الأربعاء، 14 أكتوبر 2015

الفصل الرابع في الترجيح بين المعاني من كتاب ابن الاثير المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر 4-


الفصل الرابع

في الترجيح بين المعاني

وهذا الفصل هو ميزان الخواطر الذي يوزن به نقد درهمها ودينارها بل المحك الذي يعلم منه مقدار عيارها ولا يزن به إلا ذو فكرة متقدة ولمحة منتقذة فليس كل من حمل ميزانا سمي صرافا ولا كل من وزن به سمي عرافا والفرق بين هذا الترجيح الفقهي أن هناك يرجح بين دليلي الخصمين في حكم شرعي وههنا يرجح بين جانبي فصاحة وبلاغة في ألفاظ ومعان خطابية وبيان ذلك أن صاحب الترجيح الفقهي يرجع بين خبر التواتر مثلا وبين خبر الآحاد أو بين المسند والمرسل أو ما جرى هذا المجرى وهذا لا يعرض إليه صاحب علم البيان لأنه ليس من شأنه ولكن الذي هو من شأنه أن يرجح بين حقيقة ومجاز أو بين حقيقتين أو بين مجازين ويكون ناظرا في ذلك كله إلى الصناعة الخطابية ولربما اتفق هو وصاحب الترجيح الفقهي في بعض المواضع كالترجيح بين عام وخاص .أو ما شابه ذلك
وكنا قد قدمنا القول في الحكم على المعاني وانقسامها ولنبين في هذا الفصل مواضع الترجيح بين :
وجوه تأويلاتها فنقول
أما القسم الأول من المعاني فلا تعلق للترجيح به إذا ما دل عليه ظاهر لفظه ولا يحتمل إلا وجها واحدا فليس من هذا الباب في شيء والترجيح إنما يقع بين معنيين يدل عليهما لفظ واحد
ولا يخلو الترجيح بينهما من ثلاثة أقسام إما أن يكون اللفظ حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر أو حقيقة فيهما جميعا أو مجازا فيهما جميعا وليس لنا قسم رابع والترجيح بين الحقيقتين أو بين المجازين يحتاج إلى نظر وأما الترجيح بين
الحقيقة والمجاز فإنه يعلم ببديهة النظر لمكان الاختلاف بينهما والشيئان المختلفان يظهر الفرق بينهما بخلاف ما يظهر بين الشيئين المشتبهين
فمثال الحقيقة والمجاز قوله تعالى   ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون    فالجلود ههنا تفسر حقيقة ومجازا أما الحقيقة فيراد بها الجلود مطلقا وأما المجاز فيراد بها الفروج خاصة وهذا هو الجانب البلاغي الذي يرجح جانب المجاز على الحقيقة لما فيه من لطف الكناية عن المكنى عنه وقد يسأل ههنا في الترجيح بين الحقيقة والمجاز عن غير الجانب البلاغي ويقال ما بيان هذا الترجيح فيقال طريقة لفظ الجلود عام فلا يخلو إما أن يراد به الجلود مطلقا أو يراد به الجوارح التي هي أدوات الأعمال خاصة ولا يجوز أن يراد به الجلود على الإطلاق لأن شهادة غير الجوارح التي هي الفاعلة شهادة باطلة إذ هي شهادة غير شاهد والشهادة غير شاهد والشهادة هنا يراد بها الإقرار فتقول اليد أنا فعلت كذا وكذا وتقول الرجل أنا مشيت إلى كذا وكذا وكذلك الجوارح الباقية تنطق مقرة بأعمالها فترجح بهذا أن يكون المراد به شهادة الجوارح وإذا أريد به الجوارح فلا يخلو إما أن يراد به الكل أو البعض فإن أريد به الكل دخل تحته السمع والبصر ولم يكن لتخصيصهما بالذكر فائدة وإن أريد به البعض فهو بالفرج أخص منه بغيره من الجوارح لأمرين أحدهما أن الجوارح كلها قد ذكرت في القرآن الكريم شاهده على صاحبها بالمعصية ما عدا الفرج فكان حمل الجلد عليه أولى ليستكمل ذكر الجميع الآخر أنه ليس في الجوارح ما يكره التصريح بذكره إلا الفرج فكني عند بالجلد لأنه موضع يكره التصريح فيه بالمسمى على حقيقته
فإن قيل إن تخصيص السمع والبصر بالذكر من باب التفصيل كقوله تعالى   فاكهة ونخل ورمان    والنخل والرمان من الفاكهة
قلت في الجواب هذا القول عليك لا لك لأن النخل والرمان إنما ذكر التفضيل لهما في الشكل أو في الطعم والفضيلة ههنا في ذكر الشهادة إنما هي
تعظيم لأمر المعصية وغير السمع والبصر أعظم في المعصية لأن معصية السمع إنما تكون في سماع غيبة أو في سماع صوت مزمار أو وتر أو ما جرى هذا المجرى ومعصية البصر إنما تكون في النظر إلى محرم وكلتا المعصيتين لا حد فيهما وأما المعاصي التي توجد من غير السمع والبصر فأعظم لأن معصية اليد توجب القطع ومعصية الفرج توجب جلد مائة أو الرجم وهذا أعظم فكان ينبغي أن تخص بالذكر دون السمع والبصر وإذا ثبت فساد ما ذهبت إليه فلم يكن المراد بالجلود إلا الفروج خاصة
وأما مثال المعنيين إذا كانا حقيقيين فقول النبي   التمسوا الرزق في خبايا الأرض    والخبايا جمع خبيئة وهو كل ما يخبأ كائنا ما كان وهذا يدل على معنيين حقيقيين أحدهما الكنوز المخبوأة في بطون الأرض والآخر الحرث والغراس وجانب الحرث والغراس أرجح لأن مواضع الكنوز لا تعلم حتى تلتمس والنبي لا يأمر بذلك لأنه شيء مجهول غير معلوم فبقي المراد بخبايا الأرض ما يحرث ويغرس
وكذلك ورد قوله   إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال    وهذا الحديث مرخص في ترك صلاة الجماعة بسبب المطر وله تأويلان أحدهما أنه أراد نعال الأرض وهو ما غلظ منها والآخر أنه أراد الأحذية والوجه هو الثاني لظهوره في الدلالة على المعنى وأكثر العلماء عليه ولو كان المراد به غلظ من الأرض لخرج عن هذا الحكم كل بلد تكون أرضه سهلة لا غلظ فيها

وأما مثال المعنيين المجازيين فقول أبي تمام 

  قَدْ بَلَوْنَا أَبَا سَعِيدٍ حَدِيثاً ... وَبَلَوْنَا أَبَا سَعِيدٍ قَدِيمَا   
  وَوَرَدْنَاهُ سَاحِلاً وَقَلِيباً ... وَرَعَيْنَاهُ بَارِضاً وَجَمِيما   
  فَعَلِمْنَا أن لَيْسَ إلاَّ بشِقِّ النَّفْسِ ... صَارَ الْكَرِيمُ يُدْعَى كَرِيمَا    

فالساحل والقليب يستخرج منهما تأويلان مجازيان أحدهما أنه أراد بهما الكثير والقليل بالنسبة إلى الساحل والقليب والآخر أنه أراد بهما السبب وغير السبب فإن الساحل لا يحتاج في ورده إلى سبب والقليب يحتاج في ورده إلى سبب وكلا هذين المعنيين مجاز فإن حقيقة الساحل والقليب غيرهما والوجه هو الثاني لأنه أدل على بلاغه القائل ومدح المقول فيه أما بلاغة القائل فالسلامة من هجنة التكرير بالمخالفة بين صدر البيت وعجزه فإن عجزه يدل على القليل والكثير لأن البارض هو أول النبت حين يبدو فإذا كثر وتكاثف سمي جميما فكأنه قال أخذنا منه تبرعا ومسألة وقليلا وكثيرا وأما مدح المقول فيه فلتعداد حالاته الأربع في تبرعه وسؤاله وإكثاره وإقلاله وما في معاناة هذه الأحوال من المشاق
فهذا ما يتعلق بالترجيح البلاغي بين الحقيقة والحقيقة وبين المجاز والمجاز وبين الحقيقة والمجاز
وههنا ترجيح آخر لا يتعلق بما أشرنا إليه إذ هو خارج عما تقتضيه المعاني الخطابية من جهة الفصاحة أو البلاغة وذلك أن يرجح بين معنيين أحدهما تام والآخر مقدر أو يكون أحدهما مناسبا لمعنى تقدمه أو تأخر عنه والآخر غير مناسب أو بأن ينظر في الترجيح بينهما إلى شيء خارج عن اللفظ فمثال المعنيين المشار إليهما أن المعنى التام هو الذي يدل عليه لفظه ولا يتعداه وأما المقدر فهو الذي لا يدل عليه لفظه بل يستدل عليه بقرينة أخرى وتلك القرينة قد تكون من توابعه وقد لا تكون
فمما جاء من ذلك قول النبي   في سائمة الغنم زكاة    فهذا اللفظ يستخرج منه معنيان أحدهما تام والآخر مقدر فالتام دلالته على وجوب الزكاة في السائمة لا غير والمقدر دلالته على سقوط الزكاة عن المعلوفة إلا أنه ليس مفهوما من نفس اللفظ بل من قرينة أخرى هي كالتابعة له وهي أنه لما خصت السائمة بالذكر دون المعلوفة علم من مفهوم ذلك أن المعلوفة لا زكاة فيها وللفقهاء في ذلك مجاذبات جدلية يطول الكلام فيها وليس هذا موضعها والذي يترجح عندي هو القول بفحوى المعنى المقدر وهو الذي يسميه الفقهاء مفهوم الخطاب
وله في الشعر أشباه ونظائر
فمما ورد من ذلك شعرا قول جزء بن كليب الفقعسي من شعراء الحماسة وقد خطب إليه ابن كوز ابنته فرده
  تَبَغَّى ابْنُ كُوزٍ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا ... لِيَسْتَادَ مِنَّا أنْ سَنَوْنَا لَيَالِيَا   
  فَلاَ تَطْلُبِنْهَا يَا ابْنَ كُوزٍ فَإنّهُ ... غَذَا النَّاسُ مُذْ قَامَ النَّبِيُّ الْجَوَارِيَا   
وهذا البيت الثاني يشتمل على المعنيين التام والمقدر أما التام فإن ابن كوز سأل أبا هذه الجارية أن يزوجه إياها في سنة والسنة الجدب فرده وقال قد غذا الناس البنات مذ قام النبي وأنا أيضا أغذو هذه ولولا ذلك لوأدتها كما كانت الجاهلية تفعل وفيه وجه آخر وهو أنهم كانوا يئدون البنات قبل الإسلام فلما جاء النبي نهى عن ذلك فقوله   غذا الناس مذ قام النبي الجواريا    أي في النساء كثرة فتزوج بعضهن وخل ابنتي وهذان المعنيان هما اللذان دل عليهما ظاهر اللفظ وأما المعنى المقدر الذي يعلم من مفهوم الكلام فإنه يقول إن النبي أمر بإحياء البنات ونهى عن الوأد ولو أنكحتكها لكنت قد وأدتها إذ لا فرق بين إنكاحك إياها وبين وأدها وهذا ذم للمخاطب وهو معنى دقيق ومجيء المعاني المستخرجة من المفهومة قليل من الشعر
وأما ما يستدل عليه بقرينة ليست من توابعه فإن ذلك أدق من الأول وألطف مأخذا
فمما ورد منه قول النبي   من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين    فهذا يستخرج منه المعنيان المشار إليهما فالتام منهما يدل على أنه من جعل قاضيا فقد عرض نفسه لخطر عظيم كالذبح بغير سكين وأما المقدر فإنه يدل على أنه من جعل قاضيا فقد أمر بمفارقة هواه وهذا لا يدل عليه اللفظ بنفسه بل يستدل عليه بقرينة أخرى ولكنها ليست من توابعه ووجه ذلك أن لفظ الحديث عام يشمل القضاة على الإطلاق ولا يخلو إما أن يراد به عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا ولا يجوز أن يكون المراد به عذاب الآخرة لأنه ليس كل قاض معذبا في الآخرة بل المعذب منهم قضاة السوء فوضح بهذا أن المراد بالحديث عذاب الدنيا وعلى هذا فلا يخلو إما أن يكون العذاب صورة أو معنى ولا يجوز أن يكون صورة لأنا نرى الإنسان إذا جعل قاضيا لا يذبح ولا يناله شيء من ذلك فبقي أن يكون المراد به عذابا معنويا وهو الذبح المجازي غير الحقيقي وفحوى ذلك أن نفس الإنسان مركبة على حب هواها فإذا جعل قاضيا فقد أمر بترك ما جبل على حبه من الامتناع عن الرشوة والحكم لصديقه على عدوه ورفع
الحجاب بينه وبين الناس والجلوس للحكم في أوقات راحته وغير ذلك من الأشياء المكروهة التي تشق على النفس وتجدد لها ألما مبرحا والذبح هو قطع الحلقوم والألم حاصل به وهو كالذبح الحقيقي بل أشد منه لأن ألم الذبح الحقيقي يكون لحظة واحدة ثم ينقضي ويزول وألم قطع النفس عن هواها يدوم ولا ينقضي وهو أشد العذاب قال الله في عذاب أهل النار   وحيل بينهم وبين ما يشتهون    وقال في نعيم أهل الجنة   وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين   
وكثيرا ما رأينا وسمعنا من حمله حب الشيء على إتلاف نفسه في طلبه وركوب الأهوال من أجله فإذا امتنع عنه مع حبه إياه فقد ذبح نفسه أي قطعها عنه كما يقطع الذابح حلق الذبيحة ولهذا قال النبي   انتقلنا عن الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر    فسمى جهاد الكفار الجهاد الأصغر وجهاد النفس الجهاد الأكبر فكما أن مجاهدة النفس عن هواها قتال بغير سيف فكذلك قطعها عن هواها ذبح بغير سكين وهذا موضع غامض والترجيح فيه مختص بالوجه الآخر لاشتماله على المعنى المقصود وهو المراد من القضاة على الإطلاق
وأما مثال المعنيين إذا كان أحدهما مناسبا لمعنى تقدمه أو لمعنى تأخر عنه والآخر غير مناسب فالأول هو ما كان مناسبا لمعنى تقدمه كقوله تعالى   لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا    فالدعاء ههنا يدل على معنيين أحدهما النهي أن يدعى الرسول باسمه فيقال يا محمد كما يدعو بعضهم بعضا بأسمائهم وإنما يقال له يا رسول الله أو يا نبي الله الآخر النهي أن يجعلوا حضورهم عنده إذا دعاهم لأمر من الأمور كحضور بعضهم عند بعض بل يتأدبون معه بأن لا يفارقوا مجلسه إلا بإذنه وهذا الوجه هو المراد لمناسبة معنى الآية التي قبله وهو قوله تعالى   إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه    وأما الثاني وهو ما كان مناسبا لمعنى تأخر عنه فكقوله تعالى   والتين والزيتون وطور سينين    فالتين والزيتون هما هذا الشجر المعروف وهما اسما جبلين أيضا وتأويلهما بالجبلين أولى

للمناسبة بينهما وبين ما أتى بعدهما من ذكر الجبل الذي هو الطور
وعلى هذا ورد قول الشاعر في أبيات الحماسة
  وَلَوْ كُنْتُ مَوْلَى قَيْسِ عَيْلاَنَ لَمْ تَجِدْ ... عَلَيَّ لإِنْسَانٍ مِنَ النَّاسِ دِرْهَمَا   
وَلكِنَّنِي مَوْلَى قُضَاعَةَ كُلّهَا ... فَلَسْتُ أُبَالِي أَنْ أَدِينَ وَتَغَرَما   
فإذا نظرنا إلى البيت الأول وجدناه يحتمل مدحا وذما أي أنهم كانوا يغنونه بعطائهم أن يدين أو أنه كان يخاف الدين حذر أن لا يقوموا عنه بوفائه لكن البيت الثاني حقق أن الأول ذم وليس بمدح فهذا المعنى لا يتحقق فهمه إلا بآخره
وأما الذي يكون الترجيح فيه بسبب شيء خارج عن مفهوم اللفظ فقوله تعالى   وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم    فهذا مستنبط منه معنيان أحدهما أن الله يعلم السر والجهر في السموات والأرض وفي ذلك تقديم وتأخير أي يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض والآخر أنه في السموات وأنه يعلم السر والجهر في الأرض من بني آدم لأن الوقف يكون على السموات ثم يستأنف الكلام فيقول يعلم سركم وجهركم في الأرض إلا أن هذا يمنع منه اعتقاد التجسيم وذلك شيء خارج عن مفهوم اللفظ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق