الثلاثاء، 15 أغسطس 2017

العلاج بالألوان


الإنسان يعيش في عالم من الألوان حتّى العميان ! لا يمكنك أن تمنع أثر الألوان عنهم أو عليهم، حقيقة لا مجازاً. وثمّة عدّة مؤلفات حول الصورة الشعرية عند الشعراء العميان، والصورة الشعرية اللونية تحديداً. الإنسان لغروره وطيشه يظنّ أنّه يعرف، وفي كل يوم يكتشف كم هو جاهل، وكم أنّه لا يعرف من جمل المعرفة إلاّ أذنه. ومن الممتع في اي حال دراسة رأي العميان بالألوان. فاللون لونان : لون علاقتي به ثقافية، ولون علاقتي به بيولوجية. يلتبس الأمر أحيانا على العين العجول فتظنّ الثقافيّ بيولوجيّا، أو تظنّ البيولوجيّ مسألة ثقافيّة.
كنت قد قرأت، ذات يوم، عن أعمى يعرف كيف يميّز بين الألوان! حين أروي حكايته يظنّ السامع أني أختلق الحكايات أو أنّي أتكلم عن الكرامات والمعجزات، رغم أن ما أقوله هو مسألة علمية محض، وبعض العلم له هيئة الأساطير، أو هيئة الخرافات.
كيف يستطيع أعمى أن يعرف اللون، والحاسة التي تتعامل مع الألوان هي حاسة النظر؟  هكذا يردّ عليّ أغلب من أكلمه عن ذلك الأعمى الماهر في معرفة الألوان. مشكلة هذا السؤال أنه لا يرى الأمور إلاّ من منظور واحد، والمنظور الواحد أيا كانت صوابيته هو عرضة للخطأ.
من المعروف ان خسارة حاسّة تغني بقية الحواسّ، وهذا ما اكتشفه مؤخرا وبشكل مدهش علم الأعصاب وخصوصا الفرع الذي يتناول ما يسمّى " لدونة الدماغ أو ليونة الدماغ". كيف بمقدور أعمى أن يعرف الألوان؟ عن طريق حاسّة اللمس! وحاسة اللمس فريدة من نوعها بين الحواس، ولكلّ حاسّة طاقات عجيبة غريبة. حاسة النظر مستقرها الرأس، وكذلك الأمر فيما يخصّ حاسة السمع، وحاسة الشمّ وحاسّة الذوق. وحدها تتفرّد حاسة المس بأنها منتشرة على سطح الجسد كلّه، لا توجد نقطة في ظاهر الجسد ليست بمنأى عن حاسة اللمس. وما أقوله أحيانا أن حاسّة اللمس قسمت  العالم الإسلامي قسمين، وذلك من خلال تفسير فعل " لامس" في القرآن الكريم. ويمكن لمن أحب أن يعود إلى كتب التفاسير ليرى هذا الانقسام اللمسيّ .
كيف كان الأعمى يتعامل لمسيّا مع الألوان؟  نقول عن الأعمى إنّه مرهف الأذن، سِمِّيع من طراز فريد. ولكن، فيما يبدو، ثمّة عميان لهم حاسة لمسية مذهلة. فاللون له علاقات مميزة ليس فقط مع العين وإنما أيضا مع اللمس. فاللون باعث حرارة، ولكلّ لون درجة حرارة مختلفة عن الثانية. كان ذلك الأعمى ذا مقدرة فذّة على معرفة اللون من حرارته، فما إن يضع يده على اللون حتّى يعلن بنجاح خلاّب اسمه. وما هو أغرب من ذلك ربّما أن البعض يسمع صوت اللون، ويعرف اللون من صوته. نحن نعرف أن في عالم المجاز تعبيرا دالا، وهو:" الألوان الصاخبة"، وصخب الألوان تعبير مقطوف من حقل الأصوات. أيمكن أن يكون للون صوت؟ هذا ما يقوله الكاتب جان غبريال غوس في كتابه " السلطان المدهش للألوان  l'étonnant pouvoir des couleurs" . كيف يمكن للمرء أن يسمع اللون؟ يقول الكاتب إنّ للون ذبذبات، والذبذبة حركة. ثمّة اليوم علاج بالألوان باستخدام البذبات اللونيّة. كما هناك موجة صوتية، هناك موجة لونيّة. والطريف علاقة المرء بالمعرفة المائية. فالموجة بنت البحر. والباحث عن المعرفة في الفضاء السيبرنيّ هو " بحّار" على ما تقول اللغة الإنكليزية. ليس هناك موجة خرساء. الأمواج ثرثارة، زبدها نصوص. فلا مفرّ من هدير أو خرير! والحواس تتبادل الأدوار، وكان ابن الفارض سلطان العاشقين قد كتب عن ذلك في لحظة كشف مذهلة عددا من الأبيات هي جواب شعري، وجواب صوفي، ولكن العلم ، فيما يبدو، قد أثبت ما قاله ابن الفارض في الأبيات التالية:
عيني ناجت، واللسان مشاهدٌ،
وينطق منّي السمعُ، واليدُ أصغتِ
وسمْعي عينٌ تجتلي كلَّ ما بدا،
وعيني سمْع، إن شدا القومُ تنصتِ
كذاك يدي عين ترى كلّ ما بدا،
وعيني يدٌ مبسوطةٌ عند بسْطتي
وسمعي لسانٌ في مخاطبتي، كذا
لساني، في إصغائه، سَمْعُ مُنْصتِ.
فذلك الشخص الذي يسمع الألوان، كان قد وُضع في مكان يتعذّر عليه فيه رؤية الألوان ، ولكن ما هي الا هنيهات حتى يكتشف اللون، عن طريق صوته. قلت ان اللون موجة أي حركة، ولا تخلو حركة من صوت. كان ابن سينا قد لخّص مصدر الصوت في عبارة واحدة، قال: "الصوت وليد القلع والقرع". والقلع حركة مثلما القرع! ولكلّ لون طول موجة مختلف عن الألوان الأخرى. وكان من طول الموجة يعرف اللون، ويسمع صوته تماما كما يسمع الموجة الصوتية!
اللون عالم مفتوح على كل مناحي الحياة الإنسانيّة. والعلماء ، اليوم، يحاولون اكتشاف دور الألوان في حياة الانسان النفسية والعقلية والجسدية. يدرسون الدور الذي يمكن أن يؤديه في المدارس. وبعض المدارس في ألمانيا قامت بتجارب متعددة حول قدرة اللون على رفع مستوى التعليم، ورفع مستوى الاستيعاب لدى الطلاب، فللألوان علاقة مذهلة مع الذاكرة!
المدارس عادة تخصص لكل مرحلة تعليمية قاعة واحدة من أول العام الدراسي إلى آخره. حاول بعض علماء التربية تبيان خطورة ذلك على مستوى التعليم نفسه. راحوا يدرسون عيوب القاعة الواحدة عيبا عيبا، وخصوصا في الصفوف الابتدائية. أوّل العيوب هو الرتابة، فأن تقعد في مكان واحد على امتداد ساعات وساعات مجلبة للكآبة والرتابة معا. والطفل ملول، والقاعة تغريه بالملل! ، العيب الثاني هو انك تتعامل مع كل المواد التعليمية معاملة واحدة، لأنّك تضعها كلّها في صفّ واحد. والصفّ الواحد ذو لون واحد. وأمزجة المواد اللونية مختلفة، فاللون المفضل للرياضيات هو غير اللون المفضّل للغات، وهو غير اللون المفضّل للفيزياء أو الكيمياء. راح العلماء يبحثون عن معرفة المزاج اللونيّ للمواد العلمية، واقترحوا ان يتنقل الطالب خلال اليوم الواحد من قاعة إلى أخرى تبعا للمادّة المنوي تدريسها. فهناك القاعة ذات اللون الأزرق، والقاعة ذات اللون الاخضر المصفرّ، والقاعة ذات اللون الزهريّ، والقاعة ذات اللون البرتقالي، كما استبعدوا كليا الألوان البيضاء والسوداء والبنية لأنها ألوان محبطة للأطفال، ومثبطة للهمم!  كانت نتيجة التطبيق تحسّن مستوى استيعاب الطلاّب للموادّ وتحسّن سلوكهم الاجتماعيّ.
وما يقال عن الأطفال لونيّا يمكن أن يقال أيضا عن النبات والحيوان، فللنباتات ألوانها المفضلة وكذلك للحيوانات. ولقد اكتشف أحد الباحثين ولع النبات باللون الأحمر إذ وضع عددا من النباتات المتشابهة تحت أضواء مختلفة الألوان فتبيّن له أن النباتات التي عاشت تحت الأضواء الحمراء نمت بشكل أسرع من غيرها، وطالت سيقانها أكثر من زميلاتها، وتفتحت براعمها عن أزهار أجمل!
بلال عبد الهادي




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق