إعلام وآلام
الإعلام بكلّ
حالاته المرئيّة والمسموعة والمكتوبة إعلام لعوب، يحاول أن يتحكّم بأعصاب المشاهد
ومن ثمّ بسلوكه وردود أفعاله. البراءة ليست من هموم الإعلام ولا اهتماماته. وللباحث
في علم الأحياء العصبيّ سيبستيان بوهلر Sebastien Bohler كتاب طريف حول
قصّة الإعلام وألاعيبه، بعنوان " 150 تجربة صغيرة في علم نفس الإعلام"
مع عنوان فرعيّ هو مدار الكتاب:" كي نفهم بشكل أفضل كيفيّة التلاعب الإعلاميّ".
الكتاب بسيط وقيّم، غنيّ بآراء المتخصّصين القائمة على تجارب حقيقية عبر خداع
المتطوّعين لمعرفة ردود فعلهم العفوية. الخداع وسيلة ناجعة في كشف الحقائق بخلاف
الصدق الذي يسمح للخداع المضادّ، أحياناً، أن يتحرّك على ذوقه! ولعلّ عمله في الصحافة المكتوبة أعطى قلمه سلاسة في
التعبير، وبساطة تحرّرت من الثقل الأكاديميّ، فالأكاديميّة الصارمة صادمة، وذات
وجه متجهّم ومنفّر أحياناً. وهو مشارك فعّال في مجلة " الدماغ وعلم
النفس" الفرنسيّة.
الكتاب مجموعة
أسئلة تتناول هذه اللعبة الإعلامية من جوانب مختلفة :" الإعلام والإيمان"،
"والسياسة والاعلام"،"الإعلان والإعلام"، " المنوّعات"،
"ردود فعل سطحيّة".
لن أتناول إلاّ
بعض أسئلة ما في الكتاب، منها، لماذا الانسان يتلذّذ برؤية مناظر الدم والعنف على
التلفزيون، ويتعاطف بشكل مريب مع هذه الرؤية؟. فالأفلام التي تنال استحسان
الجماهير أكثر من غيرها وتجلب لشبابيك التذاكر الملايين من الدولارات هي عادة
أفلام الـ"أكشن" والعنف والقتل والتدمير. والإنسان هو مجموعة ما يرى
ويسمع ويقرأ. الحواسّ هي المكوّن الأساس لأذهان الناس. يشير الكاتب الى نقطة مهمّة
حول ذلك الشعور الملتبس عند الإنسان، وهو الإحساس بالألم واللذّة في آن معا، لذّة
النظر إلى ما يعافه النظر. لذّة غريبة، ولكنّها لذّة واقعية وأدبية، تطلبها
الجماهير، فالكتّاب يتألمون حين يكتبون. فلوبير صاحب "مدام بوفاريّ" كان
يقول ان الكتابة " وجع فيزيائيّ" وإضافة كلمة الفيزياء الى الوجع هي
لتحييد المعنى المجازيّ للعبارة، وكنت قد قرأت ذات يوم عبارة موجعة للشاعر الأمويّ
الفرزدق يشبّه بها قول الشعر " بقلع الضرس"، كما أتذّكر بعض أبيات شعر
الياس أبي شبكة يعلن فيها ان الشعر هو ابن الجرح،
بشكل من الأشكال، فيقول:
اجرح القَلبَ واسقِ شِعرَك مِنهُ فَدَمُ القَلبِ خَمرَةُ الأَقلامِ
مَصدَرُ الصَدقِ في الشُعور
هوَ القَلبُ وفي القَلبِ مَهبَطُ الإِلهامِ
وَإِذا أَنتَ لَم تُعَذَّب وَتَغمِس قَلَماً في قَرارَةِ الآلامِ
فَقَوافيكَ زُخرفٌ وَبَريقٌ كَعِظامٍ في مَدفَنٍ من رُخامٍ
ويعزو بوهلر ذلك الى طبيعة حياة الإنسان
البدائيّ، فجينات الماضيّ لا تزال تتحكّم في الكثير من تصرّفات إنسان اليوم. ويقول
المتخصّص في الانتروبولوجيا في جامعة بريتوريا في جنوب افريقيا فيكتور نل Victor Nell مفسرا ذلك الإحساس الماتبس الذي
يجعل البعض يتلذّذ برؤية ما يقزّز النظر
بالقول: ان الانسان الأوّل كان صيّاداً وهذا ما جعل دماغه مجهّزا بهذا الشعور،
إنّه شعور ضروريّ للاستمرار على قيد الحياة، قد يستغرب المرء كيف يكون التلذّذ
برؤية الألم ضروريّاً للبقاء على قيد الحياة؟! التفسير الأنتروبولوجيّ قد يملك بعض
الجواب لا كلّه. يقول فيكتور نل ّإنّ كلّ عملية صيد هي، عمليا،ً مواجهة مع عذاب
الحيوان الذي يموت بين يدي الصيّاد، ولكنّها ، وفي نفس الوقت، لحظات سعيدة في حياة
الصيّاد أمام مشهد حيوان تنطفىء روحه المدمّاة أمام عينيه لتأمين لقمة العيش، وهذا
النظام العصبيّ الذي يتحمّل رؤية الدم استمرّ على قيد الحياة في جينات الانسان
المعاصر، فمن لا يطيق رؤية الدم لن يذهب الى الصيد وستفترسه سنّة البقاء للأقوى.
ويختم الباحث فيكتور نل بحثه بالقول: ان الصيّاد نقل الينا خصائصه العصبية التي
يلذّ لها ان ترى الدم. اراد عالم نفسيّ هو دافيد بورسوك David Borsook أن يبيّن ما
الذي يتحرك في الدماغ ساعة الإحساس بألم
ما، فقام بتجربة على مجموعة من المتطوعين ، وخلاصتها حرق بسيط على راحات
المتطوّعين من دون أن يتسبّب ذلك بترك أثر، وفي الوقت نفسه، قام بتصوير نشاط
أدمغتهم بجهاز السكانر فلاحظ تنشّط
المواقع الخاصة بالألم، وهذا طبيعيّ، ولكنه لاحظ أيضاً ان المنطقة الخاصة بكل
انواع اللذائذ، الروحية والجسدية، قد نشطت أيضا، ولاحظ خلال التجربة ان أوّل من
تنشّط للعمل هو القسم الخاص باللذة رغم ان الشعور هو شعور بالألم مما جعله يقول إنّ
هناك رابطاً بل نوعاً من الاستمراريّة بين الألم واللذة، ويستحيل، من حيث المبدأ، فصل
الإثنين عن بعض. وبما ان الدماغ مجهّز بآلية فكّ الارتباط - اذا صحّ القول - بين
النفس والتعاطف مع آلام الآخرين- وهذه القدرة على عدم التعاطف قدرة من صلب الدماغ
كوسيلة دفاعية عن النفس!- فانه لا يبقى الا الشعور " المريح" أمام رؤية
ما هو مزعج. وهنا يتساءل الباحث بوهلر: ماذا يفعل الإعلام حين يرحّب بمشاهد الدم
والقتل على شاشته اللعوب؟ هل يقوم رغم كلّ هذا التقدّم التكنولوجي المذهل بغير
تعزيز حضور ما تبقى لنا من جينات جدّنا الصيّاد؟
وفي سؤال ، من
مقلع آخر، يطرح مسألة من أين تأتي "الشعبية"؟
، وهل " الكاريزما" حقيقية أم وهمية؟ الكاريزما صناعة إعلاميّة، سرّها
في لعبة العرض، والتفنّن في تسليط الأضواء على أمر ما، ضوء يجلب الألفة فيسلس
الذهن ويتعامل مع الأمور بشكل مختلف. فيتكلم المؤلّف على اختبار قام به عالم النفس
روبير زاجونغ Robert Zajonc . اراد ان يظهر أثر تعرّض
العين لرؤية شيء ما، وردّ فعل الشخص الرائيّ على ما يرى. وقد يكون الرائيّ يجهل ما
يرى ومع هذا فإنّه يقيم علاقة مختلفة مع ما يراه بحسب مدّة العرض المتقطّع
والمدروس. لقد عرض ذلك العالم امام مجموعة متطوعين كلمات تركية، وهم لا يعرفون ولا
كلمة واحدة عن اللغة التركيّة، الفريق الاول من المتطوّعين رأى مرّة واحدة بطاقة
فيها كلمة تركيّة، اما الفريق الثاني فرأى البطاقة مرّتين، والفريق الثالث رأى
البطاقة خمس مرّات والفريق الرابع من المتطوّعين رأى البطاقة عشر مرات، أمّا
الفريق الخامس فرأى البطاقة خمساً وعشرين مرّة.
كان السؤال هو ماذا تعني هذه الكلمة وما توحي إليك؟ كانت
النتيجة أنّ كلّ المتطوّعين أجابوا عن
ايحاءات الكلمة التي لا يعرفون عنها إلاّ انّها تركية ولكن الإجابات كانت مختلفة،
فالذين رأوا الكلمة مرّات عدّة تشكّل لديهم انطباع إيجابيّ عن معنى الكلمة، اما من
لم يرها الا مرة واحدة او مرتين فكان رأيه
بالكلمة أنّها ذات دلالة سلبيّة، منفّرة. ولقد أعاد العالم التجربة نفسها على
المتطوّعين أنفسهم على لغة لا علاقة لها بالكتابة الألفبائية، وهي اللغة
الصينيّة فكان رأيهم بالكلمة الصينيّة هو
نفسه رأيهم بالكلمة التركيّة.
والإعلام
المكثّف لا يعني أنّنا نعلم ما نرى، وفي الفرنسيّة كلمة طريفة دخلت حديثاً الى
اللغة الفرنسيّة هي " infobésité" والتي تعني التعرّض المكثّف
للإعلام، وهو تعرّض يسبب الكولسترول الفكريّ.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق