أطوار طرابلس: من زمن الدولة الى زمن السيبة... المظلوميّة... وأدبيّات السلفيّين ما بين «القاعدة» والثورة السوريّة (2 من 2)
حازم صاغيّة وبيسان الشيخ
السبت ٢٦ يناير ٢٠١٣
إذا كانت «عاصمة الشمال» ظالمة نفسها، فهذا لا يلغي وجود ظالمين آخرين لها. والحال أنّ المظلوميّة واحد من مصطلحات الأدب السياسيّ الطرابلسيّ الجامع.
فعند السلفيّين، هو ظلم مركّب يطاولهم كطرابلسيّين وكسنّة وكسلفيّين. وهم يبدون كمن استجلب هذا المفهوم من الأدبيّات الشيعيّة بغرض استخدامه ضدّ شيعة حزب الله. إلاّ أنّ غيرهم قد يستخدمه كراسب من رواسب الرطانة اليساريّة التي لم تُراجَع.
فعلى مكتب الشيخ حسن الشهّال جريدة محلّيّة اسمها «الرقيب» يقول مانشيتها العريض: «المدينة المظلومة». وبدوره، يستعيد الشيخ ابراهيم الصالح، المناوئ للسلفيّة، هذه المظلوميّة ويردّ بداياتها إلى 1932، حين «عوقبت» المدينة لتأييدها الوحدة السوريّة، كما دُمّر مرفأ طرابلس الذي كان مرفأ لأجزاء واسعة من الداخل السوريّ، وذلك لمصلحة مرفأ بيروت.
على أنّ الثمانينات تبقى مفصلاً أساسيّاً من مفاصل هذا الوعي. ففي مطالعها نشأت «حركة التوحيد» في طرابلس، فيما نشأ «حزب الله» في بيروت والجنوب. غير أنّ المقارنة بين مصائر الحزبين كفيلة بإقناع الإسلاميّ الطرابلسيّ بواقع المظلوميّة الذي كان النظام السوريّ مهندسه الأوّل. ذاك أنّ السوريّين الذين عزّزوا الحزب الشيعيّ، ومدّوه بأسباب القوّة كلّها، دمّروا الحركة السنّيّة ودمّروا معها أجزاء من المدينة قبل أن يُحكموا إخضاع الاثنتين.
والرموز الطرابلسيّة التي اتُّهم النظام السوريّ بقتلها أو بتهجيرها كثيرة. فلقد انتهى الأمر بفاروق المقدّم، أحد وجوه المدينة في السبعينات، «لاجئاً» في جونية، حيث كانت تسيطر «القوّات اللبنانيّة»، فيما استقرّ النائب البعثيّ عبدالمجيد الرافعي في بغداد. أمّا الشيخ صبحي الصالح والصحافيّ سليم اللوزي فكانت حظوظهما أسوأ إذ قضيا اغتيالاً. وعلى الصعيد السنّيّ الأوسع، قُتل باليد ذاتها مفتي الجمهوريّة الشيخ حسن خالد.
وفي هذه الغضون رعى السوريّون إنشاء «جمعيّة المشاريع الخيريّة الإسلاميّة»، أو «الأحباش»، ودعموها. وبما لا يخفى من استفزاز خطّطوا لإيصال أحد شيوخها، نزار الحلبي، إلى منصب مفتي الجمهوريّة. ولم تكن الجمعيّة هذه غير مخلب قطّ للقوّات السوريّة في طرابلس وفي سواها.
ويروي الشيخ بلال الدقماق الذي تحوّل إلى السلفيّة في 1986 وكان له من العمر 16 سنة، أنّ «جمعيّة الهداية والإحسان الإسلاميّة» إنّما «تمّ ضربها في 1995 بسبب حقد النظام السوريّ، وكان ذلك من خلال الأحباش. حصل هذا لدى العثور على كتاب في الجمعيّة يتحدّث عن النصيريّة وعن حافظ الأسد. هكذا تمّ توقيفي، أنا والشيخ رائد كبّارة والشيخ راضي الإسلام الشهّال وإسماعيل اسماعيل، وحُوّلنا إلى التحقيق في عنجر حيث كان التعذيب شرساً. لقد حُلّت الجمعيّة وأُقفلت بالشمع الأحمر».
ثمّ كانت أحداث الضنّيّة في 2000، حيث حاول السلفيّ أبو عائشة، الذي قاتل في أفغانستان، إقامة إمارة إسلاميّة هناك. وكان لتلك الأحداث أن أدّت إلى مقتل أكثر من 35 سلفيّاً واعتقال نحو ستين.
وجاءت أحداث 11 أيلول وكانت طرابلس، كما يقول الدقماق، ممسوكة بقوّة من السوريّين، فعوملوا «بوصفهم سنّة». هكذا أُخضعوا لموجبات التنسيق الأمنيّ بين السوريّين والأميركيّين. بعد ذاك طرأت المواجهة الشرسة، والغامضة، في 2007، في مخيّم نهر البارد شمال طرابلس. وهذه خلّفت، بدورها، تدمير المخيّم وسقوط أعداد من القتلى، سلفيّين وغير سلفيّين، فضلاً عن قتلى الجيش اللبنانيّ. وهنا أيضاً أضيف معتقلون آخرون إلى معتقلي الضنّيّة ليتحوّل «مساجين سجن رومية» إلى أبرز علامات المظلوميّة السلفيّة، وربّما رافعتهم إلى مزيد من القوّة والتمكين. ولئن شكّل الموقع الذي احتلّه رفيق الحريري في «دولة بشّار وحزب الله» تسكيناً نسبيّاً للجرح السنّيّ، فإنّ اغتياله في 2005، أضفى على تلك المظلوميّة طابعاً إطلاقيّاً. ثمّ أتى احتلال بيروت في 2008 مِلحاً على الجرح، الأمر الذي أثار، وفق الدقماق، ندماً واسعاً على ضرب «فتح الإسلام» في نهر البارد و «عصبة الأنصار» في صيدا ممّن كان في وسعهم أن يدافعوا عن السنّة المظلومين.
وفي عمومها كانت تلك وجهة ملتوية يختطّها النظام السوريّ. فهو قمع هذه البيئة بقسوة، مباشرة أو مداورة، بيد أنّه باليد الأخرى سهّل انتقال كثيرين من أبنائها للقتال في العراق ضمن صفوف المقاومات السنّيّة.
ولدى سؤاله عمّن هو عدوّه الرقم 1، لا يتردّد الشيخ بلال الدقماق في الإجابة القاطعة: الفرس. والتعبير الأخير يغطّي، عنده، رقعة تمتدّ من إيران إلى حزب الله ممّن يصفهم بالمذهبيّة والوقوف مع النظام السوريّ.
والحال أنّ سلاح حزب الله يبقى الذريعة الأولى لدى من يدافعون عن السلاح في طرابلس، إذ لماذا يحقّ لهم التسلّح في العاصمة الأولى ولا يحقّ لنا التسلّح في العاصمة الثانية؟
أكثر من هذا، يقول حسن الشهّال إنّ لدى حزب الله مجموعات في طرابلس نفسها، وإنّ لديه حلفاء يموّلهم. لكنّ هؤلاء، على رغم التمويل والسلاح، لا يستطيعون الوقوف ضدّ جوّ المدينة العامّ. ويشير آخرون إلى أنّ حزب الله يخترق «حركة التوحيد» والشيخ بلال شعبان، لكنّ الشيخ حليحل يرى أنّ ذلك لم يمنع شعبان من تقديم مساعدات إنسانيّة للنازحين السوريّين بسبب ذاك الإجماع العريض حول الموضوع السوريّ في المدينة.
وهو بالفعل إجماع يحمل المتَّهمين بعلاقة ما مع حزب الله على التنصّل. فعمر بكري فستق ينفي ما يتردّد عن دعم الحزب له: صحيح أنّه «أخرجني بكفالة من السجن»، لكنّ النائب والمحامي نوّار الساحلي الذي كلّفه الحزب الدفاع عنه، لم يحضر، وفق فستق، سوى جلسة واحدة في المحاكم من أصل عشر جلسات. ومع الخلاف في الموقف من الثورة السوريّة «لم تبق هناك أيّة علاقة بيننا».
القاعدة؟
ويرفض الشيخ رائد حليحل المبالغة التي تصف طرابلس بتورا بورا، مؤكّداً أنّها مدينة متديّنة أصلاً. وهو محقّ على الأرجح، إذ لم تقم في «عاصمة الشمال» إمارة سلفيّة بعد، كما أنّ المسيحيّين والمسلمين غير السلفيّين لا يزال في وسعهم أن يتمتّعوا بحياة يتعاظم الحصار المضروب عليها. لكنّ حليحل، القندهاريّ اللحية والعمامة، اختار لنفسه مظهراً لا يطابق أقواله كثيراً. وبدوره يعترف الشيخ حسن الشهّال بـ «تأثّرات بالقاعدة»، إلاّ أنّه يصفها بأنّها غير منظّمة ولا مؤطّرة، مضيفاً أنّ القاعدة أعطت صورة سيّئة عن الإسلام ساهم فيها «الإعلام الغربيّ واليهوديّ».
ويبقى الصوت الأعلى في إعلان قاعديّته الشيخ عمر بكري فستق، غير الطرابلسيّ والضعيف التأثير في طرابلس. ففستق الذي عاش في بريطانيا وأُبعد عنها، تحوم حول شخصه وحول تمويله علامات استفهام كثيرة تُمعن في إضعافه. وهو إذ يردّ قائلاً إنّ لديه في بريطانيا أربعة آلاف طالب مسلم يشترون شرائطه، لا يفعل إلاّ توسيع جيب الشكّ به. لكنّ ما لا ينتبه إليه الكثيرون من نقّاده أنّ عدم الصدق الذي ينسبونه إليه أقلّ أذى وضرراً من الصدق الذي ينسبه إلى نفسه. فهو، وفق وصفه، «قاعديّ الهوى، قندهاريّ المدرسة»، وعنده أنّ «نسور التوحيد» هم من نفّذوا 11 أيلول، الذي لولاه لما كان «الربيع الإسلاميّ».
والحقّ أنّ الشيخ عمر أكثر من تشعر في حضوره بحضور القرون الوسطى وبانطواء العقل المعتم على ألاعيب بهلوانيّة. فهو الكاريكاتور السلفيّ في ذروة تألّقه، ولكنْ أيضاً في انفلاتٍ لـ «الأنا» المتورّمة عزّ مثيله. فهو يتحدّث عن نفسه في صيغة «عمر فعل» و «عمر قال»، كما ينسّب ذاته إلى تاريخ نضاليّ مديد توّجه طرده من بريطانيا «لأنّني كنت أدعو للخلافة» هناك.
لقد استقبلنا الشيخ عمر في منزله في أبو سمرا، حيث يتراءى أنّ الرطوبة تقيم في جدران المنزل الذي أغلق أبوابه ونوافذه طويلاً في وجه الشمس. لكنّ المنزل يضجّ في داخله بكيتش خشبيّ ينبئ عن ذوق صاحبه.
وهو حين يطلق العنان للسانه، لا ينسى الافتخار بـ «أقارب» له هم من الذوات الذين لا يربطهم رابط بإسلامه. لكنّه، في المقابل، يضع الإسلام في مواجهة الديموقراطيّة التي «ظنّ الغرب أنّها ستنتصر في انتخابات بلدان الربيع الإسلاميّ، فإذا بالناس ينتخبون الإسلام». وهنا يُستثنى من الإسلام كثيرون في طليعتهم «الإخوان» الذين «دعمتهم أميركا كي يكونوا الحاجز دون الإسلام الفعليّ». ومستخدماً بعض لوازم الأدبيّات الإرهابيّة، يحدّثنا عن «حواضن جهاديّة» باتت متوافرة في مصر وتونس وليبيا، وعن «مغانم» على شكل ذهب غنمته «القاعدة» من بيوت ليبيّي النظام السابق. وهو بالطبع لا ينسى التفاخر بدعم «الجهاد» في أفغانستان والشيشان والبوسنة وسواها.
بيد أنّ الشيخ بلال الدقماق يرى أيضاً في أسامة بن لادن مثاله، ويقول إنّ القليل النادر من السلفيّين هم من لا يحبّون زعيم القاعدة. فحين تسأله عن صدّام حسين يجيب: «صدّام كان طاغية، لكنّ أفعاله في أواخر حياته كانت جيّدة، وطريقة قتله والتمثيل بالجثّة أجّجا الخلافات بين السنّة والشيعة».
وفي ذلك كلّه شيء مقلق.
علويّون ومسيحيّون
يشكّل التأزّم السنّيّ – العلويّ وما ينجرّ عنه من اشتباكات بين منطقتي باب التبّانة السنّيّة وبعل محسن العلويّة، نقطة الانفجار المباشرة التي زادها الصراع في سوريّة احتقاناً وخطورة. فالنظام السوريّ رعى طويلاً هذه البؤرة الملتهبة، حتّى إذا اهتزّ زادت حاجته إلى الرعاية والتوظيف بحيث حصدت آخر جولة من الاشتباكات 23 قتيلاً و128 جريحاً.
والحرب الأهليّة المصغّرة والمتقطّعة تلك مرشّحة للتجدّد في أيّة لحظة، خصوصاً أنّها أقلّ الحروب الأهليّة اللبنانيّة تعرّضاً للمراجعة والدرس، وأكثرها اتّصالاً بمجريات الأوضاع في سوريّة وبمصالح نظامها المترنّح.
وبلغة لا تسمّي ولا تعيّن، رأى الشيخ حليحل أنّ كلّ الأطراف مستفيدون من النزاع، رافضاً استخدام الدم لتغيير المعادلات السياسيّة، ونافياً، بالسذاجة المعهودة أو بالخبث المعهود، وجود مشكلة بين السنّة والعلويّين. ذاك أنّ المشكلة عنده هي قيادة رفعت عيد التي ينبغي أن تُطاح، أمّا أهل بعل محسن فمغلوبون على أمرهم، لكنّهم قد يطيحون عيد بعد إطاحة الأسد في سوريّة.
ولا يشذّ حسن الشهّال عن لغة إنكار المشاكل أو التخفيف منها: «فالعلويّون والمسيحيّون من أهل المدينة، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، نحن نحترم أحوالهم الشخصيّة ولا نريد تحويلهم عن دينهم، كلّ ما نبغيه أن تُحترم حقوقنا وديننا». وفي محاولة لتعزيز كلامه بالتاريخ، يضيف أنّ الطرابلسيّين لم «يحسّوا بشيء اسمه علويّ» قبل النظام السوريّ الحاليّ، فيما المشكلة مع رفعت عيد وحزبه «العربيّ الديموقراطيّ»، لا مع العلويّين. لكنّ الأمثلة التي قدّمها على التعايش السابق هي أنّهم «كانوا يشتغلون عندنا في الزيتون والليمون»، وقد «تسنّن بعضهم». أمّا بالنسبة إلى حقوقهم وحقوق المسيحيّين في أن يمارسوا شعائر أو عادات لا يقرّها الإسلام، فهذه كلّها مضمونة لهم في بيوتهم وفي أحيائهم. لكنْ أن تكون هناك أحياء مختلطة ومتداخلة، فهذا ما لا يقع أصلاً في المخيّلة السلفيّة.
يعزّز تلك المخاوف أنّه خلال الأعياد الأخيرة للميلاد ورأس السنة، قامت حملة مناهضة لتزيين الأسواق بشجرة العيد شكّلت سابقة في تاريخ المدينة. وهذا واقع يرادف أفكاراً كأفكار عمر بكري فستق الذي يرى أنّ المسلم وغير المسلم يعيشان في كنف النظام الإسلاميّ ويكونان من رعايا الدولة. وهو يضيّق نطاق حرّيّة غير المسلمين وغير السنّة فيحصرها في «بيوتهم»، جازماً بأنّ القانون في الدولة الإسلاميّة هو الإسلام، وفي ظلّه لن يوجد المكان الذي يقدّم الخمور بتاتاً. أمّا الدقماق فيسمّي العلويّ نصيريّاً، تاركاً لابراهيم الصالح أنّ يركّز على أنّ المستفيد الوحيد من «ذبح» العلويّين في طرابلس هو بشّار الأسد، مشيراً إلى «صورة العلويّين كفقراء وإلى التحرّر الاجتماعيّ لنسائهم، وإلى أنّهم ظلّوا، إلى ما قبل 15 سنة، يتزوّجون في المحاكم السنّيّة».
لقد سمّى الكثيرون من المعلّقين حرب التبّانة وبعل محسن «حرب الفقراء»، وهي فعلاً كذلك ولو كانت حروبُ هؤلاء الفقراء السبب الأبرز لفقرهم.
فطرابلس، التي دمّرتها المواجهات الدمويّة المتوالية منذ 1975، لا سيّما تلك التي شنّتها القوّات السوريّة على ياسر عرفات و«التوحيد» في الثمانينات، لم تعرف أيّ مشروع جدّيّ يبني ما تهدّم، ولم تتعرّض لتجربة حريريّة كالتي تعرّضت لها بيروت وصيدا. صحيح أنّ نجيب ميقاتي رمّم بعض المباني ودهنها في ساحة التلّ، فيما أقام الوزير محمّد الصفدي، بالتعاون مع مؤسّسات أميركيّة وأوروبيّة، مركزاً ثقافيّاً لمحو الأمّيّة وتعليم الكومبيوتر، لكنّ ذلك لا يزن شيئاً بقياس الحاجات الطرابلسيّة الملحّة.
ولمن اعتاد بصره على مرأى البنايات الشاهقة في المدن الأخرى، تبدو مباني طرابلس القديمة كأنّها قصُرت وزمّت، تماماً كما يبدو كلّ شيء آخر كأنّه توقّف في 1975 حين كفّ زمن الدولة وبدأ زمن الحرب.
ومؤخّراً، عقد آل الحلاّب، أباطرة الحلويات العربيّة في المدينة، مؤتمراً صحافيّاً قالوا فيه إنّ 40 في المئة من مداخيلهم تقلّصت، وإنّ هناك 600 مؤسّسة كبيرة وصغيرة في طور الإفلاس.
لقد دُمّر سوق الخضار في التبّانة بسبب الاشتباكات السنّيّة العلويّة وسوف يُنقل إلى مكان آخر، وثمّة محالّ تُغلق بالعشرات في شارع عزمي وشارع نديم الجسر وحتّى في مناطق الضمّ والفرز الجديدة نسبيّاً. وهذا كلّه معطوف على انهيارات أكثر بنيويّة، كمثل تدمير المصانع والمؤسّسات الخدميّة وغير الخدميّة على امتداد الحروب الاهليّة، أو زحف كتل الباطون العشوائيّ ممّا أحلّه المقاولون محلّ بساتين الليمون التي سُمّيت طرابلس «فيحاء» بسبب رائحتها.
وعلى العموم، فعاصمة الشمال مدينة لا تعمل ولا تلهو. إنّها تصلّي وتقاتل.
الثورة السوريّة
لا يدعم السلفيّون الثورة السوريّة كلبنانيّين متضامنين معها، مؤمنين بحقّها، بل يفعلون ذلك كسوريّين منخرطين فيها. فالثورة أظهرت الواقع السلفيّ ولم تنتجه، أو بلغة فستق: «لم يعد أحد، منذ ثمانية أشهر، يجرؤ على مدّ يده إلى واحد من أهل السنّة في لبنان. الشبّان يتجوّلون بأسلحتهم في طرابلس».
وعند حسن الشهّال ترقى الثورة إلى معيار تقاس عليه التحالفات والعداوات الداخليّة في طرابلس. ذاك أنّ عاطفة الإسلاميّين الأقوى «مع الشعب السوريّ ضدّ النظام الظالم». وإذا كان نجيب ميقاتي «يمون على جزء من الحالة الإسلاميّة بسبب مساعداته للجمعيّات الإسلاميّة»، فهذا لا يلغي أنّ المحكّ هو الموقف من النظام السوريّ ومن الثورة عليه.
أمّا الذين يدعمون النازحين السوريّين فليسوا السياسيّين، بل «الطرابلسيّ الشهم الذي يضع السوريّ في قلبه»، وميقاتي لا يستطيع إلاّ أن يأخذ هذا الواقع في اعتباره.
ويرفض الشهّال أن يصبح التأييد تدخّلاً. فحتّى الذين هم في داخل سوريّة يريدون لبنان ملاذاً آمناً لا منطقة صراع. أمّا الشبّان الذين توجّهوا إلى تلكلخ وقُتلوا في كمين نُصب لهم، فهم، في رأيه، شبّان غُرّر بهم واستُدرجوا، «وهناك علامات استفهام كبيرة حول من أخذهم ومن خطّط لهم ومن رتّب ذلك مع النظام السوريّ. لقد سمعنا، ولا نستطيع أن نؤكّد، بوجود دور لحزب الله في ذلك».
ويرى الشيخ رائد حليحل أنّ توجّه الشبّان إلى تلكلخ كان خطأ، لكنّ هناك «من تدفعهم عواطفهم إلى الذهاب».
وحين يحضر الكلام على السلاح في طرابلس، يخفّف الشهّال الأمر، معتبراً أنّ السلاح في طرابلس فرديّ، وأنّه ربّما هُرّب منه شيء إلى سوريّة، لكنّ الجيش اللبنانيّ المنتشر على الحدود يستطيع ضبط ذلك. فالكلام عن تهريب السلاح مبالغ فيه كثيراً، في نظره، خصوصاً أنّ الأسلحة غدت مرتفعة الأثمان فيما الخوف من المعارك مع بعل محسن يحضّ الطرابلسيّين السنّة على ادّخاره.
وبدوره، يجزم حليحل بوجود تجّار سلاح كثيرين من كلّ الأطراف، نافياً أن يكون السوريّون «في حاجة إلى سلاحنا». فهذه الحاجة ربّما وُجدت في بدايات الثورة، أمّا الآن فالأمور تغيّرت كلّيّاً. لكنّ الشيخ متفاجئ، هو أيضاً، بهذا الكمّ الضخم من السلاح في المدينة، لا سيّما في جبل محسن وباب التبّانة!
وإذ يسجّل الشيخ بلال الدقماق أنّ الجمعيّات السلفيّة الخيريّة تساعد النازحين السوريّين، تُسمع تذمّرات خارج البيئة السلفيّة من هذا «الجموح» وهذا «الميل الأعمى» إلى تبرير كلّ شيء بذريعة «صدّ المؤامرة الإيرانيّة والأسديّة». ويتردّد بصمت في هذه البيئة المعترضة أنّ الدعم الراهن للثورة معطوفاً على الوجود السوريّ الطارئ جعل الأموال والمساعدات الخليجيّة تتدفّق على الجمعيّات السلفيّة.
ويبدو الشيخ رائد حليحل، الذي يرعى «معهد الأمين» التابع لوقف إسلاميّ خيريّ، وتتفرّع عنه «دار أُبيّ بن كعب لتحفيظ القرآن»، مهموماً بالمأساة الإنسانيّة في سوريّة. وهو إذ يسجّل أنّ «مدارس الإيمان» ومدارس وزارة التربية استوعبت بعض الطلاّب السوريّين، لا تفوته الإشارة إلى أنّ المطلوب أكثر كثيراً. ويخبرنا الشيخ رائد بأنّ بعض سكّان طرابلس قدّموا بيوتهم للنازحين، وبعضهم قدّموا لهم الغرف التي لا يستخدمونها في بيوتهم، وأنّ الكثيرين، على رغم فقرهم، يتبرّعون لهم. وفي ما خصّ تدامج هذين الجسمين، يسجّل أنّ جامعه وحده تفد إليه قرابة 250 سيّدة سوريّة كلّ خميس وأحد لتلقّي دروس دينيّة وتسلّم مساعدات.
وإذ يرفع أحد الناشطين غير المتعاطفين عدد السوريّين اليوم في طرابلس إلى 200 ألف، يقول الشيخ رائد إنّهم لا يتجاوزون السبعين ألفاً في منطقة الشمال كلّها. فإذا ظهرت إشارات متفرّقة وطفيفة إلى انزعاج الدهّانين والطرّاشين وبعض أبناء المهن الحِرَفيّة من «منافسة السوريّين الذين يقبلون بأجور أقلّ»، فإنّ هذا، في عرف الشيخ، لا يُحسب له حساب قياساً بموجة التأييد الشعبيّ العارم.
نودّع الشيخ حليحل، اللطيف والودود، ونقفل عائدين إلى بيروت. لكنّ شيئاً في طرابلس يُمسك القلب بقبضة من حديد.
مذكّرات طرابلسيّ يقارن التسعينات باليوم
«هناك عند التقاطع المؤدي الى ساحة التل وقف رجال ينادون على المارة لركوب سيارات الأجرة المتوجهة الى بيروت. «بيروووو» «يالله ع بيروووو»، يصيحون مخترقين الزحام ومبتلعين آخر حرف من اسم المدينة مع دخان سجائرهم. يعمل هؤلاء الرجال في استدراج الزبائن لمكاتب السيارات فيما يقوم احدهم بتسجيل دور السائقين لئلا يقتنص واحدهم ركاب الآخر وينطلق مسرعاً بهم. المارة يتجاهلون الرجال وأصواتهم إلا في حال قــــصدوا الذهاب الى بيروت أصلاً، فيتوجهون الى الكاراجات المحـــاذية لحـــديقة «المنشية» خلف ساعة التل ونزولاً منها باتجاه «البولفار». وهم إذ ذاك لا يحــتاجون لمن ينادي عليهم ويقنعهم باجتياز تلك المسافة الفاصلة بين طرابلس وبيروت، والتي تبدو معنوياً على الاقل أطول بكثير مما هي عليه كيلومتراتها الثمانون. لكن الرجال يتسابقون في الصياح وينادون على بضاعتهم من دون هوادة كمن يعرض سمكاً طازجاً اصطاده للتو.
والبضاعة هنا سيارة أجرة يتشارك فيها خمسة ركاب، يجلسون متلاصقين بحميمية يفرضها ضيق المكان والوجهة المشتركة، مع أفضلية تلقائية تمنح للسيدات بعدم اجلاسهن في المقعد الامامي الى جانب الرجال.
مكاتب سيارات الأجرة الى بيروت ومركز انطلاق حافلات الاحدب التي تعود ملكيتها إلى أحد وجوه طرابلس الذين طبعوا المدينة باسمهم، عوني الأحدب، تحتل المدخل الجنوبي مباشرة بعد ساحة عبدالحميد كرامي، كأنها بتموضعها هناك تسارع في تذكير الوافد بطريق العودة قبل أن يطأ عمق المدينة. والأحدب الأب، «فتوّة» زمانه، عرف بمشاكسته العائلات التقليدية جامعاً بين شعبية ابن الحي وبحبوحة اقتصادية بنى عليها زعامة محلية قامت من ضمن ما قامت عليه، على ادخاله أول وسيلة نقل مشترك تجاور فيها أبناء المدينة وأبناء الارياف المجاورة في حافلات تقلّهم الى بيروت. وكان للأحدب شيء من فضل تقريب العاصمة ومذاقاتها وبعض أنماطها من الشماليين في زمن مضى.
«بيروووو» يصرخ الرجال عند نواصي ساحة التل والشوارع المتفرعة عنها، ويمجّون سجائرهم بأسنانهم كأنهم يمضغون تبغها ثم يرتشفون القهوة تلو الاخرى بحركات عصبية، قهوة يبتاعونها بفناجين زجاجية بيضاء مخططة من بائعي قهوة يفترض أنهم جوالون، لكن ركنوا عرباتهم في زوايا لم يبرحوها حتى علق أحدهم لافتة كتب عليها «ليس لدينا فرع آخر». ويتقاسم هؤلاء الأرصفة وجزءاً غير بسيط من الشوارع مع المارة وبسطات تعرض ساعات ونظارات شمسية مقلدة، وأسياخ الشاورما الناتئة عن محالها، والصرافين الذين يعرضون عملات اجنبية في علب زجاجية كأنها واجهات محال منمنمة...
هنا تختلط الاصوات بروائح البن ودخان السجائر والدجاج المشوي وأقراص الفلافل المقلية التي تتطاير شظايا زيتها على العابرين فتلتصق بهم كمزيج دبق. وفي المساء، يتقلص عدد المارة المتسوقين والمهرولين الى بيروت لمصلحة رواد المقاهي من الرجال الموزعين وفق توجهاتهم السياسية بين «النيغريسكو» و «البينكي» و «الاندلس». وبين هذا وذاك، يظهر مساء مرتادو دور السينما مثل الكولورادو وشهرزاد اللتين قرر ذات يوم طلاب الثانويات الخاصة تحويلهما الى نواد اسبوعية للقاءاتهم ونقاشاتهم، فيما بقيت «الكابيتول» المواجهة لهما مرتع الطبقات الدنيا تروج لأفلام مصرية بأفيشات ضخمة ذات ألوان زاهية.
ويختلف زبائن سيارات الأجرة باختلاف الايام وأوقات النهار. ذاك ان مساءات الجمعة والأحد غالباً ما تكون مخصصة للطلاب في رحلات ذهاب وإياب اسبوعية بين سكنهم الجامعي ومنزل الاسرة. فالانتقال الى مرحلة الدراسة الجامعية لا يقطع مع الطفولة قطعاً كاملاً، ولا يؤسس لحياة وصداقات جديدة. بل على العكس تتعزز الاواصر العائلية عبر حقائب يحملها الطلاب في ذهابهم الى بيروت يكدسون فيها ثيابهم النظيفة والمكوية، ووجبات من الطعام المنزلي، محافظين على نكهات مطبخ الأم، ليعودوا بها فارغة في نهاية الاسبوع، مع ثيابهم المتسخة. فتمضي نهاية اسبوعهم بين استقبال ووداع على مدار سنوات تعيدهم في كل مرة الى طرابلس.
وفي أوقات الفجر الاولى، يطغى على المشهد الجنود وعناصر قوى الامن متوجهين الى مراكز خدمتهم العسكرية، والوافدون بدورهم عبر سيارات أجرة من قراهم في عكار والضنية. لكن هؤلاء يقطعون سيراً على الأقدام مسافة تفصل بين مواقف سيارات الارياف التي تبعد شارعاً او اثنين عن مركز السيارات المتجهة الى بيروت. فالأخيرة تحتل الواجهة، أما مواقف الجومة وعكار والكورة والضنية فتبقى في المشهد الخلفي.
تلك طرابلس مطلع التسعينات وأواسطها. مدينة تحاول التقاط الروح بما تيسر بعد عشرية صعبة تأرجحت فيها من حركات اليسار والمنظمات الفلسطينية، فحركة التوحيد الاسلامي بزعامة سعيد شعبان والتدخل السوري الذي ضرب النسيج الاجتماعي بقدر ما فكك الأطر السياسية التقليدية والوافدة. بعد ذاك لم يحل التزمّت دون أن تنشأ مقاهٍ وتُنصب خيام رمضانية في مواسم الصيام تختلط فيها العائلات بالشباب وتصدح فيها موسيقى الفرق الطربية.
لم يأت ذلك التحول بفعل ممنهج أو فرض بالقوة، جاء بطيئاً هادئاً كأنه نعاس انتاب الطرابلسيين فلم يقاوموه. بات حي التبانة المنسي لعقود يختزل المدينة برمّتها، حتى ما عادت تذكر طرابلس في نشرات الأخبار والأحاديث إلا لكونها بؤرة توتر سنّي- علوي. ونجّمت أسماء فتية هاجروا للقتال في العراق، ويرون في سورية اليوم ثورتهم، ويزعمون بين فينة وأخرى إقامة إمارتهم في عاصمة الشمال.
صالات السينما في بولفار عزمي التي أغلقت أبوابها منذ عقد تقريباً لم تتحول لأي شيء يذكر، فلم تتخل عن دور لتقوم بسواه، وإنما تحولت مجرد مداخل أبنية بالية يتسكع فيها بعض الشباب ويقضون حاجتهم احياناً. اليوم ما عاد عابر البولفار لجهة تقاطع التل يسمع ذلك النداء الذي يستبسل في إغرائه للنزول الى العاصمة. مواقف حافلات الاحدب التي صار اسمها «كونيكس» وحافلات «الاكسبرس» الأخرى تركت مكانها لـ «فانات» (ميكروباص) عكار والضنية في ذروة ترييف المدينة. وعوضاً عن «بيرووووو» التي تخرج اليوم أقرب الى حشرجة من حجرة عجوز فاته عمر التقاعد منذ زمن، باتت الوجهة نحو الريف الشمالي».
فعند السلفيّين، هو ظلم مركّب يطاولهم كطرابلسيّين وكسنّة وكسلفيّين. وهم يبدون كمن استجلب هذا المفهوم من الأدبيّات الشيعيّة بغرض استخدامه ضدّ شيعة حزب الله. إلاّ أنّ غيرهم قد يستخدمه كراسب من رواسب الرطانة اليساريّة التي لم تُراجَع.
فعلى مكتب الشيخ حسن الشهّال جريدة محلّيّة اسمها «الرقيب» يقول مانشيتها العريض: «المدينة المظلومة». وبدوره، يستعيد الشيخ ابراهيم الصالح، المناوئ للسلفيّة، هذه المظلوميّة ويردّ بداياتها إلى 1932، حين «عوقبت» المدينة لتأييدها الوحدة السوريّة، كما دُمّر مرفأ طرابلس الذي كان مرفأ لأجزاء واسعة من الداخل السوريّ، وذلك لمصلحة مرفأ بيروت.
على أنّ الثمانينات تبقى مفصلاً أساسيّاً من مفاصل هذا الوعي. ففي مطالعها نشأت «حركة التوحيد» في طرابلس، فيما نشأ «حزب الله» في بيروت والجنوب. غير أنّ المقارنة بين مصائر الحزبين كفيلة بإقناع الإسلاميّ الطرابلسيّ بواقع المظلوميّة الذي كان النظام السوريّ مهندسه الأوّل. ذاك أنّ السوريّين الذين عزّزوا الحزب الشيعيّ، ومدّوه بأسباب القوّة كلّها، دمّروا الحركة السنّيّة ودمّروا معها أجزاء من المدينة قبل أن يُحكموا إخضاع الاثنتين.
والرموز الطرابلسيّة التي اتُّهم النظام السوريّ بقتلها أو بتهجيرها كثيرة. فلقد انتهى الأمر بفاروق المقدّم، أحد وجوه المدينة في السبعينات، «لاجئاً» في جونية، حيث كانت تسيطر «القوّات اللبنانيّة»، فيما استقرّ النائب البعثيّ عبدالمجيد الرافعي في بغداد. أمّا الشيخ صبحي الصالح والصحافيّ سليم اللوزي فكانت حظوظهما أسوأ إذ قضيا اغتيالاً. وعلى الصعيد السنّيّ الأوسع، قُتل باليد ذاتها مفتي الجمهوريّة الشيخ حسن خالد.
وفي هذه الغضون رعى السوريّون إنشاء «جمعيّة المشاريع الخيريّة الإسلاميّة»، أو «الأحباش»، ودعموها. وبما لا يخفى من استفزاز خطّطوا لإيصال أحد شيوخها، نزار الحلبي، إلى منصب مفتي الجمهوريّة. ولم تكن الجمعيّة هذه غير مخلب قطّ للقوّات السوريّة في طرابلس وفي سواها.
ويروي الشيخ بلال الدقماق الذي تحوّل إلى السلفيّة في 1986 وكان له من العمر 16 سنة، أنّ «جمعيّة الهداية والإحسان الإسلاميّة» إنّما «تمّ ضربها في 1995 بسبب حقد النظام السوريّ، وكان ذلك من خلال الأحباش. حصل هذا لدى العثور على كتاب في الجمعيّة يتحدّث عن النصيريّة وعن حافظ الأسد. هكذا تمّ توقيفي، أنا والشيخ رائد كبّارة والشيخ راضي الإسلام الشهّال وإسماعيل اسماعيل، وحُوّلنا إلى التحقيق في عنجر حيث كان التعذيب شرساً. لقد حُلّت الجمعيّة وأُقفلت بالشمع الأحمر».
ثمّ كانت أحداث الضنّيّة في 2000، حيث حاول السلفيّ أبو عائشة، الذي قاتل في أفغانستان، إقامة إمارة إسلاميّة هناك. وكان لتلك الأحداث أن أدّت إلى مقتل أكثر من 35 سلفيّاً واعتقال نحو ستين.
وجاءت أحداث 11 أيلول وكانت طرابلس، كما يقول الدقماق، ممسوكة بقوّة من السوريّين، فعوملوا «بوصفهم سنّة». هكذا أُخضعوا لموجبات التنسيق الأمنيّ بين السوريّين والأميركيّين. بعد ذاك طرأت المواجهة الشرسة، والغامضة، في 2007، في مخيّم نهر البارد شمال طرابلس. وهذه خلّفت، بدورها، تدمير المخيّم وسقوط أعداد من القتلى، سلفيّين وغير سلفيّين، فضلاً عن قتلى الجيش اللبنانيّ. وهنا أيضاً أضيف معتقلون آخرون إلى معتقلي الضنّيّة ليتحوّل «مساجين سجن رومية» إلى أبرز علامات المظلوميّة السلفيّة، وربّما رافعتهم إلى مزيد من القوّة والتمكين. ولئن شكّل الموقع الذي احتلّه رفيق الحريري في «دولة بشّار وحزب الله» تسكيناً نسبيّاً للجرح السنّيّ، فإنّ اغتياله في 2005، أضفى على تلك المظلوميّة طابعاً إطلاقيّاً. ثمّ أتى احتلال بيروت في 2008 مِلحاً على الجرح، الأمر الذي أثار، وفق الدقماق، ندماً واسعاً على ضرب «فتح الإسلام» في نهر البارد و «عصبة الأنصار» في صيدا ممّن كان في وسعهم أن يدافعوا عن السنّة المظلومين.
وفي عمومها كانت تلك وجهة ملتوية يختطّها النظام السوريّ. فهو قمع هذه البيئة بقسوة، مباشرة أو مداورة، بيد أنّه باليد الأخرى سهّل انتقال كثيرين من أبنائها للقتال في العراق ضمن صفوف المقاومات السنّيّة.
ولدى سؤاله عمّن هو عدوّه الرقم 1، لا يتردّد الشيخ بلال الدقماق في الإجابة القاطعة: الفرس. والتعبير الأخير يغطّي، عنده، رقعة تمتدّ من إيران إلى حزب الله ممّن يصفهم بالمذهبيّة والوقوف مع النظام السوريّ.
والحال أنّ سلاح حزب الله يبقى الذريعة الأولى لدى من يدافعون عن السلاح في طرابلس، إذ لماذا يحقّ لهم التسلّح في العاصمة الأولى ولا يحقّ لنا التسلّح في العاصمة الثانية؟
أكثر من هذا، يقول حسن الشهّال إنّ لدى حزب الله مجموعات في طرابلس نفسها، وإنّ لديه حلفاء يموّلهم. لكنّ هؤلاء، على رغم التمويل والسلاح، لا يستطيعون الوقوف ضدّ جوّ المدينة العامّ. ويشير آخرون إلى أنّ حزب الله يخترق «حركة التوحيد» والشيخ بلال شعبان، لكنّ الشيخ حليحل يرى أنّ ذلك لم يمنع شعبان من تقديم مساعدات إنسانيّة للنازحين السوريّين بسبب ذاك الإجماع العريض حول الموضوع السوريّ في المدينة.
وهو بالفعل إجماع يحمل المتَّهمين بعلاقة ما مع حزب الله على التنصّل. فعمر بكري فستق ينفي ما يتردّد عن دعم الحزب له: صحيح أنّه «أخرجني بكفالة من السجن»، لكنّ النائب والمحامي نوّار الساحلي الذي كلّفه الحزب الدفاع عنه، لم يحضر، وفق فستق، سوى جلسة واحدة في المحاكم من أصل عشر جلسات. ومع الخلاف في الموقف من الثورة السوريّة «لم تبق هناك أيّة علاقة بيننا».
القاعدة؟
ويرفض الشيخ رائد حليحل المبالغة التي تصف طرابلس بتورا بورا، مؤكّداً أنّها مدينة متديّنة أصلاً. وهو محقّ على الأرجح، إذ لم تقم في «عاصمة الشمال» إمارة سلفيّة بعد، كما أنّ المسيحيّين والمسلمين غير السلفيّين لا يزال في وسعهم أن يتمتّعوا بحياة يتعاظم الحصار المضروب عليها. لكنّ حليحل، القندهاريّ اللحية والعمامة، اختار لنفسه مظهراً لا يطابق أقواله كثيراً. وبدوره يعترف الشيخ حسن الشهّال بـ «تأثّرات بالقاعدة»، إلاّ أنّه يصفها بأنّها غير منظّمة ولا مؤطّرة، مضيفاً أنّ القاعدة أعطت صورة سيّئة عن الإسلام ساهم فيها «الإعلام الغربيّ واليهوديّ».
ويبقى الصوت الأعلى في إعلان قاعديّته الشيخ عمر بكري فستق، غير الطرابلسيّ والضعيف التأثير في طرابلس. ففستق الذي عاش في بريطانيا وأُبعد عنها، تحوم حول شخصه وحول تمويله علامات استفهام كثيرة تُمعن في إضعافه. وهو إذ يردّ قائلاً إنّ لديه في بريطانيا أربعة آلاف طالب مسلم يشترون شرائطه، لا يفعل إلاّ توسيع جيب الشكّ به. لكنّ ما لا ينتبه إليه الكثيرون من نقّاده أنّ عدم الصدق الذي ينسبونه إليه أقلّ أذى وضرراً من الصدق الذي ينسبه إلى نفسه. فهو، وفق وصفه، «قاعديّ الهوى، قندهاريّ المدرسة»، وعنده أنّ «نسور التوحيد» هم من نفّذوا 11 أيلول، الذي لولاه لما كان «الربيع الإسلاميّ».
والحقّ أنّ الشيخ عمر أكثر من تشعر في حضوره بحضور القرون الوسطى وبانطواء العقل المعتم على ألاعيب بهلوانيّة. فهو الكاريكاتور السلفيّ في ذروة تألّقه، ولكنْ أيضاً في انفلاتٍ لـ «الأنا» المتورّمة عزّ مثيله. فهو يتحدّث عن نفسه في صيغة «عمر فعل» و «عمر قال»، كما ينسّب ذاته إلى تاريخ نضاليّ مديد توّجه طرده من بريطانيا «لأنّني كنت أدعو للخلافة» هناك.
لقد استقبلنا الشيخ عمر في منزله في أبو سمرا، حيث يتراءى أنّ الرطوبة تقيم في جدران المنزل الذي أغلق أبوابه ونوافذه طويلاً في وجه الشمس. لكنّ المنزل يضجّ في داخله بكيتش خشبيّ ينبئ عن ذوق صاحبه.
وهو حين يطلق العنان للسانه، لا ينسى الافتخار بـ «أقارب» له هم من الذوات الذين لا يربطهم رابط بإسلامه. لكنّه، في المقابل، يضع الإسلام في مواجهة الديموقراطيّة التي «ظنّ الغرب أنّها ستنتصر في انتخابات بلدان الربيع الإسلاميّ، فإذا بالناس ينتخبون الإسلام». وهنا يُستثنى من الإسلام كثيرون في طليعتهم «الإخوان» الذين «دعمتهم أميركا كي يكونوا الحاجز دون الإسلام الفعليّ». ومستخدماً بعض لوازم الأدبيّات الإرهابيّة، يحدّثنا عن «حواضن جهاديّة» باتت متوافرة في مصر وتونس وليبيا، وعن «مغانم» على شكل ذهب غنمته «القاعدة» من بيوت ليبيّي النظام السابق. وهو بالطبع لا ينسى التفاخر بدعم «الجهاد» في أفغانستان والشيشان والبوسنة وسواها.
بيد أنّ الشيخ بلال الدقماق يرى أيضاً في أسامة بن لادن مثاله، ويقول إنّ القليل النادر من السلفيّين هم من لا يحبّون زعيم القاعدة. فحين تسأله عن صدّام حسين يجيب: «صدّام كان طاغية، لكنّ أفعاله في أواخر حياته كانت جيّدة، وطريقة قتله والتمثيل بالجثّة أجّجا الخلافات بين السنّة والشيعة».
وفي ذلك كلّه شيء مقلق.
علويّون ومسيحيّون
يشكّل التأزّم السنّيّ – العلويّ وما ينجرّ عنه من اشتباكات بين منطقتي باب التبّانة السنّيّة وبعل محسن العلويّة، نقطة الانفجار المباشرة التي زادها الصراع في سوريّة احتقاناً وخطورة. فالنظام السوريّ رعى طويلاً هذه البؤرة الملتهبة، حتّى إذا اهتزّ زادت حاجته إلى الرعاية والتوظيف بحيث حصدت آخر جولة من الاشتباكات 23 قتيلاً و128 جريحاً.
والحرب الأهليّة المصغّرة والمتقطّعة تلك مرشّحة للتجدّد في أيّة لحظة، خصوصاً أنّها أقلّ الحروب الأهليّة اللبنانيّة تعرّضاً للمراجعة والدرس، وأكثرها اتّصالاً بمجريات الأوضاع في سوريّة وبمصالح نظامها المترنّح.
وبلغة لا تسمّي ولا تعيّن، رأى الشيخ حليحل أنّ كلّ الأطراف مستفيدون من النزاع، رافضاً استخدام الدم لتغيير المعادلات السياسيّة، ونافياً، بالسذاجة المعهودة أو بالخبث المعهود، وجود مشكلة بين السنّة والعلويّين. ذاك أنّ المشكلة عنده هي قيادة رفعت عيد التي ينبغي أن تُطاح، أمّا أهل بعل محسن فمغلوبون على أمرهم، لكنّهم قد يطيحون عيد بعد إطاحة الأسد في سوريّة.
ولا يشذّ حسن الشهّال عن لغة إنكار المشاكل أو التخفيف منها: «فالعلويّون والمسيحيّون من أهل المدينة، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، نحن نحترم أحوالهم الشخصيّة ولا نريد تحويلهم عن دينهم، كلّ ما نبغيه أن تُحترم حقوقنا وديننا». وفي محاولة لتعزيز كلامه بالتاريخ، يضيف أنّ الطرابلسيّين لم «يحسّوا بشيء اسمه علويّ» قبل النظام السوريّ الحاليّ، فيما المشكلة مع رفعت عيد وحزبه «العربيّ الديموقراطيّ»، لا مع العلويّين. لكنّ الأمثلة التي قدّمها على التعايش السابق هي أنّهم «كانوا يشتغلون عندنا في الزيتون والليمون»، وقد «تسنّن بعضهم». أمّا بالنسبة إلى حقوقهم وحقوق المسيحيّين في أن يمارسوا شعائر أو عادات لا يقرّها الإسلام، فهذه كلّها مضمونة لهم في بيوتهم وفي أحيائهم. لكنْ أن تكون هناك أحياء مختلطة ومتداخلة، فهذا ما لا يقع أصلاً في المخيّلة السلفيّة.
يعزّز تلك المخاوف أنّه خلال الأعياد الأخيرة للميلاد ورأس السنة، قامت حملة مناهضة لتزيين الأسواق بشجرة العيد شكّلت سابقة في تاريخ المدينة. وهذا واقع يرادف أفكاراً كأفكار عمر بكري فستق الذي يرى أنّ المسلم وغير المسلم يعيشان في كنف النظام الإسلاميّ ويكونان من رعايا الدولة. وهو يضيّق نطاق حرّيّة غير المسلمين وغير السنّة فيحصرها في «بيوتهم»، جازماً بأنّ القانون في الدولة الإسلاميّة هو الإسلام، وفي ظلّه لن يوجد المكان الذي يقدّم الخمور بتاتاً. أمّا الدقماق فيسمّي العلويّ نصيريّاً، تاركاً لابراهيم الصالح أنّ يركّز على أنّ المستفيد الوحيد من «ذبح» العلويّين في طرابلس هو بشّار الأسد، مشيراً إلى «صورة العلويّين كفقراء وإلى التحرّر الاجتماعيّ لنسائهم، وإلى أنّهم ظلّوا، إلى ما قبل 15 سنة، يتزوّجون في المحاكم السنّيّة».
لقد سمّى الكثيرون من المعلّقين حرب التبّانة وبعل محسن «حرب الفقراء»، وهي فعلاً كذلك ولو كانت حروبُ هؤلاء الفقراء السبب الأبرز لفقرهم.
فطرابلس، التي دمّرتها المواجهات الدمويّة المتوالية منذ 1975، لا سيّما تلك التي شنّتها القوّات السوريّة على ياسر عرفات و«التوحيد» في الثمانينات، لم تعرف أيّ مشروع جدّيّ يبني ما تهدّم، ولم تتعرّض لتجربة حريريّة كالتي تعرّضت لها بيروت وصيدا. صحيح أنّ نجيب ميقاتي رمّم بعض المباني ودهنها في ساحة التلّ، فيما أقام الوزير محمّد الصفدي، بالتعاون مع مؤسّسات أميركيّة وأوروبيّة، مركزاً ثقافيّاً لمحو الأمّيّة وتعليم الكومبيوتر، لكنّ ذلك لا يزن شيئاً بقياس الحاجات الطرابلسيّة الملحّة.
ولمن اعتاد بصره على مرأى البنايات الشاهقة في المدن الأخرى، تبدو مباني طرابلس القديمة كأنّها قصُرت وزمّت، تماماً كما يبدو كلّ شيء آخر كأنّه توقّف في 1975 حين كفّ زمن الدولة وبدأ زمن الحرب.
ومؤخّراً، عقد آل الحلاّب، أباطرة الحلويات العربيّة في المدينة، مؤتمراً صحافيّاً قالوا فيه إنّ 40 في المئة من مداخيلهم تقلّصت، وإنّ هناك 600 مؤسّسة كبيرة وصغيرة في طور الإفلاس.
لقد دُمّر سوق الخضار في التبّانة بسبب الاشتباكات السنّيّة العلويّة وسوف يُنقل إلى مكان آخر، وثمّة محالّ تُغلق بالعشرات في شارع عزمي وشارع نديم الجسر وحتّى في مناطق الضمّ والفرز الجديدة نسبيّاً. وهذا كلّه معطوف على انهيارات أكثر بنيويّة، كمثل تدمير المصانع والمؤسّسات الخدميّة وغير الخدميّة على امتداد الحروب الاهليّة، أو زحف كتل الباطون العشوائيّ ممّا أحلّه المقاولون محلّ بساتين الليمون التي سُمّيت طرابلس «فيحاء» بسبب رائحتها.
وعلى العموم، فعاصمة الشمال مدينة لا تعمل ولا تلهو. إنّها تصلّي وتقاتل.
الثورة السوريّة
لا يدعم السلفيّون الثورة السوريّة كلبنانيّين متضامنين معها، مؤمنين بحقّها، بل يفعلون ذلك كسوريّين منخرطين فيها. فالثورة أظهرت الواقع السلفيّ ولم تنتجه، أو بلغة فستق: «لم يعد أحد، منذ ثمانية أشهر، يجرؤ على مدّ يده إلى واحد من أهل السنّة في لبنان. الشبّان يتجوّلون بأسلحتهم في طرابلس».
وعند حسن الشهّال ترقى الثورة إلى معيار تقاس عليه التحالفات والعداوات الداخليّة في طرابلس. ذاك أنّ عاطفة الإسلاميّين الأقوى «مع الشعب السوريّ ضدّ النظام الظالم». وإذا كان نجيب ميقاتي «يمون على جزء من الحالة الإسلاميّة بسبب مساعداته للجمعيّات الإسلاميّة»، فهذا لا يلغي أنّ المحكّ هو الموقف من النظام السوريّ ومن الثورة عليه.
أمّا الذين يدعمون النازحين السوريّين فليسوا السياسيّين، بل «الطرابلسيّ الشهم الذي يضع السوريّ في قلبه»، وميقاتي لا يستطيع إلاّ أن يأخذ هذا الواقع في اعتباره.
ويرفض الشهّال أن يصبح التأييد تدخّلاً. فحتّى الذين هم في داخل سوريّة يريدون لبنان ملاذاً آمناً لا منطقة صراع. أمّا الشبّان الذين توجّهوا إلى تلكلخ وقُتلوا في كمين نُصب لهم، فهم، في رأيه، شبّان غُرّر بهم واستُدرجوا، «وهناك علامات استفهام كبيرة حول من أخذهم ومن خطّط لهم ومن رتّب ذلك مع النظام السوريّ. لقد سمعنا، ولا نستطيع أن نؤكّد، بوجود دور لحزب الله في ذلك».
ويرى الشيخ رائد حليحل أنّ توجّه الشبّان إلى تلكلخ كان خطأ، لكنّ هناك «من تدفعهم عواطفهم إلى الذهاب».
وحين يحضر الكلام على السلاح في طرابلس، يخفّف الشهّال الأمر، معتبراً أنّ السلاح في طرابلس فرديّ، وأنّه ربّما هُرّب منه شيء إلى سوريّة، لكنّ الجيش اللبنانيّ المنتشر على الحدود يستطيع ضبط ذلك. فالكلام عن تهريب السلاح مبالغ فيه كثيراً، في نظره، خصوصاً أنّ الأسلحة غدت مرتفعة الأثمان فيما الخوف من المعارك مع بعل محسن يحضّ الطرابلسيّين السنّة على ادّخاره.
وبدوره، يجزم حليحل بوجود تجّار سلاح كثيرين من كلّ الأطراف، نافياً أن يكون السوريّون «في حاجة إلى سلاحنا». فهذه الحاجة ربّما وُجدت في بدايات الثورة، أمّا الآن فالأمور تغيّرت كلّيّاً. لكنّ الشيخ متفاجئ، هو أيضاً، بهذا الكمّ الضخم من السلاح في المدينة، لا سيّما في جبل محسن وباب التبّانة!
وإذ يسجّل الشيخ بلال الدقماق أنّ الجمعيّات السلفيّة الخيريّة تساعد النازحين السوريّين، تُسمع تذمّرات خارج البيئة السلفيّة من هذا «الجموح» وهذا «الميل الأعمى» إلى تبرير كلّ شيء بذريعة «صدّ المؤامرة الإيرانيّة والأسديّة». ويتردّد بصمت في هذه البيئة المعترضة أنّ الدعم الراهن للثورة معطوفاً على الوجود السوريّ الطارئ جعل الأموال والمساعدات الخليجيّة تتدفّق على الجمعيّات السلفيّة.
ويبدو الشيخ رائد حليحل، الذي يرعى «معهد الأمين» التابع لوقف إسلاميّ خيريّ، وتتفرّع عنه «دار أُبيّ بن كعب لتحفيظ القرآن»، مهموماً بالمأساة الإنسانيّة في سوريّة. وهو إذ يسجّل أنّ «مدارس الإيمان» ومدارس وزارة التربية استوعبت بعض الطلاّب السوريّين، لا تفوته الإشارة إلى أنّ المطلوب أكثر كثيراً. ويخبرنا الشيخ رائد بأنّ بعض سكّان طرابلس قدّموا بيوتهم للنازحين، وبعضهم قدّموا لهم الغرف التي لا يستخدمونها في بيوتهم، وأنّ الكثيرين، على رغم فقرهم، يتبرّعون لهم. وفي ما خصّ تدامج هذين الجسمين، يسجّل أنّ جامعه وحده تفد إليه قرابة 250 سيّدة سوريّة كلّ خميس وأحد لتلقّي دروس دينيّة وتسلّم مساعدات.
وإذ يرفع أحد الناشطين غير المتعاطفين عدد السوريّين اليوم في طرابلس إلى 200 ألف، يقول الشيخ رائد إنّهم لا يتجاوزون السبعين ألفاً في منطقة الشمال كلّها. فإذا ظهرت إشارات متفرّقة وطفيفة إلى انزعاج الدهّانين والطرّاشين وبعض أبناء المهن الحِرَفيّة من «منافسة السوريّين الذين يقبلون بأجور أقلّ»، فإنّ هذا، في عرف الشيخ، لا يُحسب له حساب قياساً بموجة التأييد الشعبيّ العارم.
نودّع الشيخ حليحل، اللطيف والودود، ونقفل عائدين إلى بيروت. لكنّ شيئاً في طرابلس يُمسك القلب بقبضة من حديد.
مذكّرات طرابلسيّ يقارن التسعينات باليوم
«هناك عند التقاطع المؤدي الى ساحة التل وقف رجال ينادون على المارة لركوب سيارات الأجرة المتوجهة الى بيروت. «بيروووو» «يالله ع بيروووو»، يصيحون مخترقين الزحام ومبتلعين آخر حرف من اسم المدينة مع دخان سجائرهم. يعمل هؤلاء الرجال في استدراج الزبائن لمكاتب السيارات فيما يقوم احدهم بتسجيل دور السائقين لئلا يقتنص واحدهم ركاب الآخر وينطلق مسرعاً بهم. المارة يتجاهلون الرجال وأصواتهم إلا في حال قــــصدوا الذهاب الى بيروت أصلاً، فيتوجهون الى الكاراجات المحـــاذية لحـــديقة «المنشية» خلف ساعة التل ونزولاً منها باتجاه «البولفار». وهم إذ ذاك لا يحــتاجون لمن ينادي عليهم ويقنعهم باجتياز تلك المسافة الفاصلة بين طرابلس وبيروت، والتي تبدو معنوياً على الاقل أطول بكثير مما هي عليه كيلومتراتها الثمانون. لكن الرجال يتسابقون في الصياح وينادون على بضاعتهم من دون هوادة كمن يعرض سمكاً طازجاً اصطاده للتو.
والبضاعة هنا سيارة أجرة يتشارك فيها خمسة ركاب، يجلسون متلاصقين بحميمية يفرضها ضيق المكان والوجهة المشتركة، مع أفضلية تلقائية تمنح للسيدات بعدم اجلاسهن في المقعد الامامي الى جانب الرجال.
مكاتب سيارات الأجرة الى بيروت ومركز انطلاق حافلات الاحدب التي تعود ملكيتها إلى أحد وجوه طرابلس الذين طبعوا المدينة باسمهم، عوني الأحدب، تحتل المدخل الجنوبي مباشرة بعد ساحة عبدالحميد كرامي، كأنها بتموضعها هناك تسارع في تذكير الوافد بطريق العودة قبل أن يطأ عمق المدينة. والأحدب الأب، «فتوّة» زمانه، عرف بمشاكسته العائلات التقليدية جامعاً بين شعبية ابن الحي وبحبوحة اقتصادية بنى عليها زعامة محلية قامت من ضمن ما قامت عليه، على ادخاله أول وسيلة نقل مشترك تجاور فيها أبناء المدينة وأبناء الارياف المجاورة في حافلات تقلّهم الى بيروت. وكان للأحدب شيء من فضل تقريب العاصمة ومذاقاتها وبعض أنماطها من الشماليين في زمن مضى.
«بيروووو» يصرخ الرجال عند نواصي ساحة التل والشوارع المتفرعة عنها، ويمجّون سجائرهم بأسنانهم كأنهم يمضغون تبغها ثم يرتشفون القهوة تلو الاخرى بحركات عصبية، قهوة يبتاعونها بفناجين زجاجية بيضاء مخططة من بائعي قهوة يفترض أنهم جوالون، لكن ركنوا عرباتهم في زوايا لم يبرحوها حتى علق أحدهم لافتة كتب عليها «ليس لدينا فرع آخر». ويتقاسم هؤلاء الأرصفة وجزءاً غير بسيط من الشوارع مع المارة وبسطات تعرض ساعات ونظارات شمسية مقلدة، وأسياخ الشاورما الناتئة عن محالها، والصرافين الذين يعرضون عملات اجنبية في علب زجاجية كأنها واجهات محال منمنمة...
هنا تختلط الاصوات بروائح البن ودخان السجائر والدجاج المشوي وأقراص الفلافل المقلية التي تتطاير شظايا زيتها على العابرين فتلتصق بهم كمزيج دبق. وفي المساء، يتقلص عدد المارة المتسوقين والمهرولين الى بيروت لمصلحة رواد المقاهي من الرجال الموزعين وفق توجهاتهم السياسية بين «النيغريسكو» و «البينكي» و «الاندلس». وبين هذا وذاك، يظهر مساء مرتادو دور السينما مثل الكولورادو وشهرزاد اللتين قرر ذات يوم طلاب الثانويات الخاصة تحويلهما الى نواد اسبوعية للقاءاتهم ونقاشاتهم، فيما بقيت «الكابيتول» المواجهة لهما مرتع الطبقات الدنيا تروج لأفلام مصرية بأفيشات ضخمة ذات ألوان زاهية.
ويختلف زبائن سيارات الأجرة باختلاف الايام وأوقات النهار. ذاك ان مساءات الجمعة والأحد غالباً ما تكون مخصصة للطلاب في رحلات ذهاب وإياب اسبوعية بين سكنهم الجامعي ومنزل الاسرة. فالانتقال الى مرحلة الدراسة الجامعية لا يقطع مع الطفولة قطعاً كاملاً، ولا يؤسس لحياة وصداقات جديدة. بل على العكس تتعزز الاواصر العائلية عبر حقائب يحملها الطلاب في ذهابهم الى بيروت يكدسون فيها ثيابهم النظيفة والمكوية، ووجبات من الطعام المنزلي، محافظين على نكهات مطبخ الأم، ليعودوا بها فارغة في نهاية الاسبوع، مع ثيابهم المتسخة. فتمضي نهاية اسبوعهم بين استقبال ووداع على مدار سنوات تعيدهم في كل مرة الى طرابلس.
وفي أوقات الفجر الاولى، يطغى على المشهد الجنود وعناصر قوى الامن متوجهين الى مراكز خدمتهم العسكرية، والوافدون بدورهم عبر سيارات أجرة من قراهم في عكار والضنية. لكن هؤلاء يقطعون سيراً على الأقدام مسافة تفصل بين مواقف سيارات الارياف التي تبعد شارعاً او اثنين عن مركز السيارات المتجهة الى بيروت. فالأخيرة تحتل الواجهة، أما مواقف الجومة وعكار والكورة والضنية فتبقى في المشهد الخلفي.
تلك طرابلس مطلع التسعينات وأواسطها. مدينة تحاول التقاط الروح بما تيسر بعد عشرية صعبة تأرجحت فيها من حركات اليسار والمنظمات الفلسطينية، فحركة التوحيد الاسلامي بزعامة سعيد شعبان والتدخل السوري الذي ضرب النسيج الاجتماعي بقدر ما فكك الأطر السياسية التقليدية والوافدة. بعد ذاك لم يحل التزمّت دون أن تنشأ مقاهٍ وتُنصب خيام رمضانية في مواسم الصيام تختلط فيها العائلات بالشباب وتصدح فيها موسيقى الفرق الطربية.
لم يأت ذلك التحول بفعل ممنهج أو فرض بالقوة، جاء بطيئاً هادئاً كأنه نعاس انتاب الطرابلسيين فلم يقاوموه. بات حي التبانة المنسي لعقود يختزل المدينة برمّتها، حتى ما عادت تذكر طرابلس في نشرات الأخبار والأحاديث إلا لكونها بؤرة توتر سنّي- علوي. ونجّمت أسماء فتية هاجروا للقتال في العراق، ويرون في سورية اليوم ثورتهم، ويزعمون بين فينة وأخرى إقامة إمارتهم في عاصمة الشمال.
صالات السينما في بولفار عزمي التي أغلقت أبوابها منذ عقد تقريباً لم تتحول لأي شيء يذكر، فلم تتخل عن دور لتقوم بسواه، وإنما تحولت مجرد مداخل أبنية بالية يتسكع فيها بعض الشباب ويقضون حاجتهم احياناً. اليوم ما عاد عابر البولفار لجهة تقاطع التل يسمع ذلك النداء الذي يستبسل في إغرائه للنزول الى العاصمة. مواقف حافلات الاحدب التي صار اسمها «كونيكس» وحافلات «الاكسبرس» الأخرى تركت مكانها لـ «فانات» (ميكروباص) عكار والضنية في ذروة ترييف المدينة. وعوضاً عن «بيرووووو» التي تخرج اليوم أقرب الى حشرجة من حجرة عجوز فاته عمر التقاعد منذ زمن، باتت الوجهة نحو الريف الشمالي».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق