بدأت معرفتي بالأدب العربي بقراءة حكايات مختارة من "ألف ليلة وليلة"، شأن ذلك شأن كثير من القراء الصينيين. قرأتها بنهم وكنت تلميذا في المدرسة الثانوية قبل أكثر من ثلاثين سنة. لم تترك تلك الحكايات انطباعا خاصا في ذهني سوى أنها حكايات ظريفة ومشوقة. ولم أرجع إليها إلا في وقت متأخر- عندما طلب مني ناشر صيني أن أشارك في جماعة من الأصدقاء لتقديم ترجمة جديدة للكتاب إلى اللغة الصينية. لذا، أتيحت لي إعادة قراءة الحكايات التي سأقوم بترجمتها، وقد اكتشفت عبر هذه القراءة، بل القراءات، القيمة الفنية لهذا العمل الأدبي الخالد. ووجدتني أشاطر رأي أورهان باموك الذي اعترف بصراحة أنه لا يحب "ألف ليلة وليلة" في بداية الأمر لأنها "مليئت بالخيانات والحيل"، ولكن انطباعه تغير بعد قراءتها الثالثة وهو في العقد الثالث من عمره، "ربما يعود ذلك إلى أني عشت بما فيه الكفاية، وعرفت أن الحياة عبارة عن الخيانات والحيل. فأعجب بالمنطلق الدفين لحكاياتها، وبدعاباتها الخفية وغناها وغرابتها، وجمالها وقباحتها، ووقاحتها وصفاقتها. لذا تمكنت من أن أقدر ألف ليلة وليلة على أنها تحفة فنية. وإذا لم نستطع قبول ألف ليلة وليلة كما هي، كان ذلك يعني رفضنا قبول الحياة كما هي، ووقوعنا في مآس دائمة."
بعد التحاقي بالجامعة بدأتُ دراسة اللغة العربية، وبدأتُ قراءة بعض القصص العربية القصيرة، ولكني كنت أشعر دائما بأن هناك مسافة بيني وبين هذه الأعمال، هل يرجع سبب ذلك إلى الجو الثقافي السائد فيها، أو مشاعر شخصياتها، أو أساليبها اللغوية غير المألوفة؟ لست متأكدا. وتغلبت على هذه المسافة أخيرا عندما دخلت السنة الثالثة من مرحلتي الجامعية، حيث قرأت الترجمة الصينية لرواية "الأجنحة المتكسرة" لجبران خليل جبران التي نشرت في مجلة "يي لين" (غابة الترجمة). وتأثرت بقصة الحب المأساوي بين بطلي الرواية، وهي مأساة اقترنت بمآسي البلاد والأمة، كما تأثرت بالسرديات المفعمة بالمشاعر والحِكم التي تتخلل صفحات الرواية. إنها المرة الأولى التي تذوقت فيها جمال الأدب العربي، فاستعرت من أستاذي النسخة العربية للرواية وقضيت أياما ليل نهار لنسخ الرواية بنصها العربي وترجمتها الصينية إلى دفتر. وقد مضت على ذلك أكثر من عشرين عاما حتى الآن، حيث انتقلت من منزل إلى منزل، ولكني ما زلت أحتفظ بهذا الدفتر الذي اصفرّ لونه منذ وقت، لأنه بمثابة تذكار حميم لمحبتي للأدب العربي.
اشتغلت بالتدريس في الجامعة بعد حصولي على الدكتوراه في أوائل تسعينات القرن الماضي، وفوجئت بأن أعمالا كثيرة لجبران لم تترجم بعد إلى اللغة الصينية، منها أعماله المكتوبة بالإنجليزية مثل "المجنون" و"السابق" و"التائه" و"حديقة النبي" وغيرها، ومنها أيضا رسائل حب مكتوبة إلى مي زيادة وماري هاسكل، فبدأت أنهمك في هذا الكنز الأدبي الدفين، قراءة وترجمة. أذكر أن ذلك كان في أوائل الشتاء القارس، وقد فتح العمال فتحات في جدار مسكني لتركيب رادياتور (مشعاع) التدفئة، ولكنهم لم يسدّوا هذه الفتحات إلا بعد أسبوع تقريبا. كنت أجلس تحت المصباح لابسا معطفا قطنيا ثقيلا، بل ألفّ حول جسمي لحافا قطنيا من أجل الاستدفاء، أجلس تحت المصباح لأقرأ وأترجم، دون أن أشعر بالبرد والوحشة، بل كان يغمرني الدفء والغبطة. اليوم، عندما تصفحت أعمال جبران باللغة الصينية التي قمت بترجمتها، خيل إلي أني أحسست بالهواء البارد الممزوج بالتراب الذي تسلل إلى مسكني من فتحات الجدار، وفوق ذلك، أحسست بالدفء الذي كان يبعثه في نفسي الأدب العربي متمثلا في أعمال جبران.
ولم يلبث أن دخل نجيب محفوظ إلى عالمي الروحي بقوة، حيث تمتعت بمتعة لا توصف في قراءة أعماله الروائية: أحزنتني "بداية ونهاية" وجعلتني غارقا في أسى كبير متحسرا على مأساة انهيار أسرة مصرية متوسطة الحال بعد وفاة الوالد؛ واستهوتني ثلاثية "بين القصرين"، وهزتني الأزمة الروحية التي نغّصت بال كمال أحمد عبد الجواد بعد احتكاك هذا الشاب الشرقي بالفكر الغربي، كما كدرت صفاء بالي الذي تعوّد على الهدوء والراحة في البيئة الثقافية الصينية؛ وزادت "أولاد حارتنا"، إحدى الروائع المحفوظية الجريئة التي أعادت النظرة إلى العلاقة بين الله والإنسان، زادت وعمقت إدراكي لمسيرة الإنسان إلى الرقي المعنوي والمعرفي، المسيرة التي ما خلت أبدا من العثرات والعذابات... وقد كان لي شرف اللقاء بنجيب محفوظ في مبنى جريدة الأهرام عام 1987 عندما كنت طالبا مستمعا في جامعة القاهرة. كان في منتهى التواضع واللطف، أذكر أن مترجم الرواية "زقاق المدق" كان معي أيضا، وعندما أهدى صديقي المترجم النسخة الصينية لهذه الرواية إليه، ومعها تمثالا خزفيا ملونا لحصان، كعربون خجول للصداقة بدلا من حق التأليف، قبلهما الأديب الكبير بابتسامة، وشكر المترجم قائلا: "زقاق المدق في الصينية أيضا!" وأذكر أنه كان ثقيل السمع، فاضطررنا إلى رفع الصوت والتكرار حتى يسمع، وأخبرنا في معرض الحديث أنه قرأ من الأعمال الصينية "كتاب الحوار" لكونفوشيوس، ورواية "الركشاوي" للأديب الصيني المعاصر لاو شه، وأعجب بهما كثيرا. وفي عام 2000، حين عكفت على ترجمة كتابه الجديد "أصداء السيرة الذاتية"، كنت أذهب دائما إلى نهر صغير بقرب بيتي، أتمشى في ضفتيه متأملا لحل "ألغاز أبي الهول" التي وضعها محفوظ في ثنايا هذا الكتاب، الصغير بحجمه والكبير بجماله الفكري والفني. وكانت صورته اللطيفة تطفو كثيرا على مخيلتي. وبفضل هذا الكتاب ازدادت معرفتي للحياة: "تبدو الحياة سلسلة من الصراعات والدموع والمخاوف، ولكن لها سحر يفتن ويسكر."
وفي السنوات الأخيرة تشرفت بالتعرف على صديق جديد، ولا يعني ذلك إهمالي لأصدقائي القدامى طبعا! وقد لاحظ بعض معارفي أن حديثي في هذه السنوات لا يخلو من ذكر اسم أدونيس. وليس في الأمر غرابة في رأيي، نظرا لأهمية أدونيس البالغة سواء بالنسبة إلى الشعر العربي الحديث أم الثقافة العربية المعاصرة. وقد كتبتُ في رسالتي الأولى إليه ما يلي: "في السنوات الماضية، وفي ليالي بكين التي انطفأت معظم أضوائها حين انتصل الليل، كان مصباح مكتبي يضئ مؤلفاتك الشعرية أو النثرية، التي قضيت بصحبها أوقاتا سعيدة لا تنسى." ومن دواعي فخري واعتزازي أن أدونيس أثار في الصين عواصف شعرية في السنوات الثلاث الماضية، إذ أن مختاراته الشعرية التي قمت باختيارها وترجمتها وصدرت في مارس عام 2009 تحت عنوان "عزلتي حديقة"، قد أعيدت طباعتها خمس مرات بعد صدورها، أما إذا بحثنا عن اللفظ "أدونيس الشاعر" في محرك البحث الصيني على الإنترنيت، فتصل نتائج البحث إلى مئات الآلاف! هل عليّ، إذن، أن أكتب رسالة جديدة إلى أدونيس قائلا: "في ليالي بكين، بل في ليالي ربوع أرض الصين الشاسعة، يسهر شعرك راقصا ليرافق عددا كبيرا من قرائك ومحبيك في بلاد التنين"؟
اليوم، عندما أتابع مشاهد مؤلمة للمآسي الإنسانية التي تقع يوميا في وطن الشاعر، في أرض سورية الجميلة، أعرف أن قلبه يقطر حزنا بل دماء تحت وطأة الألم، ولشدما تأثرت بأبياته الجميلة عن الوطن:
"وطني وأنا
في قيدٍ واحدٍ:
من أين لي أن أنفصلَ عنه؟
كيف يمكنُ ألا أحبَّه؟"
في هذه اللحظة، تطفو على ذاكرتي أيضا وجوه كثيرة للشعراء والكتاب العرب الذين ترجمت أعمالهم أو قرأتها: بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، صلاح عبد الصبور، أمل دنقل، خليل حاوي، نزار قباني، محمود درويش، سعدي يوسف، الطيب صالح، محمود المسعدي، جمال الغيطاني، علاء الأسواني، زيد مطيع الدماج، سعد الله ونوس، أحلام مستغانمي، ليلى عثمان، فوزية الرشيد ... وجوه لطيفة مبتسمة صبوحة أو وجوه نحيفة حزينة مكفهرة، كلها تركت بصمات لا تمحى في ذاكرتي. يبدو لي، أن الأدب لا يختزن الطاقة التي تمكِّنه من إحداث "الدوي الذي يشق الفضاء"، كما قال أدونيس، ولكن "فيه قوة الحرير وصلابة العسل"، كما قال محمود درويش. فها هو الأدب، استطاع أن يحافظ على الكرامة والنبالة للأمة العربية بعد أن عاشت دهورا من المعاناة والمصائب. وها هو الأدب، جعلني أنا، وعددا لا يحصى من القراء الصينيين، أصدقاء الروح للشعوب العربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق