كثيرون لا
يهتمون للأشياء الصغيرة، يركضون نحو الأشياء العملاقة، ويتركون الأشياء الصغيرة
جانباً، وينسون أنّ الجبال، كما يقول المثل العربيّ، جمّعن من حصى، وكما يقول مثل
عربيّ آخر من مقلع الغيم، إنّما السيل مجموع نقط.
لأسباب كثيرة
أجدني مفتوناً بما هو هامشيّ، ضئيل الحجم، لا
يعيره الناس كبير اهتمام، منها قصّة فتى من نيروبي يعمل في أحد فروع سلسلة
فنادق "ريتز - كارلتون". وسيرته تستحقّ أن تروى لبساطتها وطرافتها. يقول:
كنت في السادسة عشرة من العمر حين أخذتني والدتي للعمل في الفندق، ولم أكن أتقن
اللغة الانكليزيّة. حين وصلت إلى صالة الفندق بهرتني الشخصيّات الهامّة التي ترتاد
الفندق والأبّهة التي تحيط بالمكان. أدركت أهمّية كلّ من حولي وما حولي، بينما أنا
مجرّد مراهق صغير، لن يتعدّى عملي غسل الصحون. وماذا بمقدور مهاجر فقير، أسود
اللون، أن يفعل؟ قلت بيني وبين نفسي. كنت أعرف واقعي جّدا، وأعرف ظروفي جيّدا،
فأقبلت إلى هذه المهنة الشاقة بشغف، مهنة شاقّة ولكنها لا تتطلّب معرفة، أو لغة
اجنبية، كما كنت أعرف أنّها لا تسمح لي ببناء صداقات كبيرة. علاقتي ستنحصر بالماء
والصحون وأدوات التنظيف. شعرت منذ البدء أنّ
الصحن سيكون صديقي الدائم والحميم. لم أسمح لأحلامي أن تتعدّى المجلى أو تعتدي
عليّ بجموحها الأرعن. شاء الحظّ أن يكون المسؤول عنّي إنساناً يقدّر العمل، بغضّ
النظر عن موضوع العمل، ويقدّر من يعمل بإخلاص وتفانٍ. مسؤول لا تعنيه مرتبة العامل
في سلّم الوظائف بقدر ما يعنيه الاحتراف في العمل، والجودة في النتيجة. كنت وأنا أغسل
الصحن لا اعتبر ان ما بين يديّ صحناً، كنت اعتبرة بمثابة جوهرة ثمينة أقوم بصقلها.
انتبه المسؤول عنّي إلى طريقتي في عمل، فرفع من مقامي وصرت عامل تنظيف في غرف
نزلاء الفندق، لم أغيّر من طريقتي في العمل، اعتبرت الغرفة بمثابة صحن آخر. كان "هورست
تشولز Horst Schulze"
المسؤول عن السلسلة يقول: ان فلسفة السلسلة تقوم على قاعدة بسيطة جدّا، وهي: "انظر
الى الموظّف لا إلى درجة الموظّف". واستمرّ ذلك النيروبيّ البسيط بالارتقاء
في العمل حتّى صار مديراً لفرع من فروع السلسة العملاقة لأنّه استطاع أن يتعامل
بكل بساطة مع الصحن على أنّه جوهرة أو حجر كريم!
وهنا احيل إلى
قصة ثانية روتها ممرضة وهي تصبّ في نفس المصبّ النيروبيّ. تقول الممرضّة: كنت أدرس في معهد للتمريض،
وكنت أنتظر الانتهاء من الدرس لمزاولة عملي الذي اخترته بحبّ. بعد شهرين من الدرس، حان
وقت الامتحان الأوّل.
المسابقة من عدة أسئلة، لم أجد صعوبة
في ايجاد الأجوبة، قالت. فلقد درست جيّدا، وكانت الأجوبة تخرج دفّاقة من ذاكرتي،
إلى أن وصلت إلى السؤال الأخير، سؤال غريب زعزعني، سؤال لم أعرفه ولكن غيّر مجرى حياتي
كلّه، فتّح عينيّ على ناحية لم أدرسها جيّدا لأنّها لم تكن موجودة ولا في أي صفحة
من الصفحات التي بين يديّ، كان السؤال هو التالي : ما هو اسم عاملة التنظيفات في المعهد؟
أدهشني السؤال، سؤال من خارج المنهاج ولكنه من صلب المنهاج في آن. انتبهت الى نقطة
جوهريّة وهي ان النجاح يتطلّب معرفة أمور لا علاقة لها مباشرة بالتخصّص. اعتبرت
الممرضّة ان السؤال الذي لم تحسن الإجابة عليه كان أجمل درس تعلّمته في مدرسة التمريض،
وهو ان المؤسسة الناجحة هي التي تهتمّ حتّى بأبسط عامل في المؤسسة، والممرّضة لا
تنكر دهاء الأستاذ التي وضع الأسئلة وفضل سؤاله الماكر الذي غيّر نظرتها لمهنتها
وللحياة.
وثمّة حكاية اخرى يرويها
مؤسس سلسلة فنادق ماريوت الشهيرة. يقول بيل نجل ماريوت انه كان في المرحلة الأخيرة
من دراسته الجامعية وكان يخدم في البحرية الاميركية برتبة ملازم. يذكر ان الجنرال
ايزنهاور كان على صداقة مع والده، وقام، ذات يوم، ايزنهاور بزيارة مزرعة والده.
كان الطقس باردا، شديد البرودة، وكان والد بيل قد هيّأ في الحديقة مكاناً ليمارس
فيه ايزنهاور هواية الرمي. فقال والدي لايزنهاور: هل تفضل ممارسة الرمي ام البقاء
بجوار المدفأة في هذا الجو القارس؟ الاّ ان الجنرال ايزنهاور، لم يقرر بنفسه ماذا
سيختار، وانما استشارني أنا. التفت اليّ وقال: وأنت ما رأيك يا بيل؟ تفاجأت
بالسؤال الذي حوّله اليّ، ارتبكت، وارتبكت الكلمات بين شفتيّ. ومن انا حتى
يستشيرني ذلك الجنرال الأسطوريّ؟ الا انا مجرّد سؤاله أعطاني الجرأة التي حلّت
عقدة لساني، فأجبت من الافضل يا حضرة الجنرال ان تبقى بجوار المدفأة. وكم كانت
دهشتي كبيرة حين قبل الجنرال اقتراحي وألغى مشروع الرماية. كانت طريقة ايزنهاور في
استطلاع آراء المحيطين به مهما كانوا صغار الشأن درسا لبيل في حياته المهنيّة
طبّقه في ادارته لسلسلة الفنادق التي تحمل اسمه فكان ـيصغي بكلّ محبّة لرأي أصغر
عامل في الفندق. ويروي حادثة حصلت معه في احدى الفنادق الجديدة التي ضمّها الى
سلسلته حيث كان يتجوّل في الفندق فدخل المطبخ ووجد عاملا فسأله ثمّة مشكلة في
الفندق وراح يعرضها عليه، ثمّ توجّه اليه بالسؤال: كيف نحلّها برأيك؟ نظر العامل
البسيط الى مدير الفندق الجديد قائلاً: مضى على وجودي في هذا الفندق اكثر من عشرين
عاما ولم يطرح عليّ أحد سؤالاً، كانت اجابة العامل مبلّلة بدموع الفرح إذ شعر
لأوّل مرّة في حياته انه ليس نكرة أو قطعة من أثاث الفندق.
لا يستطيع الا ان يكون نكرة
من يتعامل مع الصغار على انهم نكرة. هكذا كان لسان حال كلّ من تشولز وماريوت
وأستاذ الممرّضة.
واختم مقالي بآيتين قرآنيتين نجهل للأسف أبعادهما
الروحية والفكرية والاجتماعيّة والاقتصادية في آن:" وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ"
(آل عمران/ 15 )، "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ " (الشورى/38) وفي العربية قول مأثور: المشورة لقاح العقول.
الاستبداد بالرأي هو أخصر طريق الى الانهيار، انهيار
القيم والذمم. والمستبدّ، حتّى في أي عمل بسيط، قد يتمتّع بقصر نظر ثاقب! ولكنه لا
يتمتّع، أغلب الظنّ، ببعد النظر ورحابته البناءة.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق