الأربعاء، 14 أكتوبر 2015

الفصل الثالث في الحكم على المعاني من كتاب المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر -3

الفصل الثالث
في الحكم على المعاني
وفائدة هذا الفصل الإحاطة بأساليب المعاني على اختلافها وتباينها وصاحب هذه الصناعة مفتقر إلى هذا الفصل والذي يليه بخلاف غيرهما من هذه الفصول المذكورة لا سيما مفسري الأشعار فإنهم به أعنى
واعلم أن الأصل في المعنى أن يحمل على ظاهره لفظه ومن يذهب إلى التأويل يفتقر إلى دليل كقوله تعالى   وثيابك فطهر    فالظاهر من لفظ الثياب هو ما يلبس ومن تأول ذهب إلى أن المراد هو القلب لا الملبوس وهذا لابد له من دليل لأنه عدول عن ظاهر اللفظ وكذلك ورد عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال إذا أردت أن تصلي فادخل بيتك وأغلق بابك فالظاهر من هذا هو البيت والباب ومن تأول ذهب إلى أنه أراد أنك تجمع عليك هم قلبك وتمنع أن يخطر به سوى أمر الصلاة فعبر عن القلب بالبيت وعن منع الخواطر التي تخطر له بإغلاق الباب وهذا يحتاج إلى دليل لأنه عدول عن ظاهر اللفظ فالمعنى المحمول على ظاهره لا يقع في تفسيره خلاف والمعنى المعدول عن ظاهره إلى التأويل يقع فيه الخلاف إذ باب التأويل غير محصور والعلماء متفاوتون في هذا فإنه قد يأخذ بعضهم وجها ضعيفا من التأويل فيكسوه بعبارته قوة تميزه على غيره من الوجود القوية فإن السيف بضاربه
  إِنَّ السُّيُوفَ مَعَ الَّذِينَ قُلُوبُهُمْ ... كَقُلُوبِهِنَّ إِذَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ   
  تَلْقَى الْحُسَامَ عَلَى جَرَاءَةِ حَدِّهِ ... مِثْلَ الْجَبَانِ بِكَفِّ كُلِّ جَبَانِ   
وذهب بعضهم في الفرق بين التفسير والتأويل إلى شيء غير مرضي فقال التفسير بيان وضع اللفظ حقيقة كتفسير الصراط بالطريق والتأويل إظهار باطن
اللفظ كقوله تعالى   إن ربك لبالمرصاد    فتفسيره من الرصد يقال رصدته إذا رقبته وتأويله تحذير العباد من تعدي حدود الله ومخالفة أوامره والذي عندي في ذلك أنه أصاب في الآخر ولم يصب في الأول لأن قوله التفسير بيان وضع اللفظ حقيقة لا مستند لجوازه بل التفسير يطلق على بيان وضع اللفظ حقيقة ومجازا لأنه من الفسر وهو الكشف كتفسير الرصد في الآية المشار إليها بالرقبة وتفسيره بالتحذير من تعدي حدود الله ومخالفة أوامره
وأما التأويل فإنه أحد قسمي التفسير وذاك أنه رجوع عن ظاهر اللفظ وهو مشتق من الأول وهو الرجوع يقال آل يؤل إذا رجع وعلى هذا فإن التأويل خاص و التفسير عام فكل تأويل تفسير وليس كل تفسير تأويلا ولهذا يقال تفسير القرآن ومن تفسيره ظاهر وباطن وهذا الفصل الذي نحن بصدد ذكره ههنا يرجع أكثره إلى التأويل لأنه أدق
ولا يخلو تأويل المعنى من ثلاثة أقسام إما أن يفهم منه شيء واحد لا يحتمل غيره وإما أن يفهم منه الشيء وغيره وتلك الغيرية إما أن تكون ضدا أو لا تكون ضدا وليس لنا قسم رابع
فالأول يقع عليه أكثر الأشعار ولا يجري في الدقة واللطافة مجرى القسمين الآخرين
وأما القسم الثاني فإنه قليل الوقوع جدا وهو من أظرف التأويلات المعنوية لأن دلالة اللفظ على المعنى وضده أغرب من دلالته على المعنى وغيره مما ليس بضده فمما جاء منه قول النبي   صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام    فهذا الحديث يستخرج منه معنيان ضدان أحدهما أن المسجد الحرام أفضل من مسجد رسول الله والآخر أن مسجد رسول الله أفضل من المسجد الحرام أي أن صلاة واحدة فيه لا تفضل ألف صلاة في المسجد الحرام بل تفضل ما دونها بخلاف المساجد الباقية فإن ألف صلاة فيها تقصر عن صلاة واحدة فيه
وكذلك جاء قول النبي أيضا   من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت    وهذا يشتمل على معنيين ضدين أحدهما أن المراد به إذا لم تفعل فعلا تستحي منه فافعل ما شئت والآخر أن المراد به إذا لم يكن لك حياء يزعك عن فعل ما يستحى منه فافعل ما شئت وهذان معنيان ضدان أحدهما مدح والآخر ذم
ومثله ورد في الحديث النبوي أيضا وذلك أنه ذكر شريح الحضرمي عند النبي فقال   لا يتوسد القرآن    وهذا يحتمل مدحا وذما أما المدح فالمراد به أنه لا ينام الليل عن القرآن فيكون القرآن متوسدا معه لم يتهجد به وأما الذم فالمراد به أنه لا يحفظ من القرآن شيئا فإذا نام لم يتوسد معه القرآن وهذان التأويلان من الأضداد
وكثيرا ما يرد أمثال ذلك في الأحاديث النبوية
ويجري على هذا النهج من الشعر قول أبي الطيب في قصيدة يمدح بها كافورا
  وأظْلَمُ أَهْلِ الظُّلْمِ مَنْ بَاتَ حَاسِداً ... لِمَنْ بَاتَ فِي نَعْمَائِهِ يَتَقَلَّبُ   
وهذا البيت يستخرج منه معنيان ضدان أحدهما أن المنعم عليه يحسد المنعم والآخر أن المنعم يحسد المنعم عليه
وكذلك ورد قوله أيضا من قصيدة يمدحه
  فإِنْ نِلْتُ مَا أمَّلْتُ مِنْكَ فَرُبَّمَا ... شَرِبْتُ بِمَاءٍ يُعْجِزُ الطَّيْرَ وِرْدُهُ   
فإن هذا البيت يحتمل مدحا وذما وإذا أخذ بمفرده من غير نظر إلى ما قبله فإنه يكون بالذم أولى منه بالمدح لأنه يتضمن وصف نواله بالبعد والشذوذ وصدر البيت مفتتح بإن الشرطية وقد أجيب بلفظة رب التي معناها التقليل أي لست من
نوالك على يقين فإن نلته فربما وصلت إلى مورد لا يصل إليه الطير لبعده وإذا نظر إلى ما قبل هذا البيت دل على المدح خاصة لارتباطه بالمعنى الذي قبله
وكثيرا ما كان يقصد المتنبي هذا القسم في شعره كقوله من قصيدة أولها
  عَدُوُّكَ مَذْمُومٌ بِكُل لِسَانِ ... وَلَوْ كَانَ مِنْ أعْدَائِكَ الْقَمَرَانِ   
  ولِلَّهِ سِرٌّ فِي عُلاَكَ وَإِنَّما ... كَلاَمُ الْعِدَا ضَرْبٌ مِنَ الْهَذَيَانِ   
ثم قال
  فَمَا لَكَ تُعْنَى بِالأَسِنَّةِ وَالقَنَا ... وَجَدُّكَ طَعَّانٌ بِغَيْرِ سِنَانِ   
فإن هذا بالذم أشبه منه بالمدح لأنه يقول لم تبلغ ما بلغته بسعيك واهتمامك بل بجد وسعادة وهذا لا فضل فيه لأن السعادة تنال الخامل والجاهد ومن لا يستحقها وأكثر ما كان المتنبي يستعمل هذا القسم في قصائده الكافوريات
وحكى أبو الفتح بن جني قال قرأت على أبي الطيب ديوانه إلى أن وصلت إلى قصيدته التي أولها
  أُغالِبُ فِيكَ الشَّوْقُ وَالشَّوْقُ أَغْلَبُ ...   
فأتيت منها على هذا البيت وهو
  وَمَا طَرَبِي لَمَّا رَأَيْتُكَ بِدْعَةً ... لَقَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَرَاكَ فَأَطْرَبُ   
فقلت له يا أبا الطيب لم تزد على أن جعلته أبا رنة فضحك لقولي
وهذا القسم من الكلام يسمى الموجة أي له وجهان وهو مما يدل على براعة الشاعر وحسن تأتيه
وأما القسم الثالث فإنه يكون أكثر وقوعا من القسم الثاني و هو واسطة بين طرفين لأن القسم الأول كثير الوقوع والقسم الثاني قليل الوقوع وهذا القسم الثالث وسط بينهما
فمما جاء منه قوله تعالى   ولا تقتلوا أنفسكم    فإن هذا له وجهان من التأويل أحدهما القتل الحقيقي الذي هو معروف والآخر هو القتل المجازي وهو الإكباب على المعاصي فإن الإنسان إذا أكب على المعاصي قتل نفسه في الآخرة
ومن ذلك ما ورد في قصة إبراهيم وذبح ولده عليهما السلام فقال الله تعالى حكاية عنه   وقال إنِي ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحق نبيا من الصالحين    فقوله تعالى   وبشرناه بإسحق نبيا من الصالحين    قد يكون بشارة بنبوته بعد البشارة بميلاده وقد يكون استئنافا بذكره بعد ذكر إسمعيل عليه السلام وذبحه والتأويل متجاذب بين هذين الأمرين ولا دليل على الاختصاص بأحدهما ولم يرد في القرآن ما يدل على أن الذبيح إسمعيل ولا إسحاق عليهما السلام وكذلك لم يرد في الأخبار التي صحت عن رسول الله
وأما ما يروي عنه أنه قال   أنا ابن الذبيحين    فخارج عن الأخبار الصحيحة وفي التوراة أن إسحاق عليه السلام هو الذبيح
ومن ذلك قول النبي لأزواجه   أطولكن يدا أسرعكن لحوقا بي    فلما مات صلوات الله عليه جعلن يطاولن بين أيديهن حتى ينظرن أيتهن أطول يدا ثم كانت زينب أسرعهن لحوقا به وكانت كثيرة الصدقة فعلمن حينئذ أنه لم يرد الجارحة وإنما أراد الصدقة فهذا القول يدل على المعنيين المشار إليهما
ومن ذلك ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال خدمت
رسول الله عشر سنين فلم يقل لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته وهذا القول يحتمل وجهين من التأويل أحدهما وصف رسول الله بالصبر على خلق من يصحبه والآخر أنه وصف نفسه بالفطنة والذكاء فيما يقصده من الأعمال كأنه متفطن لما في نفس رسول الله فيفعله من غير حاجة إلى استئذانه
ومن ذلك ما ورد في الأدعية النبوية فإنه دعا على رجل من المشركين فقال   اللهم اقطع أثره    وهذا يحتمل ثلاثة أوجه من التأويل الأول أنه دعا عليه بالزمانة لأنه إذا زمن لا يستطيع أن يمشي على الأرض فينقطع حينئذ أثره الوجه الثاني أنه دعا عليه بأن لا يكون له نسل من بعده ولا عقب الوجه الثالث أنه دعا عليه بأن لا يكون له أثر من الآثار مطلقا وهو أن لا يفعل فعلا يبقى أثره من بعده كائنا ما كان من عقب أو بناء أو غراس أو غير ذلك
وظفرت الحرورية برجل فقالوا له ابرأ من علي وعثمان فقال أنا من علي ومن عثمان أبرأ فهذا يدل على معنيين أحدهما أنه بريء من عثمان وحده والآخر أنه بريء منهما جميعا والرجل لم يرد إلا الوجه الأول
ومن ذلك ما يحكي عن عبد المسيح بن بقيلة لما نزل بهم خالد بن الوليد على الحيرة وذاك أنه خرج إليه عبد المسيح بن بقيلة فلما مثل بين يديه قال انعم صباحا أيها الملك فقال له خالد قد أغنانا الله عن تحيتك هذه بسلام عليكم ثم قال له من أين أقصي أثرك قال من ظهر أبي قال فمن أين خرجت قالت من بطن أمي قال فعلام أنت قال على الأرض قال ففيم أنت قال في ثيابي قال ابن كم أنت قال ابن رجل واحد قال خالد ما رأيت كاليوم قط أنا أسأله عن الشيء وهو ينحو في غيره وهذا من توجيه الكلام على نمط حسن وهو يصلح أن يكون جوابا لخالد عما سأل ويصلح أن يكون جوابا لغيره مما ذكره عبد المسيح بن بقيلة
وقد ورد في التوراة أن لا يؤكل الجدي بلبن أمه وهذا يحتمل التحريم في
وجهين أحدهما ما دل عليه ظاهر لفظه وهو تحريم لحم الجدي بلبن أمه خاصة وإذا أكل بلبن غير لبن أمه جاز ذلك ولم يكن حراما وهذا لا يأخذ به أحد من اليهود والوجه الآخر وهو الذي يؤخذ به عند اليهود جميعهم أن أكل اللحم باللبن حرام كائنا ما كان من اللحوم إلا طائفة منهم يسمون القرائين فإنهم تأولوا فأكلوا لحم الطير باللبن وقالوا إنما حرم اللحم بالبن من اللحوم ذوات الألبان والطير من ذوات البيض لا من ذوات الألبان
ومما يجري على هذا النهج ما يحكى عن أفلاطون أنه قال ترك الدواء دواء فذهب بعض الأطباء أنه أراد إن لطف المزاج وانتهى إلى غاية لا يحتمل الدواء فتركه حينئذ والإضراب عنه دواء وذهب آخرون إلى أنه أراد بالترك الوضع أي وضع الدواء على الداء دواء يشير بذلك إلى حذق الطبيب في أوقات علاجه
ومثله في الشعر قول الفرزدق
  إِذَا جَعْفَرٌ مَرَّتْ عَلَى هَضْبَةِ الْحِمَى ... فَقَدْ أَخْزَتِ الأَحْيَاءَ مِنْهَا قُبُورُهَا   
وهذا يدل على معنيين أحدهما ذم الأحياء والآخر ذم الأموات أما ذم الأحياء فهو أنهم خذلوا الأموات يريد أنهم تلاقوا في قتالهم وقوما آخرين ففر الأحياء عنهم وأسلموهم أو أنهم استنجدوهم فلم ينجدوهم وأما ذم الأموات فهو أن لهم مخازي وفضائح توجب عارا وشنارا فهم يعيرون بها الأحياء ويلصقونها بهم
وعلى هذا ورد قول أبي تمام
  بالشِّعْرِ طُولٌ إِذَا اصْطَكَّتْ قَصَائِدُهُ ... فِي مَعْشَرٍ وَبِهِ عَنْ مَعْشَرٍ قِصَرُ   
فهذا البيت يحتمل تأولين أحدهما أن الشعر يتسع مجاله بمدحك ويضيق بمدح غيرك يريد بذلك أن مآثره كثيرة ومآثر غيره قليلة و الآخر أن الشعر يكون ذا فخر ونباهة بمدحك وذا خمول بمدح غيرك فلفظة الطول يفهم منها ضد القصر ويفهم منها الفخر من قولنا طال فلان على فلان أي فخر عليه

ومما ينتظم بهذا السلك قول أبي كبير الهذلي
  عَجِبْتُ لِسَعْيِ الدَّهْرِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... فَلَمَّا انْقَضَى مَا بَيْنَنَا سَكَنَ الدَّهْرُ   
وهذا يحتمل وجهين من التأويل أحدهما أنه أراد بسعي الدهر سرعة تقضي الأوقات مدة الوصال فلما انقضى الوصل عاد الدهر إلى حالته في السكون والبطء والآخر أنه أراد بسعي الدهر سعي أهل الدهر بالنمائم والوشايات فلما انقضى ما كان بينهما من الوصل سكنوا وتركوا السعاية وهذا من باب وضع المضاف إليه مكان المضاف كقوله تعالى   واسأل القرية    أي أهل القرية
ومن الدقيق المعنى في هذا الباب قول أبي الطيب المتنبي في عضد الدولة من جملة قصيدته التي أولها
  أوْهِ بَدِيلٌ مِنْ قَوْلَتِي وَاهَا ...   
فقال
  لَوْ فَطِنَتْ خَيْلُهُ لِنَائِلِهِ ... لَمْ يُرْضِهَا أَنْ تَرَاهُ يَرْضَاهَا   
وهذا يستنبط منه معنيان غيران أحدهما أن خيله لو علمت مقدار عطاياه لأن عطاياه أنفس منها والآخر أن خيله لو علمت أنه يهبها من جملة عطاياه لما رضيت ذلك إذ تكره خروجها عن ملكه وهذان الوجهان أنا ذكرتهما وإنما المذكور منهما أحدهما
وهذا الذي أشرت إليه من الكلام على المعاني وتأويلاتها كاف لمن عنده ذوق وله قوة على حملها على أشباهها ونظائرها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق