الخميس، 19 مارس 2015

حواسّ أبي نواس والمتنبّي الحائك



استوقفتني، منذ زمن بعيد، عبارة وردت على لسان الإمام الشافعيّ في حقّ شاعر الخمرة أبي نواس، يقول فيها: " لولا فسق أبي نواس لأخذت عنه الفقه"، ولقد وردت هذه العبارة في صيغة أخرى، وهي:" لولا مجون أبي نواس لأخذت العلم عنه"، والعبارة ، في الصيغتين، تؤكّد على علوّ كعب أبي نواس في الفقه والعلم. وكلام الشافعيّ، على ما يقوله عنوان كتاب  للزمخشريّ، "شافي العيّ"، أمّا الجاحظ فيلفت النظر في عبارة له إلى الناحية اللغويّة في شعر أبي نواس فيقول:" ما رأيت أحداً أعلم باللغة من أبي نواس ولا أفصح منه". ابن منظور، صاحب لسان العرب أكثر المعاجم اللغوية القديمة شهرة، خصّ الشاعر بكتاب دسم تحت عنوان " أخبار أبي نواس: تاريخه، نوادره، شعره، مجونه" جمع فيه تفاصيل كثيرة عن الشاعر وشعره، وممّا قاله عنه:" كان أبو نواس عالماً بكلّ فنّ، وكان الشعر أقلّ بضاعته!"، وهذه لفتة غريبة من ابن منظور ترفع الشاعر إلى مرتبة العلماء في كلّ فنّ ومطلب.

هذه المقدّمة مدخل إلى رأي ناقد من النقّاد العرب القدامى في بيتين من شعر أبي نواس، وكانت نظرته اليهما نظرة حصيفة تستثمر الحواسّ الخمس، وثمّة اليوم في مجال الدراسات السيميائية الحديثة التفات إلى دور الحواسّ في توليد الصور وتوظيف دلالاتها لغايات جمالية. اترك الكلام للناقد العبّاسي أبي عليّ محمّد بن المظفّر الحاتميّ المتوفَّى سنة 388 للهجرة ، ولقد ورد كلامه في كتاب " جمع الجواهر في الملح والنوادر" الذي وضعه  أبو إسحاق الحصري المتوفّى عام 453 للهجرة، ولا تخلو نظرة الحاتميّ من ظرافة في النظر الى هذين البيتين:

ألا فاسقني خمرا، وقل لي: هي الخمر       ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهر
وبحْ باسم من أهوى، ودعني من الكنى  فلا خير في اللذّات من دونها ستر

 يعلّق الحاتمي بالقول على معنى هذين البيتين بأنّه معنى ظريف، ثمّ يقول:" إنّ الملاذّ بالحواسّ الخمس وهي: النظر، والسماع، والشمّ، والذوق، واللمس. فقد استمتعت حاسّة البصر بالنظر إليها، وحاسّة الشمّ بتضوّعها وطيب نكهتها، وحاسّة الذوق بطعمها، وحاسّة اللمس بلين اللمس، وبقيت حاسّة السمع معطّلة. فقال: "وقل لي: هي الخمر"، لتلتذّ حاسّة السماع فيكمل الاستمتاع". ومن يعاود ارتشاف هذين البيتين على مهل يكتشف انّ ما قاله الحاتميّ لم يكن غريباً عن مفردات البيتين، أو الدلالات المتوارية في الكلمات.

انتقل بالحديث الآن إلى شاعر آخر من شعراء العرب الكبار، وهو المتنبّيّ، للنظر إلى طريقته في تركيب أبياته الشعرية وصوره بلسانه هو، بلسانه النثريّ هذه المرّة وهو يعلّق على بيتين من شعره في جلسة طريفة في بلاط سيف الدولة كان النقد الشعريّ محورها. تظهر لنا الرواية براعة المتنبي في النقد الأدبيّ. والرواية نقلها الينا الثعالبيّ في كتابه الغنيّ:" يتيمة الدهر في شعراء أهل العصر " وهو كتاب لا مفرّ منه لمن يريد ان يطّلع على ادبنا في القرن الرابع للهجرة، وما استوقفني أيضاً في تلك الرواية ذلك الشبه بين تفصيل ملابس الناس وتفصيل "ملابس الشِّعْر"، وممّا يسترعي الانتباه في النقد الأدبيّ العربيّ القديم هو غزارة المصطلحات النقدية المنسولة من عالم اللباس والقماش والأنسجة، ومن الطريف أن يرتبط لقب شاعر من كبار شعراء العرب في العصر الجاهليّ باللباس، وأقصد" المهلهل"، ولكنْ هذه قصّة أخرى، فلأنتقل إلى الثعالبيّ وحديثه عن تلك الجلسة البديعة التي رفرفت فيها، أيضاً، روح امرىء القيس وشعره ، يقول الثعالبيّ :" استنشد سيف الدولة يوماً أبا الطيب المتنبي قصيدته التي أولها:

على قدْر أهل العزم تأتي العزائم    وتأتي، على قدر الكرام، المكارم

وكان معجباً بها، كثير الاستعادة لها، فاندفع أبو الطّيب المتنبّي ينشدها، فلما بلغ قوله فيها:

وقفت، وما في الموت شكّ لواقف   كأنك في جفن الردى، وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى، هزيمةً         ووجهك وضّاح، وثغرك باسم

قال: قد انتقدنا عليك هذين البيتين، كما انتقد على امرئ القيس بيتاه:

كأنّي لم أركب جواداً للذّة  ولم أتبطّن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزقّ الرويّ ولم أقل              لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال

وبيتاك لا يلتئم شطراهما، كما ليس يلتئم شطرا هذين البيتين، وكان ينبغي لامرئ القيس أن يقول:

كأنّي لم أركب جواداً ولم أقل            لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال
ولم أسبأ الزقّ الرويّ للذّة            ولم أتبطّنْ كاعباً ذات خلخال

 ولك أن تقول:

وقفت، وما في الموت شكّ لواقف  ووجهك وضّاح، وثغرك باسم
تمرّ بك الأبطال كلمى، هزيمة     كأنك في جفن الردى، وهو نائم

 فقال المتنبّي: أيد الله مولانا! إن صحّ أنّ الذي استدرك على امرئ القيس هذا كان أعلم بالشعر منه، فقد أخطأ امرؤ القيس، وأخطأت أنا، ومولانا يعلم أنّ "الثوب" لا يعرفه "البَزّاز" - أي تاجر الأقمشة- معرفة "الحائك"، لأنّ " البزّاز" يعرف جملته، و"الحائك" يعرف جملته وتفاريقه، لأنّه هو الذي أخرجه من "الغزليّة" إلى "الثوبيّة"، وإنّما قرن امرؤ القيس لذّة النساء بلذّة الركوب للصيد، وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وأنا لمّا ذكرت الموت في أوّل البيت أتبعته بذكر الردى - وهو الموت - ليجانسه، ولمّا كان وجه الجريح المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوساً، وعينه من أن تكون باكية، قلت " ووجهك وضّاح وثغرك باسم " لأجمع بين الأضداد في المعنى، وإنْ لم يتّسع اللفظ لجميعها. فأعجب سيف الدولة بقوله، ووصله بخمسين ديناراً من دنانير الصلات".

ونقد المتنبّي يكشف لنا أنّه "حائك" للكلام، وماهر في تفصيله على قدّ القوام !
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق