ثقافة الصين ثقافة مائية، وحضارتها حضارة نهرية ويتبين
ذلك في تكوين كلمات صينية كثيرة يكون عنصر الماء فيها بارز الحضور. لفتت نظري
الصلة الحميمة بين الماء والفكر الصيني في مجالات كثيرة، هنا سأتناول نقطة واحدة
هي ليونة الفكر الصيني، وقدرته الالتفافية على العقبات بغية الوصول إلى هدفه أيا
كانت الصعاب التي تعترض مجراه وهي ليونة مكتسبة من التأمّل النافذ في كيان الماء
والأنهار.
ثمة استعارات ومجازات كثيرة تدور حول الماء، فإذا استشار
طالب ما أستاذه في اختيار كتاب للقراءة على سبيل المثال يقول له أستاذه:" كن
كماء النهر، اختر أنت مجراك، قلّب وتقلّب بين الكتب إلى أن تجد نفسك وضالتك في
ثنايا كتاب ". والناقد الجيد عندهم هو من يتعامل مع النص كما يتعامل النهر مع
مجراه، أي أنّ النص هو الذي يفترض به أن يقود الناقد إلى معانيه وليس على الناقد
أن يدخل إلى النص وهو معبأ ومشحون مسبقا بما يريد أن يقوله حتى من قبل أن تلامس
يداه أوراق الكتاب.
أما بالنسبة للغة الصينية فإنها تعكس بوضوح باهر طبيعة
الفكر الصيني المائية، لأنها بكلّ بساطة لغة سياقيّة، لغة يستحيل حتّى على أبنائها
كتابة مفردة واحدة بشكل سليم في حال كانت معزولة، كل جرّة قلم عرضة للخطأ، ولا
يحميها من الخطأ إلاّ السياق، ما قبلها هو الذي يقول لك كيف تكتب، فالصوت الواحد
قد يكتب بعشرة أشكال أو أكثر، وكلّ شكلّ يحمل معنى لا علاقة له بأقرانه، أي أنها
لغة تعجّ صوتياً بما يعرف في المصطلح اللغوي بالـ"مشترك اللفظيّ". إنّ
الكلمة الواحدة أشبه بغيمة لا تستقر على شكل، وليست المفردة الواحدة فقط هي التي
لا تنحبس في شكل واحد وإنما أيضا النص بأجمعه. واعتبر احد النقاد الصينيين أن النص
بمثابة زورق لا يمكنك توقيفه حتى ولو رفعت المجاديف، تظلّ صفحة المياه تحته تحركه
يميناً وشمالاً، تمايل الزورق يشبه تمايل المعنى في النصّ. هذه الحركة المستمرة هي
في صلب المعتقد الفكريّ والدينيّ في الصين، ولعلّ الرمز الدائريّ لـ" اليِنْ
واليانْغْ "( 阴阳) ( أي السالب والموجب) يجسد الحركة الدائمة خير
تمثيل في انسيابيته الفائقة التي لا تكفّ عن الدوران، كما أنّ روحية
"الفانْغْ شْوِي"،风水) )، أيضاً، والتي تعني حرفياً
"الريح والماء" تغزو العالم الغربي، ويكفي ان تضع عبارة "الفانغ
شوي"(Feng Shui)
على محرّك البحث غوغل حتّى تنسدل أمام ناظريك آلاف العناوين باللغات
الفرنسية والإنجليزية وغيرهما من اللغات العالمية عنها، وخلاصة فلسفة "الفانغ
شوي" هي أنّ لا تعكّر مزاج الطبيعة حتّى لا تنتقم منك بتعكير مزاجك
الشخصيّ.ألا نسمع أحدنا يقول حين تنتاب نفسه أحوال مريبة:" ما بَعْرِفْ
شِبْني!"، الصينيّ يجيبك: "ابحثْ عن الفانْغْ شْوِيْ".
الفكر الصيني لا يحبّ التعب العقيم لهذا لا يميل إلى
السباحة ضد التيار، ويقول الصينيون:" ان السباحة مع التيار توفر على عضلاتك
جهداً كثيراً دون أن تمنعك من الوصول إلى هدفك الذي لا يغاير مجرى التيار".
من يتأمل مجرى أي نهر يلحظ مباشرة انه لا يتبع خطّاً
مستقيماً، بمعنى أنّ النهر سلس القياد لا يحبّ العناد، ولا يركب رأسه، متعرج لأنّه
لا يهوى المشاكسة ولا الصدام، سلس وليّن ولكنه جبار، تقدّمه في مجراه مثل تقدّم
الحية يفرض عليه التعرج. الحية لا يمكنها ان تتقدم إلاّ بفضيلة الالتواء. في أيّ
حال ألا تشبه تعرّجات النهر شكل حية عملاقة وهي تسعى؟
لا يخلو كتاب مفكر من المفكرين الصينيين القدامى أو
المحدثين من الاستعارات المائية، ولعلّ أكثرها وضوحاً وتعبيراًً عن الفكر الصينيّ
هو ما ورد في كتاب مؤسس الفلسفة الطاوية " لاوْ تْزْه" في فصل عن ضعف
الماء، ولكن من يستطيع أن يقف في وجه هذا الضعف الماكر؟ يقول النصّ الطاوي:
"ليس تحت السماء ما هو أرقّ وألين من الماء،
ومع ذلك فانه الأقدر على مواجهة القويّ والصلب.
هذه حقيقة ناصعة لا يمكن تغييرها.
كلّنا يعرف أنّ الضعيف يغلب القويّ،
واللين يقوى على الصلب.
ولكننا لا نضع هذه المعرفة موضع التطبيق".
ان من يتبع سياسة الأنهار لا ينهار، هذا ما تقوله الحكمة
الصينية على لسان "لاو تزه". فما الذي يجعل النهر سيد الجداول والمنابع
دون منازع؟ إنها نزعة التواضع في طباع النهر. فـ"النهر يغدو ملكاً على مئات
الجداول لأنّه أوطأ منها منسوباً" فتضطرّ مياه الجداول، مرغمةً، أن تصبّ في
مجراه. وفي العربية مثل يقرب من هذا القول:" الأرض الواطئة تشرب مياهها ومياه
غيرها"، ولا تخلو السياسة الصينية من ممارسة انحناءتها في التحية، وهي
الانحناءة المتماهية مع مياه النهر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق