الجمعة، 11 أغسطس 2017

رتـْق الذاكرة وفحولة اللسان من مقالات كتاب #لعنة_بابل

لعنة بابل



الإنسان ذاكرة، ذهابها يحيله أشلاء إنسان. وكيف لا يحيله أشلاء إنسان وهو حين يفقدها يفقد صلته بذاته وحياته قبل فقده صلته بالآخرين؟ وما من ذاكرة إلاّ وتمكر بصاحبها مكر مخالب الهرّ بذعر الفأر. ولكن لا يمكن للإنسان أن يستسلم لمكر الذاكرة فراح يعمل على  نسخ محتوياتها حتى إذا ما نفرت منه يستعيدها عن طريق الكتاب والكتابة.

الكتابة، لغوياً، هي رتق الذاكرة المفتوقة. هذا ما تقوله اللغة العربية نفسها من خلال طبيعتها الاشتقاقيّة. ومن حسنات اللغة أنها لا تكذب وإن استُعملت، أحياناً، من قبل مستخدميها لتلفيق الكذب.( ثمّة عبارة عربية مأثورة في كتب البلاغة تربط بين الشعر والكذب فتقول: أعذب الشعر "أكذبه"!) وهذا ما دفع هايدغر الفيلسوف الألمانيّ  الوجودي  تخلّصاً من " مائيتها"، و "هوائيتها" و" حربائيّتها" إلى إطلاق لقب "المخادع" على مستعملها قائلاً:" نحن لا نستعمل اللغة لنعبّر عن أفكارنا وإنّما لإخفائها" أو طمس المقاصد الخفيّة أو خداع سامعيها للإيقاع بهم. ولكن هذه حكاية أخرى.

كيف ترتق الكتابة الذاكرة؟ الكتابة نفسها تعني، من جملة دلالاتها، الرتق ولمّ شمل ما تفرّق؟ كيف؟ الرتق بالخيط، والكتابة خياطة وتطريز ( بالمناسبة كلمات "الحقل المعجميّ للخياطة" في النقد الأدبي القديم عديدة، وطالما تعجبت من كثرة مفردات الخياطة على أسلات أقلام الكتّاب، فالكتابة وشْي وتطريز وحبْك، ونقول نسيج النصّ، ونقول "نسج" الشاعر قصيدته على "منوال"... وللـ"نول" صلة عضوية بالحياكة، ولا تخلو الحياكة من قربى صوتية مع الحكاية!).

الأصوات اللغويّة تتبادل الأدوار أحياناً. يحلّ حرف مطرح حرف، في اللغة العربية، يكفي فتح أيّ كتاب عن "الإبدال الصوتي" ككتاب "الإبدال" للّغويّ ابن السكّيت، مثلاً، لترى ما يثير الفتنة. وما كلامي هنا الا ابن شرعيّ، فيما أظنّ! لهذه الفتنة اللغويّة إذ قرأت أنّ "كتب" و"قطب" هما، في الأصل، جذر واحد. وبفعل الجغرافيا التي تلعب بأفواه الناس ومخارج أصواتهم وصفاتها نبتت (كَتَبَ) من "ضلع" (قطب) كما نبتت  حوّاء من ضلع آدم. وفعل "قطب" يعني إعادة الوصل بين منفصلين بفعل التمزق والفتوق. نرتق القميص الممزّق او المفتوق. نستعمل الخيط والإبرة لنقطب ونرتق الفتق. وما من أحد حصيف إلاّ ويحلم بمعرفة "القطبة المخفية" للأشياء!

ما هو النسيان؟ تسرب معلومة من فتوق الذاكرة تسرّب الماء من فروج الأصابع. كيف ننقذ معلومة أثيرة من ألاعيب النسيان؟ نلجأ إلى الكتابة أي إلى تقييد المعلومة، ويقول حديث شريف مأثور " قيّدوا العلم بالكتابة"، أي انّ الكتابة قيد يشلّ حركة النسيان. ومن هنا، كان "تقطيب" فتوق الذاكرة، ولكن بفعل دوران الزمان وحركات اللسان صارت الـ"طاء" تخرج من الفم كالـ "تاء"، وتحولت الـ"قاف" إلى "كاف"؟ ألا نسمع، اليوم، كيف تخرج "القاف" من  أفواه بعض الناس أقرب إلى صوت الـ"كاف"؟ وهكذا ولد فعل جديد، وما كان له أن يبصر النور لو كان لدى العرب يوم النطق به كتابة تقيّد حركات الأفواه، لأنّه كان سينبذ، سيرمى خارج أسوار المعاجم، ويعتبر لقيطاً، لا أم له ولا أب، وتستحقّ الكلمات اللقيطة في العربية الدرس والاحتضان ( هنا أحيل الى تشبيهي لولادة حواء من صلب آدم، اي لم تخرج من صلب أم ولا أب وانما( ويا للمفارقة الفردوسية! ) من صلب زوج.

وحين بدأ العرب بالتدوين أدخلوا هذا الخطأ النطقيّ في المعجم وأفردوا له قاعة خاصة ( مفتاح مادّة). وصار الخطأ النطقيّ كلمة لا غبار يشين دمها الأزرق.

وأخيرا أصل إلى سؤالي التالي: هل من علاقة بين الكتابة والممارسة الجنسية؟ لا أزال هنا أحوم حول الفكرة نفسها. كيف؟ إذا كانت الكتابة وسيلة لحفظ نسل الأفكار والذكريات ووووو… فالذكَر  بمعنى ( عضو الرجل) هو، بدوره، وسيلة لحفظ النسل و"الذكرى". الإبن ذكرى من ذَكَر أبيه. والذكرى تقاوم النسيان ( والنسيان نوع من أنواع الموت أو العدم) بالقدر نفسه الذي يحفظ فيه الولد ذكرى أبيه واسم أبيه.

هنا، أيضا تقاسم أدوار، بين الذكر والذاكرة. الذكَر يضع الانسان ( وهْماً) في صلب المستقبل. بينما الذاكرة تضع الماضي في صلب الحاضر، ومن ثمّ، لمن له حظّ بشيئ من الخلود المؤقت، تضعه في صلب المستقبل أيضاً.

الجاحظ، مثلا، ابن الماضي ولكنّه لا يزال بيننا بفضل شحم كلماته ولحم أفكاره، لا تزال كتاباته تتناسل في أرحام كتب اللأخرين (وهل مفهوم التناصّ Intertextualité يختلف عن التناسل النصّي؟)

وأقف عند النسل قائلاً: إنّ الكتاب من نسل الكاتب، كما ولده من نسله ( كان الجاحظ لا يفرّق بين الكتاب والولد) وهذا ما تقوله اللغة أيضاً، فأنا لا أحبّ أن أعصي اللغة، لا أحبّ العقوق اللغويّ، لأنه أشرس من العقوق "البنويّ" بالمفهوم الصيني، فعدم البرّ لا يختلف كثيراً، من منظور الحكيم الصينيّ كونفوشيوس، عن الكفر بمفهوم الثقافة الاسلامية.

وهنا أستعين برجل العربية الكبير ونظريته في التقليبات الصوتية، عنيت ابن جنّي، وهو بحقّ، جنّيّ لغويّ! إذ يرى أنّ "نسل" و"لسن" كما نرى لا يختلفان إلاّ بترتيب الحروف. وعليه، لا بدّ من وجود خيط دلاليّ واحد يجمع حبّات مفرداتهما. وهو جمع قام به العبقريّ اللغويّ الآخر الخليل بن أحمد الفراهيديّ في "معجم العين" إذ  لمّ شملهما في مدخل واحد. والجمع يغري بالجماع، والجماع ( قبل حبوب منع الحبل) كان يكثّر العدد. وهنا أيضا أذكر( من الذاكرة!) كيف أنّ بعض المستشرقين الفرنسيين كانوا يسمون جذر الكلمة أو حروفها الثلاثيّة بالرحم matrice ، وكنت أشعر بدهاء الفرنسيّ وهو يترجم الجذر اللغويّ أو الأصل اللغويّ إلى "رحم" ليؤكّد على أنثوية اللغة. ليتمّ، من ثمّ، التعادل بين "فحولة" الشاعر و"أنوثة" اللغة أو أنوثة القصيدة.

فاللغة العربية، من المنظور الفرنسي، لها رحم .وهي، أي اللغة العربية، من منظور الشاعر الفذّ أبي تمام، لها فرج عذراء. وهذا ما يقوله شاعر الاستعارات البعيدة بعظمة لسانه ( "العظمة" في اللغة العبرية تقوم  مقام كلمة "نفس" أو "ذات" في اللغة العربية) وهذا تبرير للتعبير العربيّ إذ ليس للسان عظم، فهو كتلة عضليّة يغيّر شكله كالعضو العضليّ الآخر الذي يغيّر، أيضاً، شكله بسبب خلوه من العظم لا من العضل! أي أنّ عضوَي النسل واللسن متشابهان، على الأقلّ، عضليّاً.

أنهي هذه العجالة ببيت أبي تمّام المثير للحيرة والتساؤل:

والشِّعْر فرْجٌ ليست خصيصتُه     طول الليالي إلاّ لمفترعه

هل تنفصل اللغة عن" الجنس"، وهي خصيصة من خصائص "الجنس" البشريّ؟

لن يقول بالانفصال بين اللغة والجنس إلاّ خصيّ أو عاقر أو ناكر لما تقوله اللغة العربيّة نفسها بلسانها وجذورها الثلاثيّة ومعاجمها الكبرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق