الثلاثاء، 24 مارس 2015

حكاية ميرفت / من مقالات كتاب" لعنة بابل"

ثمّة دراسات كثيرة حول نوع طريف من الكلمات، هي تلك التي تحبّ الأسفار، والتقلّب في البلدان، أو تلك التي تدفعها ظروف حياتها إلى الهجرة من لسان إلى لسان، كما يهاجر الناس تماماً، أي أنّ هجرة الكلمات لا تختلف عن هجرة الأدمغة والأيدي العاملة، ولا بدّ للكلمات كما هو حال الناس من التكيف مع المكان الجديد الذي ترحل إليه، فهي حين ترحل من لسان إلى آخر تغيّر من سلوكها الصوتيّ، ونادراً ما تحتفظ بكلّ ملامحها النطقيّة والصوتيّة الأصليّة، كما أنّ الإنسان حين يهاجر نادراً ما يبقى على ما هو عليه، فالإنسان حين يبدّل البلدان يتبدّل أيضاًَ ولا يبقى هو نفسه، لا يستطيع أن يبقى هو نفسه، يغيّر من بعض عادات أكله ولبسه، فالتغيير سنّة الحياة والسفر، لأنّ بقاء الحال، أيّ حال، من المحال.
لعلّ من أكثر الكلمات تحوّلاً هي الأسماء، أسماء العلم تحديداً. وثمّة باب شيّق لولوج ما يدور في خلد الأمم هو دراسة أسماء العلم فيها، ولا يختلف تداول الأسماء عن تداول الأسهم في البورصة، اسم ترتفع أسهمه، ولهذا دلالة عاطفية ونفسية، دلالة تعبر عن طبيعة تفكير الناس، واسم تنخفض أسهمه أو تتراجع في سوق التداول، ولهذا أيضاً دلالته على تغيّر لحق تفكير الناس، أسباب تحوّلات الأسماء كثيرة، وثمّة كتاب عميق جدّاً، لمن يريد أن يطّلع على الأسماء العربيّة التراثيّة، كتبته الباحثة الفرنسية "Jakline SUBLET" بعنوان: "Le voile du nom, Essai sur le nom propre arabe".
حقول دلاليّة إسميّة تولد وأخرى تموت، وبين الموت والولادة تحوّلات في أنماط التفكير. وكما تتأثّر الشعوب بعضها ببعض على صعيد أشياء الحضارة، من مأكل ومشرب وملبس- إلقاء نظرة بسيطة على "أسماء" مأكولاتنا مثلاً تظهر إلى أيّ حدّ مطبخنا هجين، بالمعنى الايجابيّ للكلمة، مطبخ مطعّم بمذاقات كثيرة غريبة عنّا في الأصل، حملها محتلّ أو مهاجر - كذلك تتأثر الحضارات "إسميّاً" بعضها ببعض، ونسبة تكرار الاسم يتغيّر من جيل إلى جيل، وهنا أتناول نقطة واحدة، هي حال الأسماء التي ترحل من بلادنا، ثمّ تعود بعد غيبة سنوات من دون أن ينتبه أحد إلى أنّ هذه أسماؤنا ردّت إلينا مع تغيير شبه كلّي للملامح الصوتيّة، مثل اسم "ميرفت"، تحملنه فتيات كثيرات، وقد يستغرب البعض إذا قلت إنّ هذا الاسم عربيّ، وبعض آخر قد يستغرب إذا قلت إنّه اسم غير عربيّ، ولكنّه في الحقيقة عربيّ وغير عربيّ في آن! عربي من حيث الأصل، وغريب من حيث الفرع، فهو يحمل من الطباع العربيّة بقدر ما يحمله من الطباع التركيّة، قد يبدو في الأمر غرابة إلاّ أنّ علم الأصوات يرفع حجاب الغرابة عن تطورات هذا الاسم. فحكايته طريفة كحكاية أسماء كثيرة ومفردات عديدة لها سير ذاتية غنية تحمل تجربتها في تجاعيد أصواتها.
إنّ ميرفت هي توأم "مروة" العربية. ولا فرق بين الاثنين. الأولى سافرت والثانية لم تتغرّب. أصل الخلاف طبيعة صوتية. إن ميرفت تتشابه من حيث النهايات بعصمت وشوكت وألفت إلخ، أي أن التغيّر الحاصل هنا هو تغيّر على صعيد التاء الطويلة والتاء القصيرة. في العربيّة شكلان من التاء، والشكل أصل الإشكال، وشكلان من المعاملة وخصوصاً عند الوقف، فالتاء الطويلة تحافظ على هويّتها، ولعلّ طولها جنّبها التشوّهات الصوتية التي أصابت التاء القصيرة إذ إنها تنقلب إلى هاء في الفصحى أو ياء مكسورة في بعض اللهجات. فالمعرفة مثلاً تصير في بعض اللهجات العربية "معرفـ(ي)، والتركيّ كان يجد صعوبة في التمييز بين تحولات التاء، ويواجه مشقّة في التفرقة بين الطول والقصر، فهو غريب عن العربية وهذا التمييز من الدقائق التي يقع في فخّها بعض العرب أنفسهم، فما بالك بمن لم تعتد أذنه على هذه الازدواجية في شخصية التاء الصوتية؟ هذا بالنسبة للتاء ولكن ما وضع الواو؟ أين أختفت واو "مروة"؟ وكيف انقلبت ملامحها الصوتية رأساً على عقب؟ من المعروف أنّ بين صوت وصوت نسباً، بين الفاء والواو صلة رحم قوية، نراها في اللغة التركية كما نراها في اللغة الفارسيّة، واكتفي بأخذ كلمة " ديوان" التي لا تحمل جذوراً عربية، وكيف أنها صارت "divan" في الفرنسية مثلاً، لنلاحظ تحوّل الواو إلى "V" غير الموجودة في الألفباء العربية الفصحى، ففي العربية " F "، وليس "V ". والتركية لا تعرف الـ "واو" في أبجديتها، وأقرب الأصوات رحماً إليها هو حرف الـ"V"، ولهذا اختارته بديلاً عن الواو الغريبة عن عاداتها الصوتية. وبما أنّ الناس على دين سلاطينهم، تسلّل الاسم العربيّ بلكنته التركيّة إلى العالم العربيّ وصار يعيش جنباً إلى جنب مع أصله "مروة"، من غير أن تنتبه "ميرفت" التركيّة إلى أنّها ليست أكثر من تنويع صوتيّ لـ"مروة" العربيّة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق