الأحد، 29 مارس 2015

مناسبة النصّ

 كانت كتب الأدب العربيّ تدرج قبل القصيدة المدروسة فقرة قصيرة عن "مناسبة النصّ" أي الظروف التي ساهمت في إنتاج القصيدة. واجد أنّ فكرة "مناسبة النصّ" سليمة الى حدّ ما وتكون بمثابة مفتاح لمعرفة دلالات النصّ. فمباسبة النصّ هي بشكل من الأشكال، نسب النصّ وحسبه. لا انكر ان قراءة نصّ ما لا تخلو من مشقّة مهما كان النصّ بسيطاً. ليس كلّ النصوص طبعا، فثمّة نصوص تكتب وهي خارج اي مناسبة، ولكن اتكلّم هنا تحديدا على نقطتين هما تحديداً " المدح" و" الهجاء" بكل تشعباتهما. واقصد بذلك خروج الكلمتين من عالم الشعر الى عالم النثر. فالصحيفة، على سبيل المثال، كما يقال: رأي وخبر. وإذا ما تأمّلنا فحوى الخبر لوجدنا انه مطعم غالب الأوقات بتلاوين رأي ما، والرأي أغلب الأحوال يمكن ان ينطوي تحت المدح والهجاء. والمدح والهجاء هما الغرضان الرئيسان في شعرنا العربيّ القديم، والطريف أنّ شعرنا العربيّ القديم ارتبط بالمديح ارتباطا عضوياً بحيث كاد المديح أن يكون مرادفاً لكلمة القصيدة في أذهان دارسي الأدب العربيّ . يخطر ببالي هنا ان اتكلم على الهجاء والمدح في الصحف تحديداً، وحين أقول الصحف فانما اقصد كلّ الاغراض التي تتناولها الصحف، ففي الصحيفة الواحدة صفحات فنية وثقافية وادبية وتلفزيونية ورياضية . سؤالي هو التالي: كيف اعرف قيمة ما أقرأ وانا لا اعرف الكاتب، ولا اعرف المكتوب عنه مثلاً، ولا اعرف خلفيات الكاتب الذي كتب هذا المقال أو ذاك؟ تشاء المصادفات أحياناً ان أقرأ كتابا ما وأجده رائعاً، ولكن اقرأ في يوم تال مقالاً يهشم بالكتاب، وينتقد افكاره او اسلوبه او عوالمه، واحيانا يكون العكس، احضر مسرحية ما وتكون المسرحية متعبة، ومجلبة للملل في العيون على صعيد برودة التمثيل أو ركاكة النص، أو بهوت الإضاءة، ولكن في اليوم التالي اجد من يكيل لهذه المسرحيّة المديح والإطراء المريب في هذه الصحيفة أو تلك ويشيد بأداء الممثلين، ممّا يسبّب لي البلبلة، ولكن هل يشعر بابلبلة من لم يشهد العرض، وهل ينتبه من لم يشاهد المسرحيّة مثلا ان الغرض من هذا المقال أو ذاك غرض دعائيّ مضمر، وإغرائيّ للقارىء والهدف منه ّإيقاعه في فخّ شبّاك التذاكر؟ وتشاء الصدف احيانا ان التقي بكاتب لمقال حول كتاب ما او مسرحية وأجده "يفخّت" بما كان قد كال له المديح على أعمدة الصحف. المجاملات في الكتابة من أسوأ أنواع الخصال، وهي مرض مستشر، للأسف، في الصحف، هي أشبه بتبادل خدمات وفي الوسط الصحافيّ ثمّة كلمة خبيثة الطوايا هي " الشلليّة" بما تحمله من دلالات تطعن في غايات الكتابات النبيلة. والمضحك في بعض الكتابات الصحفية في مجال مراجعات الكتب هو ان يكتب شخص ما عن كتاب لم يقرأه، وتشاء الصدف ان اكون قد قرأت هذا الكتاب ومن خلال التفحص اعرف ان الكاتب الذي كتب عن الكتاب انما كتب ما كان قد كُتب عن الكتاب، أي ينسب الى نفسه مجهود غيره، أو يكتب كلاماً عاماً وتقريظيّاً مأخوذاً من غلاف الكتاب الأخير، ومن فهرست الكتاب ان كان كتاباً في النقد مثلاً أو يستعين بمقدّمة الكاتب وتتحوّل الموادّ التي جمعها إلى ما يشبه المواد الاولية، والمعروف ان الفهرس مخادع ومراوغ وقد لا يكون يعبّر فعلياً عن قيمة الكتاب، تماما كما لعبة العناوين التي لا تختلف عن لعبة الفهرسة. يكتب هذا الكاتب او ذاك عن الكتب وليس في فكره الكتاب الذي يكتب عنه انما العلاقات العامة التي يريد ان يبنيها، علاقات عامّة تقوم على الضحك على العامّة وبعض الخاصّة، وليس في ذهنه الا المبلغ الذي سيتقاضاه عن مقاله الذي كتبه أو لفّقه او جمعه من هنا وهناك.. هناك كتابات كثيرة ملوّثة بالمنافع والمصالح والثأر. ونادرة هي الكتابات التي تحافظ على البيئة من التلوّث الفكري والروحيّ. ولأني لا ابتغي التشهير وانما اتناول فكرة عامّة، لفت نظري اليوم مقال في احدى الصحف عن انتقاد تصرّف شخص، ولكن سرعان ما تبيّن لي ان صلة القرابة المجروحة هي التي كانت وراء تهجّم كاتب المقال، وصلة القرابة خفيّة، صلة القرابة ليست دائماً ظاهرة في الاسم، فحين تكون القرابة من طرف الأمّ تتوارى العلاقة في الكواليس، او حين تكون القرابة من طرف الزوجة تتوارى أيضاً من ظاهر الاسم ولا يعرفها الا من له صلة قريبة بهذا الشخص أو ذاك. والمتواري يشبه اللعب في الخفاء أو التحرّك في الكواليس. وكيف أعرف النصّ اذا كنت لا أعرف كواليس النصّ ؟ وسأذهب الى ابعد من هذا، قد يكتب كاتب ما مقالاً عن كتاب بلغة اجنبيّة لكاتب أجنبي، حتّى هنا أتساءل : هل للكاتب مصلحة ما بهذا المقال الذي كتبه؟ قد يقول لي قائل: ولكنه كاتب اجنبي؟ ولا صلة له به، هذا من حيث الظاهر، والظاهر- كما اقول -عاهر وماكر، قد يكون الكاتب الاجنبي محرّراً في صحيفة اجنبية وقد يكون للكاتب مصلحة في تدشين علاقة مع تلك الصحيفة التي يكتب فيها الكاتب المنقود. إنّ تغييب مناسبات النصوص تحوّل الدخول في تلابيب دلالات النصّ أشبه بدخول في متاهة، متاهة لا يمكن للأدوات اللغوية وحدها أن تساعد في الخروج منها، لا بدّ من معرفة السياقات الكثيرة غير اللغوية وغير النصية للقبض على زمام معنى النصّ اللعوب. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق