الجمعة، 11 أغسطس 2017

مكتبة أحمد بيضون ( مقال منقول)

باشرْتُ اقتناءَ الكتب قبل نيّفٍ ونصف قرن وأصبح عندي اليوم مكتبة ضخمة. ويصبح للكتب مقام استثنائي التصدّر بين مقتنيات واحدنا إذا اتّفق أنه من فئة الكتّاب أو المؤلفين وممن يزاولون من بين هؤلاء حرفة البحث، على الخصوصقد تُنسب الكتب، في هذه الحال، إلى لوازم المهنة. ولكن حاجة الباحث في القانون، مثلاً، إلى الكتب ومقامها عنده شيء مختلف عن حاجة محامٍ يَقْصُر همّه على إجادة الدفاع عن مصالح موكّليه. وفي كلّ حال، يفترض أن تبقى «المطالعة» التي كانت فاتحة الطريق إلى تكوين المكتبة مواكبةً لسائر الهموم التي تتدخّل في إنماء المقتنى من الكتب.
تواكب المطالعة تكوين الشخصية العَقَدية، خصوصاً، أي ارتسام الخطّ الفكري الذي يُدْرج المرء في جماعة معنوية أو وجهة انتمائية ويجعل له في الناس نظراء وأضداداً. وتواكب، على الأخصّ، كل انعطاف في هذا الخطّ يفترض البحث عن أسانيد وشواهد كثيراً ما تجبّ ما كان قبلها. وقد يتوزّع هذا بين حقول وهموم متباينة. وعلى غرار الخطّ الفكري، تتكوّن الذائقة بما هي طلبٌ للمتعة وللمعرفة اللانفعية وتروح تتحوّل ويُسْفِر نموّها عن فروعٍ ومراحل. وعليه تستوي المطالعة، بما هي شرطُ نضارةٍ ونَماءٍ، مَلوَنةً لمراحل العمر جميعاً وتتشكّل المكتبة مرآةً أو جسداً لهذه المَلْوَنة.
تستوقفني مكتبتي اليوم لأن شيئاً مقابلاً للكتب، هو الشبكة العنكبوتية بقضّها والقضيض، أخذ يلحّ علينا لاعتبار المكتبة ذات الرفوف ماضياً مضى. لا أظن، وقد أصبحت متقدّماً في العمر، أنني سأبلغ يوماً أعتبر فيه كتبي مقتنياتٍ مُتْحفية. وهذا مع العلم أنني ضالع أشدّ الضلوع في الممارسة الحاسوبية من عقد ونصف عقد. متردّداً أرتضي الوقوف اليوم والنظر إلى مكتبتي، بسببٍ من توزّعي بينها وبين الشبكة، وكأنها باتت على مبعدة
ما الذي أعدّه وصفاً مناسباً لرفيقة عمري هذه؟ أضيق أحياناً (ويضيق بيتي) بمهمّات إيواء الكتب وتصنيفها والعناية بها ولا يفوق هذا الضيق بالكتب سوى الضجر مما يقتضيه تنظيم الأوراق المحفوظة. ولكن يبقى أقْرَبُ ما يسعني قوله في المكتبة أنني أراها تجسيماً جيولوجياً لما يمكن أن أعتبره «طبقات» العمر. فحين رحت أغادر الماركسية، مثلاً، لم تلبث أعمال ماركس وإنجلز ولينين وسواهم من أضرابهم أن تدرّجت نحو الرفوف العليا، وهي جنّة الكتب التي يرجّح ألا نفتحها بعد اليوم: بالمعنى الذي يقال فيه أن الأسرّة جنّة الأطفال فلا ينبغي اصطحابهم إلى الأعراس!
في الموضع الذي أخلته تلك الكتب، أي في الصدارة، تجاورت أعمالٌ متعلقة بتاريخ لبنان وأخرى موزّعة بين الوجوه الجديدة في الفلسفة الفرنسية وأقاربهم في العلوم الاجتماعيةوأمّا كتب العربية التي جمعتها حين حاولت أن أَضْرِب بسَهْم في بعض مسائل اللغة والمعاجم، فهيّأت لها مصيراً آخر: بقيَت في المتناول ولكن لا أتناولهاأنساها آماداً طويلة ولكن أجدّد التعهّد لنفسي أن هذا الطلاق لن يصبح بائناً أبداً. أقلّ حظوةً من كتب اللغة، كتبٌ كنت أحتاج إليها (أو أتوقّع الاحتياج إليها) في سنوات التدريس المتمادية. هذه غادرت غرفة مكتبي إلى الرفوف التي في الممشى. والشيء نفسه حصل لكتب كثيرة كانت «مكتبات بحث» لهذا أو ذاك من تآليفي. السيرة التي وضعتها لرياض الصلح، مثلاً، تخلّفت منها رفوف عديدة مكتظّة يسعني، إذا شئت، أن أوزّع محمولاتها بين زوايا عدّة متباعدة من خزائن كتبي.
هذا ومن عيوبي أنني لا أستغني عمّا يصل إلى يدي من كتب سفيهة. أقول إن بعضاً من تآليفي وجد معظم مادّته في أعمالٍ لا تعدّ ذاتَ شأنٍ في أبوابها ولكن لا يستغنى عنها بما هي «أدلّة» و»عيّناتّ» ترشد إلى واقع الأحوال في قطاع اجتماعي أو معرفي. وهي، في أدائها هذه الوظيفة، أوفر دلالة، على التعميم، من مؤلّفات العباقرة. هكذا أجدني أداري ضيق شقتي البيروتية بالكتب الجديدة بترحيل السخيفة القديمة إلى منزلي الجبلي الذي استوى، قبل بضع سنوات، متنفّساً لمكتبتي. ولكن غلب على ما أنقله إليه مجاميع الدوريات وما أعدّه قليل القيمة من الكتب ومعها كتب تهدى إليّ ولا أقرأها وثالثة لا يًحْتمل أن أحتاج إليها في بحر السنة التي أمضيها في بيروت باستثناء الفصل القائظ.
الواجهات الزجاجية للكتب الجميلة الإخراج أو لتلك الرفيعة المقام، والخزائن ذات الأبواب الخشبية لتلك التي تجمع إلى قبح المظهر ضعف احتمال العودة إليها: الأطروحات خصوصاً! والرفوف المكشوفة للكتب التي يتعين بقاؤها في متناول اليد، والخزائن المسمّرة بالسقف لعوالم كتبية أمست خلفي، والجبل لمجموعات المجلات وللكتب السقيمة التي يجب الإبقاء عليها احتياطاً ولمُهْدَيات لم تُصبح مثار شهية ولأعمال أدبية تُستبعد العودة إليها بعد القراءة أو يؤمل التفرّغ لها في أماسي الصيف، إلخ، إلخ.
وما الذي قرأْتَه من هذه التآليف المؤلّفة كلّها يا بنيّ؟ اقتنيتُ كتباً قرأتها لغرضٍ كان يدعو إلى ذلك أو لوجه القراءة. واقتنيت أخرى لم أقرأ منها إلا صفحات أو سطوراً أمْلت قراءتها حاجةٌ ما. واقتنيت كتباً بدافع الشعور الغلاب أن عليّ أن أقراها ولكن حالت دون ذلك حوائل فزاد كلّ منها حسرة على حسرات. واقتنيت كتباً ألزمتني دواعي العمل بالسهر عليها ليالي طويلة ألخّصها وأدوّن ملاحظات وأفكاراً متصلة بها وما كنت لأَقْرُبها لولا دواعي العمل. ولا أعود إلى الهدايا وكان بعضها رائعاَ ولكن وقع في غير أوانه وكان بعضها الآخر رديئاً فتعذّر أن يقع في أوانه.
عليه تتخلل الرفوفَ حسراتٌ لا تُحْصى، متنوعةً البواعث، خَلّف بعضَها الإحجامُ وبعضُها خَلّفه الإقدام. ومن المُتَع، وهي كثيرة أيضاً، ومن الحسرات تكوّنَت كلّ طبقةٍ من طبقات العمر وتمثّلت في رفٍّ أو رفوف. ولكن المكتبة لا تستنفدها طبقاتُ العمر الجيولوجية بل فيها أيضاً مسالكُه وشِعابه وفيها مقاصيره وساحاته وفيها منابره ومخابئه. لذا يبدو الأقرب إلى وفائها حقَّها أن نَرى فيها شيئاً من قبيل شجرةِ الحياة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق