تعرف أنّ هذه الكلمة المنحوتة لم تخرج من فم كاتب
عاديّ، بل من كاتب قصص وروايات بديعة، ومن قلم ناقد جريء وصاحب طرفة عفوية تنبت من
شفتيه دون تعمّل، انه سعيد تقيّ الدين، وهو من الكتاب البارعين في نحت الكلام،
واختراعه لمآرب فنية، وماهر في دمج كلمتين دمجا كيميائياً بديعاً. واسم من يحبّ
الزحفطة كما يقول الراحل تقي الدين:"زحفطون" وهو مصطلح أطلقه الكاتب على
المتملقين. والزحفطون هو اختصار للـ"زاحف على بطنه" تكسباً وتملّقاً!
واللغة العربية لا تبخل بهكذا اشتقاقات، فالجذر الرباعيّ
لا يزال ارضاً بوراً ولكنّها قابلة للاستصلاح. الجذر الرباعيّ أشبه بصحراء تتخللّها
واحات، ولكن يمكن لمن يرغب أن يعزّز حضور هذه الواحات. وتخضير الصحراء ليس بمستبعد،
وها نحن نرى بأمّ العين تحوّلات الخليج الصحراويّ الى واحات وبساتين وميادين تلعب
في ارجائها الخضرة.
وتقيّ الدين أحد هؤلاء الذين لديهم مقدرة على توليد
الرباعيّات من الثلاثيات . ففعل "زحفط"
وليد اتصال حميم بين فعل " زحف" وفعل " بطن". أخذ فعل الزحف
بكليته واستعان بحرف الطاء من البطن فأنتج " زحفط" وأعطاه دلالة لاسعة:
" الزحف على البطون" ليس في المعسكرات حيث يتدرب العسكريّ على الزحف تحت
الاسلاك الشائكة لغايات أمنية، وانما من زحف الناس لغير ما مبرّر على الزحف على
البطون تقرّباً من ذي سلطان أو مكنة أو أملاً بحظوة موعودة، ويروحون يكيلون له
المديح كيلاً، وإن عجزت اصواتهم عن الصياح استعانوا بفوّهات بنادقهم مثلاً للتعبير
عن فرح تحته زحف، واعجاب تحته ولع بما في الجيوب، وقد يستعينون بأوراق الصحف، وصدر
الصحف رحب، وواسع الذمّة أحيانا! أو يطلّون من الشاشات ويهللون ويعلّلون بالحجج
المنطقية والعقل الديكارتيّ انّهم صادقون ويقولون ما به يشعرون.
وللزحفطون مترادفات وتعابير أخرى، فهو من " يمسح
الجوخ" أو " يلحس الأحذية"، أو يشتغل مبيّضاً في عالم الوجوه والأقنعة.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق