الخميس، 26 مارس 2015

دراجة لغوية



ربط الدراجة الهوائية باللغة فكرة خطرت ببالي من وحي عبارة قرأتها  لآينشتاين ربط فيها المعرفة بركوب الدراجة الهوائية، وأُثر عن آينشتاين ولعه بتبسيط الكلام حتى لو كان عن أعقد الأشياء،  قال ان المعرفة تشبه ركوب دراجة هوائية، ركوب يتطلّب تحريك دعستَي الدراجة وإلا فإنّ السقوط هو ما ينتظر الراكب في آخر المطاف، ويقصد بذلك ان المعرفة فعل يوميّ، وتقدّم مستمر وحركة دائمة. قبل الخوض في الفكرة التي اريد معالجتها في هذه العجالة، أحبّ الاستشهاد أيضاً بقول للحكيم الصيني كونفوشيوس يقول فيه ان المعرفة تشبه تجذيف مركب في نهر يسير عكس التيار، لا يمكنك ان تتوقّف عن التجديف وإلاّ فإنّ التقهقر بمجرد التوقّف عن التجذيف النتيجة الوحيدة، هذا اذا لم يكن هناك من خطورة في انقلاب المركب، والغرق. فأنت هنا لست على درّاجة آينشتاين!
أعود الآن إلى طرح سؤال بسيط. ما العلاقة بين الدراجة الهوائية واللغة العربية؟ وهل هناك وجه شبه بينهما؟ من وجهة نظر الفكر الصيني هناك دائما وجه شبه بين شيئين مهما اختلفا في الطبيعة او الشكل، ويحتاج العثور على وجه الشبه المحذوف بين الأشياء أحيانا إلى عيني الشاعر العبّاسي أبي تمّام الذي امتاز باستعاراته البعيدة عن متناول النظر العجول.
وهل يمكن التعامل مع اللغة العربية كما نتعامل مع الدراجة الهوائية؟
هل يمكن لركوب الدراجة الهوائية ان يعلمنا كيف نعلّم اللغة العربية الفصحى، وكيف نتعلّمها؟
لا أظن أنّ أحداً ينكر مشقّة الأفواه في النطق باللغة العربية سالمة من اللحن، ولا أظنّ أنّ أذناً تنكر الحالة الصحية للحركات العربية. فالضمة لا أحد يعرف متى تخرج من الفم، والكسرة يتكسّر استعمالها، والفتحة تستعيذ بسيبويه من الرضوض التي تصيب بدنها الهشّ.
يتعلم الطالب من وقت دخوله المدرسة إلى وصوله البكالوريا، يتعلمها نحواً وصرفاً ونصوصاً، ومع هذا فإنّ شفتيه تترنّحان وهما تنطقان. هل العيب في العربية؟ هل العيب في الطالب؟ هل العيب في الاستاذ؟ هل العيب في المنهاج؟ أين يكمن العيب أو الخلل؟
لا أظن أنّ العيب في العربية، فليس هناك لغة من اللغات إلا وهي آية من آيات ربّ العالمين، وصعوبتها على قول من يقول بصعوبتها ليس مبررا كافياً لتوصيف علّة الناطقين بها، فاللغة الصينية لا تقلّ صعوبة عن العربية، وها هي تزدهر، وتنتعش، ويقبل الناس في كل انحاء العالم على تعلمها، فمعهد كونفوسيوش يفتتح في كلّ ثلاثة أيام مركزاً ما في مكان ما في العالم لتعليم لغة كونفوشيوس. حبّي للعربية، وإيماني أن سرّ نهوض الأمم يكمن في اللغة، دفعني الى القراءة عن اللغة الصينية واللغة اليابانية واللغة العبرية لمعرفة كيف عالجت هذه الشعوب مشاكلها اللغوية؟
ليس هناك لغة بلا مشاكل، فاللغة كالانسان تعبر حياته أزمات وانفراجات. والعربية الفصحى تعيش أزمة لأنّ الانسان العربيّ يعيش ازمة، لا يمكن ان تعيش اللغة حياة منفصلة عن ناسها، فالانسان العربي لا يثق بنفسه، ويشعر كما لو انه موسى التائه في الصحراء. وهذا التيه يتجلّى لغويّاً لمن تتبّع علاقة العربيّ اليوم ليس مع فصحاه فقط وإنّما مع عاميته أيضا.
خطرت ببالي فكرة وهي التالية، الاستيحاء من تعلم الطفل لركوب الدراجة طريقة لتعليم العربية. من يرى الدراجة الهوائية يقول انها تمشي على عجلتين، ولكن هل تمشي، فعلاً، على عجلتين. العيون خدّاعة لا يسهل عليها رؤية الخفيّ. حين تتأمل الدراجة  الهوائية التي يتعلم على ركوبها الولد تجد أنّها دراجة من أربعة دواليب وليس من دولابين فقط. دولابان صغيران على طرفي الدولاب الخلفيّ، دولابان يمنحان الطفل الثقة بعدم السقوط، وهذان الدولابان يلعبان دوراً جوهرياً في تعلّم الولد قيادة الدراجة فيما بعد بدولابين أساسيين فقط.
حين تأمّلت الكتب العربية وجدت ان هناك كتباً تشبه دراجة بدولابين وكتباً تشبه دراجة بأربعة دواليب. حين تأتي مثلاً إلى نهج البلاغة  المنسوب للإمام عليّ بتحقيق الشيخ محمّد عبده أو ديوان المتنبي بشرح اليازجيّ تجدهما يشبهان درّاجة هوائية بأربعة دواليب، وبعض نسخ كتاب كليلة ودمنة لابن المقفّع تشبه دراجة بدولابين،  ولكن لفتت نظري نسخة لكتاب كليلة ودمنة نشرها لويس شيخو، صفحاتها الأولى تشبه دراجة بأربعة دواليب بينما صفحاتها الأخيرة تشبه درّاجة بدولابين.
سأوضح فكرتي الآن. الكتابة العربية تتألّف من عنصرين: حروف وحركات. الحروف ظاهرة دائماً بخلاف الحركات التي تغيب عن النظر في أغلب المنشور من كتب ومجلات وجرائد، فخذ أيّ جريدة من الجرائد وتصفحها فإنك لم تجد إلاّ مصادفة بعض الحركات اي الفتحة والضمة والكسرة، بينما ليس من السهل إلباس الحروف طاقية الإخفاء!
فاعتبرت ان الحروف هي الدولابان الأساسيّان للدراجة بينما الحركات هي الدولابان الصغيران على طرفي الدولاب الخلفيّ.
هل يمكن تطبيق ذلك على كتب التعليم في الصفوف الابتدائية؟ وهي تطبّق إلى حدّ ما، ولكن كيف يتم تطبيقها؟ من يراقب كيفية تعلّم الطفل لركوب الدراجة يجد انه بعد فترة زمنية معينة ترفع العجلات الصغيرة قليلاً عن الأرض، بحيث لا تلامس الأرض إلاّ عند الضرورة أي لحماية الطفل من  احتمال السقوط، فلا يزال تحكمه بالمقود والدواستين هشّاً، ولكن بعد فترة أخرى من الوقت وبعد ان يشتدّ عود الطفل يسحب دولاب صغير وتصير الدراجة تسير على ثلاثة دواليب، الى ان يشعر الطفل بأنّه صار بامكانه الاستغناء عن الخدمات التي تقدمها العجلة الصغيرة الثالثة.
لنفترض ان الدولابين الصغيرين هما الحركات اي هما الفتحة والضمة والكسرة، ولا أتكلم على السكون التي يظن البعض انها حركة رغم ان اسمها واضح جدا، فهي" سكون" اي "انعدام حركة"، وهي توضع فوق الحرف حتى لا يخطر ببال فم أن يضع حركة ما على الحرف، السكون عبارة عن وقاية من رغبة فم في الخطأ.
هل هناك مرحلة او منهاج يعتمده الكتاب في التدرّج في رفع الحركات على غرار رفع الدواليب الصغيرة؟
كيف يتمّ وضع الحركات او رفعها عن الكلمة؟ واي حركة نزيل وبأي حركة نحتفظ؟ هل اللعب فقط بعلامة الإعراب تكفي لتعليم الطالب النطق الصائب. الفم قد لا يعرف حركة الحرف الأول، فكلمة "صرف" لها قراءات متعددة، فقد تكون "صِرف" وقد تكون "صَرف"، والحرف الثاني قد يكون ساكناً او متحركاً، "صرف" قد تكوه "صَرَف" .
ما هي الطريقة التي نتدرج فيها لرفع الحركات؟ بعض الكلمات قد تحتاج الى حركتين، وبعضها قد يستغني عن كلّ الحركات، بينما هناك حروف يحتاج كلّ حرف منها إلى مرافقة حركية، حتى لا يتعثر الفم في الكلام.
هل هناك وسيلة يمكن أن نستخدمها من وحي الدراجة الى ان نصل الى نصّ بلا حركات اي دراجة بدولابين؟
اظن انه من المهم جدّاً العمل على هذه الفكرة في كتب الصفوف الابتدائية، وهي فكرة أظنّ لو تمّ العمل عليها لرصد كلّ كلمة في النصّ ومعرفة علاقتها مع الحروف، لأسعفنا أفواه طلابنا في التمتّع بسلاسة في النطق من غير لحن.
على بساطة الفكرة، الا انها تتطلّب جهداً جماعياً، جهدا ليس من علماء اللغة فقط، وانما من علماء النفس والاجتماع أيضاً، لمعرفة اختيار الكلمات التي يفترض بها ان تكون موادّ النصّ. أظن أنّ مؤلّفات مارون عبود يمكن لها ان تكون عونًاً من حيث مهارة ذلك الكاتب في اختيار كلمات فصيحة ولكن يظنّها من لم يتعمّق الفصحى أنّها كلمات عامية. وهذه خصيصة تنمّ عن مهارة عبّود اللغوية وهي خصيصة يفترض ان تسود ، أيضاً، كتب الصفوف الابتدائية لتخريج طالب ماهر في قيادة الدراجة اللغوية.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق