الاثنين، 26 أكتوبر 2015

كلام الأزياء والأشياء






بلال عبد الهادي:



هل تفضحنا أشياؤنا؟ وما هو الكلام الذي تقوله عنّا؟ وهل علاقتنا بالأشياء بريئة أمْ أنها تنمّ عن خفايانا؟ ماذا تحكي سيجارتنا عنّا؟ وكيف يعبّر تحريكنا للملعقة في فنجان القهوة عن مكنون النفس؟ وما هو المعنى الذي تكتبه الخواتم على أصابعنا؟ هذه بعض الأسئلة التي يحاول الإجابة عنها عالم النفس الفرنسيّ جوزيف ميسنجر(Joseph Messinger) المتخصّص في قراءة دلالات التواصل غير اللفظي بشتّى أشكاله وقراءة الطرائق المفعمة بالمعنى التي نتعامل بها مع الأشياء، في كتابه اللطيف:"هذه الأشياء التي تشي بنا، لغة المظهر"، (Ces objets qui vous trahissent,le langage du look) الصادر حديثاً بالفرنسيّة عن دار "فيرست إديسيون" في باريس.
وللكاتب باع طويل في تفسير دلالات الأشياء التي يعقد الإنسان بينه وبينها أواصر ودّ وتعلّق إذْ يندر أنْ تجدَ مخلوقاً لا تربطه بشيء من الأشياء علاقة عاطفيّة، حميمة. والكاتب يستلهم أدوات عمله من فتوحات العلوم الإنسانيّة والنظريّة السيميائيّة التي أتاحتْ للعين رصد كلّ المظاهر الاجتماعيّة باعتبارها مجازات لغويّة، فتحلّلها تحليلاً سيميائيّاً فاتناً بلْ تعتبر أنّ كلّ ظاهرةٍ اجتماعيّة لا تختلف إلاّ من حيث الشكلُ عن اللغة التي هي أداة التواصل الأولى ولكن ليست الوحيدة، فالأشياء ليست صمّاء أو خرساء، إنّها ناطقة من غير حنجرة. مفردات لغة السيمياء هي الأشياء التي تلتصق بالإنسان وتشكّل إطاراً مُبْرِزاً لخصائصه وامتداداته، والأشياء تملك ما تملكه اللغة المنطوقة نفسها من قدرة على التخفّي أي الخداع أو إظهار الأمور بدلالات مخالفة لدلالاتها الحياديّة، فالإنسان لا يتعامل مع الأشياء بحياديّة وينقل إليها العدوى فتصير على طَرْزِهِ ملتبسة المعنى، غامضته.
وطرافة كتاب جوزيف ميسنجر أنّه من الكتب النادرة في هذا الميدان الجديد حيث يكرّس حوالي أربعمائة صفحة لقراءة أغلب امتدادات الإنسان الحميمة، كاللباس الذي لا يرى فيه الكاتب مجرد وسيلة لمكافحة مزاج الطبيعة، فالكاتب ينظر إلى اللباس على أنّه طبقة جلديّة أخرى فوق البشرة الطبيعيّة، طبقة تنطِق برغباتنا ومكبوتاتنا على السواء، إنّها شبيهة بالوشوم التي ترسم على الأجساد، ويتعامل مع الثياب على أنّها ضرب من العناية بالبشرة، بل هي بحسب قوله أشبه بـ" صور الأشعّة" التي تكشف خفيّ عواطفنا ومواقفنا وحالاتنا النفسيّة أيضاً. ولا يمكن لنا تجريد الملابس من ملابساتها أوْ سياقاتها التي تمنحها دلالتها الراهنة. والمعروف على الصعيد الاجتماعيّ أنّ اللباس مظهر إنسانيّ بامتياز بل ثمّة كلمة طريفة للكاتب المصريّ عباس محمود العقاد يقول فيها:"إنّ الإنسانَ حيوانٌ لابسٌ"، وهذا ما يؤكّده الكتاب.كما أنّه يدرس بتفصيل ممتع كثيراً من "الإكسسوارات" الضروريّة وغير الضروريّة التي تلازم وجود الإنسان، ويكشف كيف أنّها بمجرّد تحولها إلى امتداد للجسد الذي لا يكتفي بحدوده البيولوجية حتى تتحوّل إلى سجلّ حافل بالمعنى الموصول بنفس صاحبها، وهو يعتبر الأشياء الذي يرتبط بها الإنسان ويبني علاقته معها على نوع من الطقوس، كقلم معيّن أو قدّاحة، "أغراضاً فيتيشيّة " تشبه جسر عبور إلى تماسك الشخصيّة. فكم من كاتب نفرت منه كلماته بمجرّد تغيير قلمه مثلاً. فهو يعتبر أنّ كلّ شيء في حياة الإنسان دالّ، وتكفي فقط الملاحظة المستمرّة لإنطاق هذه الطاقات الدلاليّة. وما يدهشك حقّاً، وأنت تقرأ الكتاب، عينا الكاتب ذاتَا المقدرة الذي تشبه عيني بصّاص لا تغيب عنه دلالات التفاصيل.
تتناثر، على امتداد الكتاب، القطع المستعملة في حياة الإنسان التي ليس لها على مستوى الظاهر أيّ حقل دلاليّ جامع يوحّد بين أشتاتها، ولكن في العمق يتبيّن لنا أنّ الإنسان هو الخيط الناظم لكلّ هذه القطع المتناثرة التي لا تكتسب معناها الثريّ إلا من التصاقها بحياة الإنسان. فيتوقّف عند دلالات التعاويذ والخواتم والأساور والسلاسل والخلاخل والأقراط والجواهر والنظّارات، ويُنْطِقُ الماكياج وإصبع الحمرة وطلاء الأظافر، ويسترسل في الكلام عن السيجارة والقدّاحة وأعواد الثقاب، وعن طريقتنا في تمشيط الشعر وأسرار المحفظة من خلال مقولة:"إفتحْ محفظتك أقلْ لك من أنت" وكذلك الهاتف والحزام والملعقة والقهوة، ويصغي لكلام الألوان والأشياء المكروهة، وكيفيّة تحوّل بعض الأشياء إلى عناصر محظورة، وما تتلفّظ به الجيوب والأقلام والوشوم. هذه عيّنة من الأمور التي يتناولها الكاتب، إلاّ أنّ كلّ هذه الأمور ترتبط بشكل من الأشكال بعضو من الأعضاء الجسدية، وطريقة ارتباطها به تفصح عن دلالات قد لا تخطر ببال، وتولد تراكيب عديدة تصل إلى الألف كما هو الحال مع الخواتم. ولا يمكن تناول كلّ ما يقوله الكاتب بطلاقة عالية تغريك أنْ تصدق أحياناً كلّ ما يقوله بل أنّه يدفعك دفعاً بعد ختام القراءة إلى محاولة البدء برحلتك الخاصّة في تضاعيف دلالات ما تراه وتحياه.
كما أنّه يدرس اللحية أيضاً، ويشير إلى بعض الطرائف من خلال إطلالته التاريخيّة على علاقة الإنسان الأوّل مع لحيته. يقول إنّ وجوه الرسوم والتصاوير القديمة للآلهة كانتْ ملتحية، والى أنّ بعض النسوة كنّ يعمدنَ إلى استخدام لحى مستعارة لتوكيد سلطانهنّ، وهذا ما يقوله الكاتب عن الملكة حتشبسوت، وكيف أنّ إزالة اللحية كانت إذلالاً للأسرى والعبيد أو وسيلة عقاب. ويقول الكاتب إنّ حلق اللحية ربّما كان تعبيراً، في البداية، عن رضوخ الإنسان للآلهة. ولم يصر حلق اللحية عادة شائعة إلاّ بعد أنْ فرض الإسكندر ذلك على جيشه ليكون على أهبة قتاليّة عالية حين تلاحم الأعداء، أمّا الرومان فكانوا يحلقون لحاهم تمييزاً لهم عن البرابرة، أي أنّها كانت لهم بمثابة إثبات هويّة وتفرّد. ويذكر الكاتب أنه كان لا يحقّ لأي بريطاني في عصر اليزابيت أنْ يطلق لحيته لأنّه لا بدّ لمطلقها من أنْ يدفع عليها ضريبة مما أدّى إلى صيرورتها مع الوقت حكراً على الطبقة الأرستقراطية. ويرى الكاتب أنّ اللحية صارت تدلّ، اليوم، على التغيّرات التي تطرأ على حياة الإنسان المهنيّة أو النفسيّة، وبحكم وجود نوعين على الأقلّ لوجه الرجل: وجه ملتحٍ وآخر غير ملتحٍ فثمّة قراءتان ولكن مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار البيئة الغالبة لالتقاط الدلالة. ويشير الكاتب كيف أنّ اللحية كما ترخى لإخفاء ندبة ما في الوجه فإنّها ترخى أحيانا للتمويه، من خلال إخفائها لبعض تعابير الوجه، وهذا ما يقلّص القدرة على القراءة الصحيحة لنَصّ الوجه.
يتوقّف الكاتب عند أعواد الثقاب وطريقة إشعالها لأنّها برأيه قادرة على الوشاية بنفسيّة مستخدمها.ويبدأ كلامه عنها بتساؤل غريب عن الصلة بين الكرم وخيط الكبريت ؟ وبعد ان يمهّد الدرب بالكلام عن النار ورمزيّتها عن الطاقة الحياتيّة، يقول إنّ طريقة إشعال خيط الكبريت ليست واحدة، والإنسان عادة يتصرّف مع خيط الكبريت تصرّفاً عفويّاً، ولكنْ تكمن وراء هذه العفوية بعض ملامح الشخص، فمنهم من يشعلها بتوجيه الشعلة نحو الخارج ومنهم من يوجّهها نحو الداخل، وليس للأمرين دلالة واحدة، فإنْ كانت نحو الداخل فهي تشي بأنانية مستترة، وان كانت نحو الخارج فهي تشي باجتماعيّة الشخص، والأشخاص الاجتماعيّون يصعب عليهم الحياة دون وسط اجتماعيّ أيْ أنّ حياة العزلة بالنسبة لهم لا تحتمل، والكاتب يروي هنا قصص بعض المساجين الذين لا يمكنهم العيش إلاّ في حياة اجتماعيّة فيكون الإفراج عنهم عبئاً ثقيلاً عليهم، لأنّ المجتمع يعزلهم أو ينبذهم فيعودون إلى عالم الجريمة ليس حبّاً بالجريمة وإنّما بهدف العودة إلى السجن لأنّه يشكّل لهم ملاذاً اجتماعيّاً فيؤثرونه على الحريّة المقيّدة بالعزلة.
ولا ريب في أنّ التعاويذ عالم شديد الغنى الاجتماعيّ، ويعتبر الكاتب أنّ من يحمل تعويذة ما، إنّما يفصح عن ضعف وهشاشة في الشخصيّة وعن عدم قدرة على تحمّل المسؤوليّة كاملة، فهو اتكاليّ وتكون التعويذة أشبه بمرشدٍ أو وليّ أمرٍ لإنسان قاصر.
ومن الطريف كلامه عن الحلقة التي تزيّن السُرَّة، وتاريخ استخدام هذه الحلقة والدلالات المتغيّرة التي عبرتها على امتداد التاريخ. لا أحد ينكر رمزيّة السُرّة، بل أنّ ظهورها كان، بحسب القوانين الأمريكية، ممنوعاً على شاشة السينما بين عامي 1930 و1940. من هنا كان تزيينها، بدايةً، بدافع تغطيتها من باب الحشمة، إلا أنّ معنى الحشمة سرعان ما انقلب إلى معنى إغرائيّ. ويشير الكاتب إلى رسالة وجّهتها السلطة الأمريكية إلى مخرج فيلم "ألف ليلة وليلة" الأمريكيّ تتضمّن إعلان حصر الفيلم بالراشدين مع الإشارة إلى إزالة كلّ الصور التي تظهر فيها السُرّة. والكاتب يطرح تساؤلاً عن سُرّة آدم، واحتمال عدم وجودها في بطنه، لأنّه لم يخرج من رحم، ويقول إنّه يكتفي بالإشارة إلى ذلك دون الخوض في التفاصيل.
وحين كلامه عن الأحذية يقول إنّها كانت، بدايةً، تميّز الأحرار من العبيد لأنّه لم يكن للعبد حقّ الانتعال. كما يتكلّم على التعامل مع الأحذية لدى بعض الحضارات كما في اليابان مثلاً حيث لا يحقّ لها الدخول إلى حرم البيت. ويحاول الكاتب، بشكل طريف، قراءة أحوال النفس الإنسانيّة من خلال استهلاك كعب الحذاء، فهو يقول إنّ الطموحين تتآكل أكعاب أحذيتهم من الأطراف الخارجيّة، أمّا استهلاك الأطراف الداخليّة فهي تعني أنّ الإنسان خجول، كتوم، لأنّه يكبح مشيته. ويعرج الكاتب في الكلام على دلالة الخطوة الأولى، فهي بالقدم اليمنى لها دلالات ايجابيّة بخلاف اليسرى.
وللسيجارة أيضاً أحاديثُ وقدرةٌ على الإفصاح ويسمّيها الكاتب "الإصبع الحادية عشرة".ويرصد جوزيف ميسنجر بتمهّل غنيّ أشكال التعامل مع السيجارة وعلاقة السيجارة مع الأصابع ومع المنفضة، والدلالات المختلفة لطرائق إطفاء السيجارة رابطاً كلّ ذلك بحالات النفس المتلوّنة.
للكاتب، لا ريب، جَلَدٌ على تفكيك أدقّ التفاصيل، وهي شيّقة. وما يجعلها مقبولة هو أنّ الكاتب يسردها بأسلوب ألفبائيّ، يسهّل على القارىء مهمّة السياحة في حدائق الأشياء الدالّة عن مكنون السلوك الإنسانيّ ليتوقّف ويقطف ما شاء من مفردات لغة المظاهر التي تمنحنا، أيّاً كان موقفنا منها، هويّتنا الفرديّة وتغلّفنا كالجلد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق