الأربعاء، 14 أكتوبر 2015

الفصل العاشر في الطريق إلى تعلم الكتابة من كتاب ابن الأثير المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر 10-


هذا الفصل هو كنز الكتابة ومنبعها وما رأيت أحدا تكلم فيه بشيء ولما حببت إلي هذه الفضيلة وبلغني الله منها ما بلغني وجدت الطريق ينقسم فيها إلى ثلاث شعب
الأولى أن يتصفح الكاتب كتابة المتقدمين ويطلع على أوضاعهم في استعمال الألفاظ والمعاني ثم يحذو حذوهم وهذه أدنى الطبقات عندي
الثانية أن يمزج كتابة المتقدمين بما يستجيده لنفسه من زيادة حسنة إما في تحسين ألفاظ أو في تحسين معان وهذه هي الطبقة الوسطى وهي أعلى من التي قبلها
الثالثة أن لا يتصفح كتابة المتقدمين ولا يطلع على شيء منها بل يصرف همه إلى حفظ القرآن الكريم وكثير من الأخبار النبوية وعدة من دواوين فحول الشعراء ممن غلب على شعره الإجادة في المعاني والألفاظ ثم يأخذ في الاقتباس من هذه الثلاثة أعني القرآن والأخبار النبوية والأشعار فيقوم ويقع ويخطئ ويصيب ويضل ويهتدي حتى يستقيم على طريقة يفتتحها لنفسه وأخلق بتلك الطريق أن تكون مبتدعة غريبة لا شركة لأحد من المتقدمين فيها وهذه الطريق هي طريق الاجتهاد وصاحبها يعد إماما في فن الكتابة كما يعد الشافعي وأبو حنيفة ومالك رضي الله تعالى عنهم وغيرهم من الأئمة المجتهدين في علم الفقه إلا أنها مستوعرة جدا ولا يستطيعها إلا من رزقه الله تعالى لسانا هجاما وخاطرا رقاما وقد سهلت لك صعابها وذللت محاجها وكنت أشح بإظهار ذلك لما عانيت
في نيله من العناء فإني سلكت إليه كل طريق حتى بلغته آخرا وإنما تكون نفاسة الأشياء لعزة حصولها ومشقة وصولها
  
لَيْسَ حُلْواً وُجُودُكَ الشَّيْءَ تَبْغِيهِ ... طِلاَباً حَتَّى يَعِزَّ طِلاَبُهْ   
ولقد مارست الكتابة ممارسة كشفت لي عن أسرارها وأظفرتني بكنوز جواهرها إذ لم يظفر غيري بأحجارها فما وجدت أعون الأشياء عليها إلا حل آيات القرآن الكريم والأخبار النبوية وحل الأبيات الشعرية وقد قصرت هذا الفصل على ذكر وجوهها وتقسيمها وتمهيد الطريق إلى تعليمها فمن وقف على ما ذكرته علم أني لم آت بشيئا فريا وأن الله قد جعل تحت خواطري من بنات الأفكار سريا وهذه الطريق يجهلها كثير من متعاطي هذه الصناعة والذي يعلمها منهم يرضى بالحواشي والأطراف ويقنع من لآلئها بمعرفة ما في الأصداف ولو استخرج منها ما استخرجت واستنتج ما استنتجت لهام بها في كل واد وتزود إلى سلوك طرقها كل زاد
  
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلاَمَهَا ... خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وَسُجُودَا   
ولا أريد بهذه الطريق أن يكون الكاتب مرتبطا في كتابته بما يستخرجه من القرآن الكريم والأخبار النبوية والشعر بحيث إنه لا ينشئ كتابا إلا من ذلك بل أريد أنه إذا حفظ القرآن الكريم وأكثر من حفظ الأخبار النبوية والأشعار ثم نقب عن ذلك تنقيب مطلع على معانيه مفتش عن دفائنه وقلبه ظهرا لبطن عرف
حينئذ من أين تؤكل الكتف فيما ينشئه من ذات نفسه واستعان بالمحفوظ على الغريزة الطبيعية ألا ترى أن صاحب الاجتهاد من الفقهاء يفتقر إلى معرفة آيات الأحكام وأخبار الأحكام وإلى معرفة الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة وإلى معرفة علم العربية وإلى معرفة الفرائض والحساب من المعلوم والمجهول من أجل مسائل الدور والوصايا وغيرها وإلى معرفة إجماع الصحابة فهذه أدوات الاجتهاد فإذا عرفها استخرج بفكرته حينئذ ما يؤديه إليه اجتهاده كما فعل أبو حنيفة والشافعي ومالك وغيرهم من أئمة الاجتهاد وكذلك يجري الحكم في الكتاب إذا أحب الترقي إلى درجة الاجتهاد في الكتابة فإنه يحتاج إلى أشياء كثيرة قد ذكرتها في صدر كتابي هذا إلا أن رأسها وعمودها وذروة سنامها ثلاثة أشياء هي حفظ القرآن الكريم والإكثار من حفظ الأخبار النبوية والأشعار

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق