الأربعاء، 11 مارس 2015

دلالة العانس



اللغة ليست خبيثة، ولكنها تحبّ تسجيل الخباثة. الكلمات وأشكال صيغها والتعابير المأثورة وطريقة دورانها على الألسنة هي صور باللون الفاقع عن واقع غير افتراضيّ، او وجهات نظر، أو آراء مجتمع. الكلمات كالنكت  أو الأمثال تحكي، لسانها طويل. وإن كانت تحكي احيانا على غرار الحماة التي تحكي مع جارتها، وعينُ على أذن كنّتها.

والرجل في مجتمعنا " سادن اللغة"، يلعب بها، وأحياناً تلعب به! في هذا النصّ سأتوقّف عند كلمة لا تخلو من جور، وهي كلمة " عانس" التي سحبت، على اللسّ اللسّ، التاء المربوطة من آخرها لأسباب مريبة، أسباب غير لغويّة. ليس هناك من سبب لغوي يبرّر اسقاط التاء المربوطة من التدوال. فثمّة عوامل غير لغويّة أحيانا تتحكّم بمصائر الكلمات. الحذف كالغياب دالّ، وكلّ دالّ لا يكتفي بمدلول واحد. فالكلمة الواحدة تشبه قبّعة ساحر ماهر يخرج منها أكثر من أرنب دلاليّ.

قلت وأنا أتأمّل كلمة " عانس" ان حذف التاء ، هنا، هو موقف ذكوريّ لعوب، كأنّه يقول:  انّ المرأة تعنس، والرجل لا يعنس. وذلك على غرار ما نقول " امرأة حائض". فالمرأة تحيض والرجل لا يحيض. والمرأة تحبل، والرجل لا يحبل الاّ مجازاً! لذا فهي " حامل" لا "حاملة".

التاء لها، في العربية، حضور ملتبس، فالرجولة تأخذ، في الأسماء، مثلاً التاء المربوطة كمعاوية وعنترة وطلحة ...الخ كما تأخذها في الصفة المشبّهة بالفعل "علاّمة" ، "رحّالة"... إلخ

اي ان للتاء المربوطة أدواراً ووظائفَ تكسر الأسوار الماكرة بين الأجناس.

ولكن اعود الى " عانس" لأطرح السؤال التالي: لماذا لا تأخذ كلمة " عانس"  تاء مربوطة؟  من الذي اغتصب حقّها ، هنا، في التاء المربوطة؟

ان الرجل تعامل مع العنوسة معاملة ذكورية محض، وتعامل معها كما لو أنّ العنوسة امر بيولوجيّ لا اجتماعيّ حيث ان للبيولوجيا سلطاناً على اللغة لا يخفى. فالبيولوجيا هي التي برّرت انهاء خدمات التاء المربوطة في " حائض" بمعنى ان حذف التاء هنا هو لدواع بيولوجيّة ملحوظة، وهذا الأمر البيولوجيّ غير متوفّر في " فاتن"، و"عاقر" مثلاً، وفي "عانس"، أيضاً، الاّ ان الرجل يظنّ انّه لا يعنس وأنه يظلّ دونجوان عصره على شاكلة زير النساء الايطالي سيلفيو برلسكوني!

من حقّ المرأة هنا ان تتشبّث بالتاء المربوطة في " عانس" لتصير عانسة، وتجعل كلمة " عانس" خاصّة بالرجل، وتطالب باستعادة التاء المربوطة في "عاقر" لتصير "عاقرة " وتترك كلمة "عاقر" للرجل الذي لا يتقبّل بالهيّن أن يعترف بما يزعزع مفهوم الفحولة، ويضعضع عضلاتها المفتولة! ولا ريب في أنّ حذف التاء هنا في " عاقر" هو مكر ذكوريّ يجعل العقم حكرا على المرأة، وكأنّ العقم من طبيعة الأرحام وذلك لتبرئة نفسه من آثام منتظرة، ولرفع المسؤوليّة عن سلوك يبدر منه قد يكون أرعن!

وأظنّ ان هذا التغيير البسيط في الاستعمال لبعض المفردات يجعل النظرة الى العنوسة النسائية نظرة أقلّ شراسة ممّا هي عليه الان في مجتمعاتنا الفاقعة الذكورة.

وأنهي بتحية للرجل العانس والفتاة العانسة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق