الأربعاء، 11 مارس 2015

دببة وفئران أو الحبّ الجحّاشيّ




دببة وفئران
على أحد أرصفة نهر السين، قريباً من الحي اللاتيني الشهير في العاصمة الفرنسية باريس، كان هناك محلات لبيع الحيوانات الأليفة. كان يبدو لك الرصيف كما لو أنه حديقة حيوانات مصغّرة، بل ينتابك أحياناً لدى سماعك صياحاً مفاجئاً لأحد الديَكة إحساس بأنك في مزرعة او في ريف. يصطحب الأهل أطفالهم الى هذه المحلات للترفيه واكتشاف الطبيعة الحيّة في قلب المدينة.
كنت أصطحب في إحدى المرّات ابنتي الصغيرة، فدلفت الى أحد المحلات. ومن جملة الحيوانات التي تلفت نظر الصغار الفئران البيضاء، وهي تعرض للبيع كغيرها من الحيوانات. والصغار على عكس الكبار يألفون كل الحيوانات الصغيرة، لا يمارسون التمييز العنصري بين الحيوانات على غرار الكبار. دنوت من قفص الفئران، وسرعان ما استرعى انتباهي مشهد غريب، لم تألفه عيني من قبل. وقفت مندهشاً. فأرة كبيرة تلتهم الفئران الصغيرة، تأكلهم وهي تتلفّت بعينيها الزئبقيتين يميناً ويساراً كما لو أنها تخشى ان يسرق وليمتها الحية فأر آخر. أسرعتُ الى صاحب المحل لأخبره بالجريمة التي تقع أحداثها الدامية داخل القفص على أمل إنقاذ الفئران الصغيرة البريئة التي لم ينبت زغبها بعد، ولا تملك أية وسيلة للدفاع عن النفس، فأنت تتعاطف رغماً عنك مع الضعفاء أحياناً! حتى ولو كانوا مجرد فئران.
أقبل صاحب المحلّ بهدوء مزعج وأعصاب باردة وكأنه غير آبه بالضحايا ثم مدّ يده الى داخل القفص وسحب القاتل/ الآكل وضحاياه معاً، ووضعهم جميعاً في قفص آخر منعزل، في جوف المحل. أثار تصرفه استغرابي. تصرّف مريب وأحمق لم يفصل بين القاتل والقتيل. قلت له: ولكنها سوف تتابع، الآن، وليمتها بعيداً عن عيون الناس المزعجة والمتطفلة. قال: لا، اطمئن ان الفئران الصغيرة الآن في مأمن من الالتهام. وراح يشرح لي سبب إقدامها على أكلهم سابقاً، وامتناعها عن أكلهم في الظروف الجديدة التي وُضعت فيها. إن الأم، قال لي، لم تكن في الحقيقة تأكلهم، كما تظن، وهي ليست متوحشة كما تبادر الى ذهنك، إنها أم رؤوم وحنون على أولادها كأية أم مذعورة. كل ما في الأمر، وهذا من حقها الغريزي، أنها خافت على فلذات كبدها من عبث الأصابع التي كانت تنفذ من ثقوب شباك القفص الى صغارها. وهي لا تميّز بين الأصابع التي تمتد للأذيّة والأخرى التي لا تنوي شراً، فالفأرة لا تعلم بنيّات الأصابع الآدمية، ولم تجد في المكان المكتظ الذي هي فيه ملاذاً آمناً لأبنائها غير أحشائها، فصارت تأكلهم وهي تظن أنها تخبّئهم بعيداً عن متناول الأصابع الشرسة.
ذكّرتني هذه الحادثة بقصة قديمة عن رجل كان يملك دُبّاً فانعقدت بينه وبين دُبّه، مع مرور الوقت، أواصر صداقة متينة. وذات يوم ذهب صاحب الدبّ برفقة دبّه الى البرية. وتعب الرجل بعد التطواف وأحبّ ان يأخذ قيلولة. نام الرجل مطمئناً الى عين الدبّ التي ترعاه من اعتداء كواسر البرية. استغرق الرجل في النوم والدبّ مسرور لراحة صاحبه، ولكن لم يكتمل سروره إذ سرعان ما حوّمت ذبابة فوق وجه صاحبه وحطّت على أرنبة أنفه فأزعجته. وانزعج الدبّ لانزعاج صاحبه وغضب على الذبابة التي عكّرت صفو قيلولة صاحبه وقرّر تلقينها درساً فراح يراقبها. والذباب معروف بعناده وحديد بصره. عاود الرجل النوم بينما انشغل الدبّ برصد حركات الذبابة ومطاردتها بعينيه. وسرعان ما حطّت مجدداً على أنف صاحبه. فما كان من الدبّ إلاّ ان تناول حجراً كبيراً وخبطه من كل قلبه وحبّه عليها. كانت الذبابة أسرع من ضربته فمرقت من تحت الحجر الذي استقر فوق وجه صاحبه فهشّمه من قوة الضربة والمحبّة تهشيماً كانت فيه نهاية قيلولته وحياته. لم يصدّق الدبّ عينيه، فهو لم يقصد إيذاء صاحبه، بل على العكس، لقد فعل المستحيل حتى لا تخدش الذبابة أرنبة أنف صاحبه.
لا ريب في ان الدبّ كان صديقاً وفياً ومتفانياً في حبّ صاحبه، كما لا يشك أحد، أيضاً، في ان الفأرة التي كانت تلتهم أبناءها متفانية ومُحبّة لهم من كل جوارحها. ولكن من المعروف ان الحبّ في بعض الأحيان يفعل ما لا تفعله كل أحقاد العالم في حق المحبوب. وعبارة «من الحبّ ما قتل» المأثورة ليست أكثر من ملاحظات واقعية ثاقبة في متاهات المشاعر المعقّدة وفي دهاليز النفس المعتمة. ولعلّه من الصائب إتمام القول المأثور، بعد ان جرى ما جرى للفئران الصغيرة، بعبارة «ومن الحبّ ما أكل».
والأكل قد يكون أيضاً عند الآدميين، فالحبّ متوحش أحياناً ونهوم! يقال ان «العضعضة» - وهي من مخلّفات زمن سحيق - لا تزال سارية المفعول على المستوى العملي بخلاف عبارة أخرى تستعمل أيضاً ولكن تؤخذ على محمل المجاز، فيما أتصوّر، من قبيل «ولد طيّب بيْتّاكل أكْل» او «بنت قد مانّا حلوة بتتّاكل!» وأحياناً مع أضافة تعبير " بلا ملح"!، رغم أننا لا نعيش، أغلب الظن، في ربوع آكلي لحوم البشر!.
ولكن... أنهي بحكاية مختصرة، لم أشهد فصولها بأم عيني كما في قصة الفأرة، فلقد سمعت يوماً في نشرة أخبار فرنسية ضمن فقرة متفرقات «دامية» ان يابانياً قضى على حبيبته وقطّعها كما تقطّع الأضاحي، ثم وضعها في الثلاجة. حين اكتُشفت جريمته تبيّن أنه كان قد التهم نصف معشوقته، وهو لم يأكلها ثأراً وانتقاماً كما فعلت هند بنت عتبة بكبد عمّ الرسول حمزة وإنما أكلها لأنه أحبّها فقط لا غير!!.
‫#‏بلال_عبد_الهادي‬

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق