الاثنين، 30 مارس 2015

القتل على الناعم




أخبرني صديق ولوع باصطياد الحكايات الغريبة حكاية عن رجل "فاحش" الثراء, ونادراً ما خلا ثراء من فحش! يجتمع، كلّ مساء، مع نخبة من الأصدقاء في قصره المنيف للسهر والسمر. ولكنّ أحد الأصدقاء لم يحترم حرمة الصداقة ولا "حرمة" صديقه, فضربت عينه على زوجة من فتح له باب قلبه وقصره, وفتن بها, فراح يغري ويغوي من وراء ظهر الصديق على أمل أن يقطف ثمرة شهية من الشجرة المحرّمة.

 انتبهت الزوجة إلى ألاعيب الصديق, نقز قلبها منه, لم يخطر ببالها أن تبادله إغواء بإغواء, إلا أنّها خافت من ألاعيب الفتنة وأحابيلها. فهي تحبّ زوجها ولا تفكّر في تدنيس سمعته أو تدنيس جسدها. طلبت من زوجها أن يبطل عادة السهر في البيت, ويذهب مع أصدقائه إلى أيّ مقهى أو مكان, فأرض الله واسعة, وأماكن السهر غير محصورة بجدران البيت حتى ولو كان قصرا. لم ينتبه الزوج إلى المقصد الخفيّ للزوجة, وهو, في أي حال, مقصد بريء تريد أن تحمي به نفسها من وسوسات الشيطان. كلّ ما أرادته هو أن تطفىء الغواية المنتفضة في عينيّ صديقه, وتخرجه من بيتها بطريقة لا تثير الشبهات. وللمرأة مهارة لا يملكها الرجل في قراءة لغة العين, والحركات, والإشارات. المرأة مدرسة في لغة العيون، ويقال أن الحياة الانسانيّة وليدة عيني المرأة، فهما وسيلة التواصل الوحيدة، في البدايات، بينها وبين وليدها. اعترض الزوج على رغبتها وانتفض لذكوريّته التي لا تقبل أن يمسّها لسان امرأة فرفض تغيير عادته. قال لها: بإمكانك أن تذهبي إلى الجناح الآخر من البيت هرباً من صخب السهر وقهقهات الفرح. الصديق لم ييأس من المحاولة, رغم الرفض الصريح، ظلّ يغري ويغري إلى أن وقعت الزوجة، في الأخير، فريسة نزق عابر.

 صار الصديق يتحيّن فرص غياب الزوج من القصر لاختلاس المتع والملذّات, ولكن كلّ لذّة تنهزم في الأخير. عاد الزوج ذات مرّة على حين غرّة إلى البيت وعن غير قصد كما حدث مع شهريار ومع شقيقه شاه زمان في بداية  حكايات "ألف ليلة وليلة", وشاهد الخيانة، في عقر فراشه، بالبثّ الحيّ. لم تزغ عيناه, أو تغبرّ دنياه, لم ينتفض, لم يثر, لم تظهر على تعابير وجهه علامات الغضب أو الانكسار, امتلك زمام جنونه وجراحه. لم يستعمل وسائل سلفه شهريار في الانتقام. وإنّما طلب من الصديق الغادر وبأعصاب باردة كالثلج مغادرة المكان, وان يتوارى عن الأنظار إن كان يريد لروحه أن تنجو بجلدها,  بينما طلب من زوجته أن تظلّ في البيت, فالبيت بيتها وسيبقى, إلا انه لن يسكن معها, ولن يتلاقيا. انتهت العلاقة، ولكنّه لن يجرّدها من المكان ولن يحرمها من الأولاد أو النفقة.

 تركها وسكن وحده, ولكنه استمرّ في معاملة زوجته بمنتهى الرقّة واللطف. ظلّ مصروفها يصلها في وقته وفوقه حبّة مسك. وكان ينتهز المناسبات والأعياد ليرسل لها الهدايا كما في أيّام الوئام, لم يقصّر معها في كل ما له علاقة بالرخاء المادّي، المرأة لم تفهم تصرّف زوجها. ارتبكت أفكارها، تزعزعت يقينيّاتها. أيّة مكافأة لها بعد ان قلبت حياته ونغّصت أيامه  وجرحت كبرياءه في الصميم؟ راحت تطلب المغفرة منه, كانت المغفرة تطلع من قلبها, ومن أعماق روحها المكسورة والتائبة إلا انه ظلّ متشبّثا بقراره الأوّل وهو الفراق، لا لقاء، لا تظرة، لا جواب على كلّ توسلاتها. استعان بالصمت وعدم الردّ على قضاء مآربه.  بدأ وخز الضمير ينخر في أيّامها وبدأ الضمور يقضم جسدها الواهن وينهش روحها. ومرّت في حالات نفسيّة مرّة ومدمّرة, لم يهدأ ضميرها من تحريك أشجانها وتقليب مواجعها وتذكيرها بسقطتها الكريهة، فلم يعد  يلذّ لها مأكل ولم تعد تستسيغ شرابا, كرهت حالها, وفعلتها, وصديق زوجها, وبدأت تذوي حتى صارت جلدة على عظمة إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة في قصرها المهجور. فتنفّس, ساعتئذ, زوجها الصعداء. فرح، سرّا، بنهايتها التي خطّط لها ببراعة شيطانيّة.

 طبعا, لا يمكن لأحد أن يقول إن زوجها ارتكب جريمة قتلها. لا شيء، في الظاهر، يدينه,  بل على العكس, كان تصرّفه معها في منتهى اللطافة, والدماثة، كان تصرّفه على نقيض تصرّفها معه، تصرّف لا يستوعبه عقل فطريّ. ولكنّه عمليّا قتلها, قتلها ببرود أعصاب ينخر العظم. لم يستخدم مسدّسا أو عبوة ناسفة أو أيّ وسيلة من وسائل القتل التكنولوجيّ الحديث. لا دليل على ارتكابه جريمته. كانت النعومة في ردّ الفعل على سلوكها مرهفة كالشفرة، وهو كان يريد أن يكون لسلوكه الناعم واللطيف هذا المفعول القابض، في المدى الطويل، على روح من خانته.

قد يرى البعض أن تصرّف الزوج كان في منتهى الخبث حتّى ولو لبس ثياب اللطافة النقيّة. ما أكثر الجرائم, في أيّ حال, التي تبدو وكأنّها مجرّد انتحار أو موت طبيعيّ!

تختلط الأمور أحياناً كثيرة على النظر, فيصعب الحكم. العين خدّاعة، والكلام خدّاع . الكلمة لا تقول ما تقول، والسلوك لا يشي بما يبتغيه، يبقى مغلّفا بظاهره العذب الوديع، وما وراء السطور من نوايا مضمرة تعمى عنها العيون.

يمكن لمن يمسك الخيط الأسود, في الليل الحالك, أن يصرخ من أعماق حنجرته مدّعيا أنّ الخيط الأبيض في يده. لن يكذّبه أحد, لأنّ سحنة الليل السوداء تجعل الأبيض والأسود  لونا واحدا بعد أن تصاب العيون بـ "عمى الألوان".

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق