الثلاثاء، 24 مارس 2015

يوم حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل


"انتفاضة" الادب العربي في اكاديمية ستوكهولم

واخيرا, انهار الجدار, الجدار الصلب والصلد الذي كان ينتصب حائلا دون وصول الادب العربي الى المرتبة العالمية. وانهارت بانهياره عقدة نوبل, جائزة نوبل التي حرم منها طه حسين, والعقاد, وتوفيق الحكيم (اساتذة نجيب محفوظ), والتي يحلم بها ادونيس, والبياتي وغيرهما من كتاب العربية المبدعين, منحت للروائي المصري الكبير نجيب محفوظ.

حدث رائع في واقعنا المفتت الذي تجتاحه أسربة الجراد واسربة الشؤم, ويتكدس فيه رماد جثثنا, ورماد احلامنا, زهرة من الامل نبتت في غابة الوحشة, في هذا الزمن العربي الموحش الى حد الاختناق. فهي المرة الاولى التي يخترق فيها الادب العربي فضاء العالمية. ولا ريب في ان هذا الحدث يستحق التسجيل, ويستدعي الفرح, ويسترعي الاهتمام, ويستولد شيئا من الراحة. فهو يدل اول ما يدل –على ان فن الرواية المسترفد- في أصل النشأة- من الغرب أضحى طيعا في ايدي الادباء العرب, واضحى رديفا للشعر( من حيث ان هذا الاخير كان يمثل ديوان العرب).

واذا ما عرفنا انه كان من بين مرشحي هذا العام لجائزة نوبل الروائي الايطالي البرتو مورافيا, والروائي الانكليزي غبرها مغبرين, فانّ فرحنا بفوز نجيب محفوظ ينحفر في القلب ذكرى حارة, دافئة ويزيح عن صدورنا قليلا صخرة العبث.

مسار الروائي

من حي الجمالية (مسقط رأس الروائي عام 1912) الى ستوكهولم مشوار لم ينته بعد, مع الابداع. فنجيب محفوظ المتميز بدقة الملاحظة وتنبهها, الملاحظة المسجلة في وعي, وفي عمق, خلجات القاهرة ( فالقاهرة هي مسرح اغلب قصصه ورواياته ما عدا ميرامار, واللص والكلاب حيث تدوران في الاسكندرية) ونبض حواريها وازقتها وعالمها وحكايات اولادها, وحكاياتها هي العبقة برائحة التاريخ, وتموجاته الحضارية المتنوعة, والمكتنزة والراسخة, على مر الدهر, كأبي الهول حكواتي زمانها.

بقي نجيب محفوظ – الى منتصف هذا القرن – مغمورا أو كالمغمور. "أول من كتب عني – يقول – سيد قطب, وأنور المعداوي كان هذا أول ما كتب عني في عام 1948 و 1949. منذ ان بدأت الكتابة عام 1929". طوال عشرين عاما وهو يكتب في صمت, وجهد, ومحبة, وتفان يشبه الى حد كبير تفاني الصوفيين "اني اعطي في اعمالي قطعة من قلبي بكل ما فيها", كان يكتب, يدون مصر على الورق, وتمتزج في كتاباته قطع قلبه بالكلام. كان يحترق ويستضيء بجمر الكتابة. فلوبير مصر يشبه الى حد كبير فلوبير فرنسا من حيث الوجع الفيزيائي الذي تسببه الكتابة، فهي تحرق كالجمر, تقلق كالعشق، تعذب ككابوس في العراء. "الكتابة, بالنسبة لي, عملية تعذيب تمزق اعصابي". كان يكتب في صمت مغامراته الكتابية الصامتة, "ولكنها فاعلة", ودائمة, تتعمق عالم القاهرة. "كنت حريصا على ان لا ابدد وقتي ابدا". صمت النقاد آلمه دون ان ينال من عزمه بل امدّه برغبة جموح في مضاعفة العمل "العمل عزائي الوحيد" فهو يسير في طريق اختطها لنفسه, بعد ازمة نفسية حادة او بالاحرى, بعد صراع ذهني بين نوعين من حب الوجود او سبره حيرة الاختيار؛ اين يضع قلبه؟ أفي الادب ام في الفلسفة؟ (وهو الحائز على اجازة في الفلسفة من جامعة مصر عام 1934) هل يتابع رحلته الفلسفية وكانت كتاباته, في ذلك الزمان, تتجه الى المقاربات الفلسفية والاجتماعية, باسلوب مباشر في تناول الاشكال.

ام يلتفت الى نداء قلبه, الغامض, والمبهم, والحاد؟

الذي يدعوه الى الادب؟

هذه الحيرة بين دراسة الوجود وممارسته, انتهت لصالح الادب. وكانت القصة والرواية اسلوبه الممتاز في تجسيد رغبته, وراح ينسل من الخامة القاهرية خيوط شخصياته المتنوعة, الغنية درجة التناقض الحيوي, والتمزق اللاعج. فهي تصور كل الشرائح الموجودة: الشحاذ, والفتوة, والمثقف, ونصف المثقف, والانتهازي, والثوري, والسياسي, والبرجوازي, والممزق نفسيا, كما انه صور المرأة في لحظات تحولها, وفي ثبات حالاتها. من امرأة, مستكينة, الى امرأة متفتحة, على الحياة, مندفعة اليها, طامحة الى استعادة روحها المغمورة بطين العادات. فالمدنية بكل ما فيها كانت اشبه ما تكون بعجينة طيعة, مختمرة في يده يصنع منها أرغفته الادبية المشتهاة؟

المسرح الكبير

ليس الحاضر هو الجسر الوحيد الذي يربط بين القاهرة ونجيب محفوظ. وليس الماضي القريب وحده هو الذي يحتفظ بأسرار القاهرة. بل ثمة الطبقات الحضارية الغائرة في التاريخ هي التي تشكل رؤية محفوظ. فالماضي, بشكل من الاشكال, هو اللاشعور المبذور في طينة الناس, وتصرفات "اولاد الحارة". ولعل هذا في الذات هو ما دفع نجيب محفوظ في بدء حياته الادبية الى تلمس ادوية الحاضر من الماضي الفرعوني (الماهر في الطب). دون ان يشكل ذلك له عقدة الفرعونية. "فثقافتي – كما يقول – عربية, اسلامية, فرعونية, غربية". تيارات متعددة خصبة "تتجاوز في ذهنه من غير تنافر شائن, او تشاجر.

وثمة شيئ آخر, ذو دلالة عميقة هو نقله لكتاب " جيمس بيكي" عن تاريخ مصر لتصقل معرفته لمصر – مسرحه الكبير.

ولقد مر ادب محفوظ في اطوار شكلية, وموضوعية عدة دون ان تكون ثمة شروخ بين الاطوار. فهنالك التاريخية في " عبث الاقدار" و"رادوبيس", و"كفاح طيبة". حيث يتوسل محفوظ التاريخ بساطا الى فهم الحاضر, مع الباسه زيا زمرديا يرمز الى تغيير احاضر وتحريره من الوجود البريطاني الثقيل. اما في رواياته الواقعية كـ "خان الخليلي" و"زقاق المدق" فثمة يأس راجع الى التغير السريع, والطارئ على المجتمع, وما ينتج عن صعوبة في التأقلم, او خطأ في التأقلم او سرعة التأقلم من غير ادراك مما يعمق احساس البطل بوطأة التمزق. كما ساهم في كتابة الرواية النفسية, المنبثقة تصرفات ابطالها من اللاشعور الخفي. كما في "السراب", حيث يعجز البطل عن اقامة حياة زوجية, جنسية عادية لسبب علاقته مع والدته, مما ادى في الختام الى انهياره وانهيارها على السواء.

ولكن فن نجيب محفوظ لم يتأوّج الا في ثلاثيته الرائعة التي تعتبر, بحق, التاريخ المسرود – بشكل فني باهر – للنصف الاول من هذا القرن لحياة القاهرة. فهي رواية الاجيال, وتعاقبها, مع ما طرأ عليها من تغير عمقي, وسطحي, متطور الطموحات, والاحباطات, فهي ارشيف مذهل, حي, للقاهرة بلحمها ودمها وعظمها, وكانت فاتحة الشهرة للروائي كتبها بين عامي (1947 – 1952), اي قبل ثورة 1952 بثلاثة اشهر تقريبا. وكانت معبرة عن انطفاء عهد, وابتداء عهد. كما لو انها نبوءة مؤرخ واع عاش التاريخ بحذافيره او, بكل بساطة, نبوءة فنان مرهف, يستبق الحدث بحدسين, ولكنها لم تنشر الا في عامي (1956 – 1957)ومنح لثلاثيه "بين القصرين" جائزة الدولة للأدب عام 1957, الجائزة التي كان قد فاز بها من قبل طه حسين, وعباس محمود العقاد, وتوفيق الحكيم. وكان ذلك بمثابة تكريس رسمي لابداع الروائي.

المحلية المعمقة

البعض يحلم بجائزة نوبل, كدعم خارجي(عالمي) لعطائه الادبي, اما نجيب محفوظ فكان يحلم بالمحلية. بل كان يرى ان العالمية هي المحلية المعمقة, المكثفة في حي, او زقاق, او حكاية فردية, منتزعة من خبر عادي في صحيفة... فهو يقول: "ان كل داب محلي يتناول قضايا من البيئة هو ادب عالمي" و"ان كل بيئة مهما تحددت فهي خلية انسانية قد تعكس الانسانية جميعا".

فهو والحالة هذه كان يسعى الى العالمية من خلال تصويره الفوتوغرافي للواقع المتعدد الوجوه والملامح في دقة وفي رهافة حس معتبرا ان الادب وان لبس – بعض الاحيان- ازياء اللامعقول. هو ادب واقعي, منتزع "شريحة حية" من عالم الناس. ان الادب وان صور الشذوذ فهو لا يتأى عن الواقع. اذ انه يقتطع كل اشيائه من لحم الحياة. فمن حق الادب ان يجول في كل مطروح, ويتناول الحياة بخوافيها وبواديها, ونتوءاتها وشروخها, وسذاجتها وعمقها, ومألوفها وغريبها, وسويها ومنحرفها, وكان البعض يجد نوعا من المبالغة –عند نجيب محفوظ- في تصير الحياة الاجتماعية, التحتية المرعبة, بألوانها الفاقعة, والانحراف بعريه الاول, النافر. في حين ان انحراف الواقع اقسى واعمق. انحراف غارز كنصل مسموم الى نخاع العظم وكان يقول "رواياتي حشمة بالنسبة للواقع". فالاشياء لا تعالج بالصمت, او بالصوت الخفيض, او التستر, او الاشارة الخفية, الخافتة, او المهدئات المخدرة... بل بالكتابة عنها ننتصر عليها, ما دامت الكتابة ضوءا ثاقبا كرصاصة امراض المجتمع المتفشية كوطاويط اليل. وكان يلح عندما يتطرق الى موضوع العبث الحاحا دالا وجميلا وموجعا في وقت واحد, الا ان العبثية التي يحس بها الانسان ليست قضاء نازلا من السماء قدر ما هي قضاء نابع من قلب الانسان الذي يعبث بمصيره, ومساره.... كما في قصص "تحت المظلة" المكتوبة بعد انكسار 67. في اي حال, عندما ينفد من طريق شخصياته الواقعية, ويقسو في النقد, فإنه يفعل ذلك من وجهة نظر أب يؤلمه سقوط ابنه, او انحرافه, او ثرثرته فوق النيل. هنيئا لنجيب محفوظ (الذي غسل قلوبنا بعطر الحياة) هدية استوكهولم في عيد ميلاده السابع والسبعين (المصادف في الحادي عشر من شهر كانون الاول. ديسمبر – المقبل الذي يلي بيوم واحد موعد استلام الجائزة) اية مصادفة دالة؟

وهنيئا للقاهرة بمدون سيرته في لغة عربية طيعة. وهنيئا للغة العربية دخولها البكر, في العصر الحديث, على يدي نجيب محفوظ حرم العالمية الرسمية.

انه اعتراف من الآخر.......

اعتراف – وان جاء متأخرا - بانتفاضة الادب العربي الذي يقاوم, من زمن النهضة, كل اغراءات السقوط؛ انه حدث\فرحة, وسط ركام الاحزان في ارضنا العربية....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق