يقف
المرء، في كتب التصوّف، على حكايات طريفة، فالصوفيّ كان ولوعاً بالحكايات الغريبة،
يستعين بها على تيسير شؤون تقواه، ويتبرّك بدلالاتها الخفيّة العطرة. وللحكايات
وظائف كثيرة لا تصبّ كلها في خانة التسلية في أوقات الفراغ، فبعض الحكايات تشبه
حبّات سبحة بين أصابع ناسك. وفريد الدين العطّار أحد هؤلاء المتصوّفة الذي كان
ولوعاً بسرد الحكايات المأخوذة ليس فقط من أفواه الآدميين وإنّما أيضاً من مناقير
العصافير كما في كتابه البديع" منطق الطير" الذي عرف أهل الاستشراق غناه
الروحيّ وتجلّياته الصوفيّة العفيّة وكناياته البعيدة فنقلوه إلى لغاتهم، بل
ونشروه- ولهذا دلالة واضحة- في طبعات شعبية زهيدة الثمن وكأنّه من كلاسيكيات الأدب
الغربي، ولقد اعترف متصوّف آخر ذو شأن بقيمة فريد الدين العطّار وهو جلال الدين
الرومي الذي قال فيه:
طوّف
العطّار مدن العشق السبعة، ولا نزال في منعطف جادّة واحدة.
كنت
اقرأ في كتاب "تذكرة الأولياء" للعطّار وهو أشبه بمعجم يتضمّن سير بعض
أعلام أهل التصوّف، يقارب عددهم المائة، يسرد حياتهم وشذرات من أخبارهم وبعض
نوادرهم الدالّة على تطوافهم الروحيّ. فاستوقفتني حكاية رواها العطّار عن متصوّف
اسمه "شاه الكَرْماني". قال العطّار إنّ هذا الصوفيّ "ما نام
أربعين سنة، وكان يكتحل بالملح حتى صارت عيناه كقدحَيْن من الدّم!" خوفاً من
أن يسرق منه النوم لحظة لا يقضيها في تعبّد الخالق. وكان الكرماني يعتبر من علامات
الإيمان واليقين بالخالق " أنْ يسقط الخلق عن عينك حتى لا تبالي بمدحهم
وذمّهم، ويكون كلاهما عندك على السويّة، فإنك لا تفضل بالمدح ولا تنقص
بالذم". ويذكر العطار مجموعة من أقاويل الكرماني منها:" لصاحب الفضل
فضلٌ على غيره ما لم يرَ فضلَ نفسِه، فإذا رأى فضل نفسه لم يبقَ له فضلٌ على غيره،
بل يتواضع حينئذ".
وكان للكرماني على ما يقول العطّار ابنة فأراد
أن يخطبها أحد أبناء الملوك، فخاف على ابنته من فتنة دنيا الملوك، فاستمهل ثلاثة
أيام وكان يدور في المساجد، ويفتّش عن أحوال الناس، حتى رأى فقيراً يصلّي، فرضي
بصلاته، ووقف إلى تمام صلاته، ثم سأل عن أهله، فقال الفقير: ليس لي أهل. قال
الكرماني: هل ترى أن تتزوّج بامرأة قارئة؟ فقال الفقير: من يزوّجني في مثل هذه؟
ومالي من الدنيا إلاّ ثلاثة دراهم؟ فقال: أنا أزوّجك مع هذه الدراهم الثلاثة،
اشترِ بأحدها الخبز، وبالآخر اللحم، وبالثالث العطْر( ذكر العطر طريف، في هذا
المقام، من فم العطّار الذي يعرف الدور الذي تؤدّيه العطور في طقوس الزهد
والتعبّد). ففعل الفقير، وعقدوا النكاح، وبعث البنت إليه في الليل، فلما دخلت
البنت بيت الزوج الفقير رأت هناك خبزاً يابساً على كوز فيه ماء، قالت: ما هذا
الخبز؟ فقال الفقير: فضلٌ من أكلي البارحة، وأنا أبقيته لهذه الليلة، فقصدت البنت
باب الخروج وفي نيّتها أن تفسخ عقد الزواج، قال الفقير: كنت أعلم أنّ بنت شاه لا
تقوى على مصاحبتي، وكيف ترضى بي وبما لي من الفقر؟ قالت البنت: يا فتى، أنا لا أخرج
بسبب الفقر، ولكن لقلّة اليقين، وضعف الإيمان، فإنك كيف أبقيت خبزاً من الأمس إلى
اليوم، ولم تعتمد على الرزّاق؟ ولكن أتعجّب من أبي، فإنه ربّاني عشرين سنة، وقال:
أزوّجها من زاهد، فزوّجني من لا اعتماد له على الله. فقال الفقير: وهل لهذا عذر؟
قالت : نعم، إما أن أكون في هذا البيت أو هذا الخبز اليابس. ولم يكن أمام الفقير
من خيار إلاّ التخلي عن الخبز اليابس!
تذكرني
حكاية ابنة الكرماني بحكاية كنت قد سمعتها خلال إقامتي في باريس عن امرأة فرنسيّة
قرّرت الدخول في دين الله الحنيف فأسلمت ثم ذهبت إلى إمام جامع باريس ليساعدها في
إيجاد فتى مسلم ورع السلوك ليكون شريك حياتها على سنّة الله ورسوله، فاختار لها
فتى من المصلّين معروفاً بالتقى والصلاح، ولكن ما هي إلاّ أيام حتى عادت إلى
الإمام وهي غضبى طالبة فسخ عقد الزواج لأنّ الإمام غشّها في هذا الزوج الذي راح
يرغّبها في عدم دفع ما يتوجّب على ممتلكاتها من زكاة، وهي لا تريد، بعد أن غيّرت
مصير دنياها، أن تلعب بمصير آخرتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق