ثمّة رواية كتبها الأديب الصينيّ مو يان الحاصل على جائزة نوبل للآداب بعنوان "
الحلم والأوباش"، نقلها الى العربيّة الدكتور محسن فرجاني المتخصص في الأدب
الصيني. بطل الرواية طفل ليست حياته الا إعادة لما يراه في المنام. وفي
الوقت نفسه بعض مناماته كانت بنت اختياراته الشخصية. قبل ان يغمض عينيه يقرّر انه
سيفعل كذا وكذا من الأمور، وما إن يستغرق في النوم حتى يبدأ برؤية ما نوى رؤيته في
منامه. وفي يقظته يعرف مسبقاً كلّ تفاصيل الأحداث التي ستحصل معه. حياة بلا مفاجآت
سارّة او ضارّة. وتشكّل منامات الطفل السارد منعطفات سردية في الرواية، لكأن الواقع الذي يعيشه في مطارح كثيرة ليس الا
نسخة طبق الأصل لما يراه في غفواته.
عالم المنامات في الروايات الصينية له مذاق خاص يشبه
مذاق كرامات الصوفيين. وكنت قد تناولت في مقالات سابقة مجموعة من المنامات الصينية
، منها منام الفيلسوف الطاوي تشوانغ تزه zhuang zi الذي ظنّ نفسه فراشة تحلم أنّها
هو!
حديثي اليوم عن منام امبراطور صينيّ من سلالة تانغ tang!
ليس المطلوب منك أن تؤمن بالمنامات، ولكن هذا لا يغير من
أمر المنامات شيئا. هل تخلو حياة الكبار من منامات؟ ألم نجعل مفتاح الترجمة في
العربية مناماً رآه الخليفة المأمون فكان من مفعوله أن دخل أرسطو بفلسفته الإغريقية الى بهو اللغة العربية من بوّابة
المنامات الفسيح فولدت ثنائية العقل والنقل؟
ألم يكن الغرض الشعريّ المعروف بالمدائح النبوية هو ابن
منام رآه البوصيريّ ذات ليلة؟ ألم تكن مقامات الزمخشريّ هي بنت منام بحسب ما يقول
في فاتحتها؟ كانت المستشرقة الألمانية الراحلة ماري شيمل قد تناولت المنامات في الثقافية
الاسلامية بشقّيها العربيّ وغير العربيّ في كتابها الموسوعي " أحلام
الخليفة"، وهو كتاب شيّق ترينا فيه الدور الذي لعبته المنامات في تقرير مصير
عدد كبير من الكتّاب والفلاسفة والساسة وأهل الكرامات.
طرافة منام الامبراطور الصيني "صورية". كلّ
الشعوب تؤمن بالأرواح والأشباح. لا يخلو تراث شعب من أقاصيص ذات صلة مع العالم
الغيبيّ بأشباحه وأرواحه الهائمة. ولنا في تراثنا الجاهليّ مفهوم "الهامة"
العطشى التي تطالب بالثأر. في الشرق الأقصى عزّزت الديانات والفلسفات والروحانيات من
حضور عالم الأشباح . والأشباح تثير الذعر، فنحن نخاف من الموتى أكثر ممّا نخاف من الأحياء!
النوم بجوار المقابر يلعب بمضامين المنامات!( ما تنام بين القبور وتشوف منامات
وحشة).
رأى ذات يوم الإمبراطور
مينغ خوانغ ming huang مناماً غيّر مصير العبادات في الصين، وأضاف إليها شخصيّة مناميّة
ذات مفعول واقعيّ، وحضور روحانيّ!
ليس من السهل ان يولد من تضاعيف منام شخص لا وجود له،
شخص من طينة منامية محض. هذا الشخص هو
تشونغ قوي zhong kui. كنت قد تناولت، ذات مقال،
حكاية شخص عربي عشق فتاة رآها في منامه وهام بها دون أن يكون لها كيان من لحم ودم،
وهي قصة حقيقية رواها ابن حزم في كتابه طوق الحمامة.
هل تتخيل شخصاً هو ابن منامك يكون حارسك الأمين؟ هذا ما
حدث بشكل من الاشكال للإمبراطور الصينيّ. بعد عودة من حملة عسكرية اصيب الامبراطور
مينغ خوانغ بالحمّى، حمّى أشدّ حدّة من تلك
التي ذكرها المتنبّي في قصيدتة الميميّة الشهيرة:
ملومكما يجل عن الملام
ووقع فعاله فوق الكلام
والحمّى مسرح للهذيان والمنامات السورياليّة! فتراءى
للملك في المنام شخص في صورة شيطانية وسرق منه عوداً مصنوعاً من اليشب (حجر الجاد)،
وقارورة طيب تعود لخليلته، ولكن جاء شخص آخر في منامه، في الزيّ الذي يلبسه طلاب
الامتحانات الامبراطورية، وهجم على الشيطان اللصّ واستعاد منه المسروقات الثمينة
وأعادها للإمبراطور، ولم يكتف بهذا بل اقتلع عين الشيطان اللصّ وابتلعها وقام من
بعد ذلك بتقطيع بدن الشيطان اللصّ إربا إرباً وراح يلتهمه قطعة قطعة على مرأى من
الإمبراطور المذعور من عنف منامه .
بعد أن أنهى تشونغ قوي اللابس زيّ طلاب الامتحانات
الامبراطورية وجبته الشيطانيّة دنا من الامبراطور، وهدأ من روعه، وراح يروي له
حكاية انتحاره بسبب رسوبه في الامتحانات الامبراطورية في عهد الامبراطور وو ته wu de ، تأثّر
الإمبراطور لانتحاري، قال تشونغ قوي، فقرّر تكريم جثماني ودفني بما يليق وأحزاني. واعترافا
من جثماني بالجميل قرّرت ان أكرس حياتي بعد موتي لخدمة السلالة الشريفة.
قام الامبراطور من نومه وقد زالت عنه الحمّى، فقرّر
تكريم الطالب الذي انتحر ثمّ جاء بعد فترة من موته لينقذه من شيطان منامه، ومن
الحمّى التي كانت ترتع في عظامه!
استدعى الإمبراطور رسّام القصر، وطلب منه أن يرسم الطالب.
استغرب الرسام، كيف يرسم من لم يره؟ كيف يلقط ملامح وجهه، كيف يُخرج من سديم
المنامات كائنا من ألوان؟ قال له الملك: سأصفه لك كما رأيته في المنام. راح الرسام
يرسم صورة تشونغ قوي على وقع كلمات الإمبراطور وأوصافه ؟
وهكذا ولد تشونغ قوي من حلم امبراطور وفرشاة رسام. وبدأ
الرسامون يقومون برسم تشونغ قوي وتوزيع صوره على الصينيين كرمز أو أيقونة منامية تشفي
المرضى من أوجاعهم . وانتشرت صوره بالآلاف في ربوع الصين، ولا تزال الى اليوم في
الأعياد تعلق صورة هذا المخلوق المنامي على الجدران لطرد الاشباح الشريرة، أو توضع
تماثيله على الأرفف في البيوت لبثّ الرعب في نفوس الأشباح ذات النوايا الشرّيرة.
الشخصيات الخيالية كثيرة، ولا غنى عنها، هذا ما تقوله
لنا، في أي حال، افلام السينما بخلاف الشخصيات المنامية. يروي الرسام الصيني
المعاصر فان تزنغ انه عدل من ملامح تشونغ قوي، فنزع عنها الصورة الشبحية ، وأعطاها
الكثير من ملامح الصينيّ المعاصر.
يبدو ان الحياة لا تشترط دائماً أن يكون الحيّ من لحم
ودم!
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق