الأربعاء، 11 مارس 2015

الكتابة على جلدة الرأس


بدأ الإنسان يكتب قبل أن يكتشف صناعة الورق. كان يكتب في الطين كحال الكتابة المسمارية في بلاد الرافدين، ويكتب على الخشب، وينقش في الحجر، ويكتب على جلد الحيوانات أو عظمها، ويكتب على ورق الشجر أو القصب إلى أن انتشرت الكتابة على الورق الذي نعرفه دون أن تكفّ أصابعه عن الحنين إلى الطرائق القديمة في الكتابة. النقش في الحجر لا يزال معمولاً به إلى اليوم لأسباب فنيّة وغير فنيّة. تكفي نظرة سريعة على شواهد الأضرحة لرؤية هذا التضاد المرعب بين هشاشة الجثمان ومتانة الشاهد الحجريّ. صار الإنسان حاليّا يستخدم الكتابة الضوئيّة على زجاجة الكمبيوتر أي استبدل القلم بلوحة المفاتيح. الكتابة تتغير دلالاتها بتغير الوسيط الذي تكتب عليه الكلمات، فالكتابة على الجسد ليست كالكتابة على الورق. وما الأوشام على الأجسام إلاّ طريقة في حفظ الكلمات يحملها المرء أينما ذهب به جلده، وهي كتابة لا تخلو من أخطار!

 ومن طرائف الكتابة استخدام جلدة الرأس كبديل عن الورق لأنّ الرسالة المكتوبة على فروة الرأس تفلت من حواجز التفتيش لاختبائها تحت كثافة الشعر فتعبر بأمان من مكان إلى مكان من غير أن تثير ريبة الأنظار.

في تاريخنا العربي حكاية دامية عن الكتابة على فروة الرأس حدثت في زمن المستعصم، وليس المعتصم، أي في لحظة ضعف الخلافة العباسية ضعفاً كان يشبه أنفاس النزع الأخير. المستعصم آخر الخلفاء في عاصمة العبّاسيين تروي كتب التاريخ وكتب السير التي تتناول حياته كـ"أخبار الخلفاء" للسيّوطيّ أو " فوات الوفيات " لابن شاكر الكتبيّ أو "البداية والنهاية" لابن كثير حكاية الكتابة على جلدة الرأس. وهي حكاية غنية الدلالات استوحى منها الراحل المبدع سعد الله ونّوس مسرحيته الفاتنة "رأس المملوك جابر".

كان للخليفة العبّاسي المستعصم وزير اسمه ابن العلقميّ( والعلقم مرّ المذاق) أراد أن يصانع المغول بعد أن رأى أن شمس الخلافة العباسية إلى أفول ليحفظ رأسه عند تبدل الدول كما يقال. حين اقترب المغول من حدود بغداد أمر ابن العلقميّ بحلق رأس واحد من مماليكه وكتب بالإبر(ترسيخاً للرسالة) على جلدة رأس المملوك الحليق رسالة للمغول تسهّل عليهم عملية الاستيلاء على بغداد والتخلّص من الخليفة على أمل أن يخلفه. وأبقى المملوك بعيداً عن العيون مخافة أن تقرأ الرسالة عين من عيون الخليفة، وحين طال شعر المملوك أمره بالذهاب إلى المغول لتوصيل الرسالة. أكّد ابن العلقميّ للمملوك أنّه سيحصل على مكافأة سخيّة. قراءة الرسالة تتطلّب فضّ الأختام ولم تكن الأختام في رسالة المملوك إلاّ شعرات رأسه مما يعني أن قراءتها تتطلب حلاقاً ماهراً لا تمحو شفرته حرفاً من حروف رسالة ابن العلقميّ، وهذا ما تمّ. ولكن بعد قراءة الرسالة كانت ثمة مفاجأة ولكن غير سارّة تنتظر المملوك إذ ذيّل ابن العلقميّ الرسالة بضرورة إتلافها بعد قراءتها وهو أمر لا يتحقّق إلاّ بإتلاف رأس المملوك.

إنّ كاتب الرسالة الموشومة على رأس المملوك لا يثق به لأنّه- أي المملوك- يستحيل عليه أن يقرأها ويعرف فحواها والدليل انه لو عرفها لما دفع رأسه ثمن عدم قراءتها. عيناه قاصرتان عن القراءة، ويحتاج، إذا ما أراد ذلك، إلى عيون أخرى ولكن بمجرّد دخول عين أخرى "على الخطّ" غير عين المرسلة إليه تتعرض الرسالة لخطر الذيوع ممّا يعني تعرّض مرسلها، أيضاً، للخطر الذي يفرّ منه.

الطريف في الرسالة أن الذي كتبها ينكر كتابتها لأنّ تبنيها اعتراف بخيانة تطيح برأسه قبل الإطاحة برأس المملوك. ولا يمكن للمملوك أن يفصح عنها لأنها ليست في متناول عينيه ثم أن محاولته معرفة فحواها سيف ذو حدين، فانتهاك حرمة الأمانة لا يمكن استئصاله أو محوه ( لم يكن بمقدوره التملّص من المحفور بالإبر على رأسه ) ثم انه بمجرد قبوله بكتابتها دخل مع ابن العلقميّ في اللعبة التي لا تسمح له بالتبرؤ منها. ولا يمكن لمن تتوجه إليه الرسالة أن يكشف عنها لأنها تربك خططه، من جهة، ولأن إفشاء مضمونها من قبل مستقبلها نكران، من جهة أخرى، صريح للجميل.

المملوك دمج في شخصه جملة من الأمور، فهو مملوك - والمملوك، في التعريف العربي، عبد يباع ويشترى- وافق على أن يؤدّي رأسه دور الورقة أي أن يكون، ضمناً، ساعي بريد أعمى لا يرى ما يحمل، وأن تكون الرسالة، وهنا الخطورة، جزءاً عضوياً منه لا يمكنه أن ينفصل عنها دون إزهاق روحه.

 عادة ما يتمّ إتلاف الرسائل السرية ليأمن المرسل عواقبها ومكرها، وعادة ما تكون الرسالة منفصلة عن حاملها وليست امتداداً عضوياً له. فالورقة، على سبيل المثال، ليست وشماً على جسد حاملها! إن اللعب بطبيعة مكوّنات الاتصال ليس مأمون العواقب دائماً، فهو كاللعب بالنار أو السير بلا نعل على حدّ السيف.

 إن عدم إمكانية انفصال الرسالة عن قناة الاتصال التي هي المملوك دفع إلى تصفيته حفاظاً على سريّة الرسالة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق