الاثنين، 12 أكتوبر 2015

ارماح وأمواه (فن استخدام صيغ الجموع) من كتاب لعنة بابل




في كل لغة هناك مفردات مألوفة وأخرى غريبة أو حوشيّة أو وحشيّة. وتلفت نظري كلمة "الوحشيّة" التي وصف العرب بها بعض المفردات، والوحشة ضد الألفة. ولكن طبيعة الألفة في الكلمة ليست واحدة وكذلك الأمر في طبيعة الغرابة. قد أظنّ بعض المفردات غريبة ولكن غرابتها ليست نابعة من جذرها وإنما من الإضافات والمزيدات التي لحقت بالجذر. فالعربية بأغلب مفرداتها ذات أصل ثلاثي أي أنّ كلّ مفردة من حيث المبدأ يمكن أن تختزن دلالتها كلها في ثلاثة أحرف. وقد يعرف المرء معنى كلمة ما ولكن حين تقلصّها إلى جذرها الثلاثي يلتبس الأمر عليه ويعجز عن استشفاف دلالتها. حال المفردتين اللتين أدرجتهما في العنوان تعود إلى صيغتهما وليس إلى جذرهما. كلمة "أرماح" غريبة نوعا ما ولكن أين تكمن غرابتها؟ في الصيغة أم في الجذر. إن إعادتها إلى الجذر تكشف فوراً عن هويتها وهي تعني الرمح في صيغة الإفراد. ولكن الغرابة جاءت من مكان آخر، من الإضافات التي لحقت بالجذر بطريقة نادرة الاستعمال. فالذهن العربي معتاد على صورة واحدة تقريبا لجمع الـ"رمح" وهي الـ"رماح" وحين تنقله من صيغة إلى أخرى، وهي هنا الـ"أرماح" يتيه قليلاً، ويقف بين العارف والجاهل. وكذلك الأمر بالنسبة لكلمة "أمواه". من أين تنبع غرابة الأمواه؟ ولو قلت "مياه" لما استغرب أحد هذا الصيغة ولعرف فوراً أن المياه جمع الماء.

 المعروف في العربية أنّ صيغ الجمع غنية جدّاً فهناك الجمع" رجال" مثلاً ولكن قد أضيف على هذا الجمع علامة جمع أخرى فيصير "رجالات" وما تحمله مفردة "رجالات" في الاستعمال لا تحمله كلمة "رجال". يرى البعض أن أسباب تعدد الصيغ نتيجة اللهجات العربية الكثيرة التي كانت قبل الإسلام وقبل جمع اللغة وقبل عصر التدوين. وتعدد صيغ الجموع ضرب من ضروب الترادف ولكن ضمن مجال الجذر الواحد. هذه الكثرة تفسح في المجال أمام الشعراء وغير الشعراء لتلوين الدلالات التي يقصدون إليها. الإنسان يتعامل مع اللغة بوجهيها معاً من غير أن ينتبه إلى ذلك. لا يوجد مخلوق على الأرض يتعامل مع وجه واحد من وجهي اللغة إلاّ إذا كان ذا علّة بيولوجيّة. ووجها اللغة هما الحقيقة والمجاز، والتعامل مع اللغة على أنها حقيقة لا غير تشبه من يتعامل مع الإنسان على أنّه جسد فقط أي بتعبير آخر على أنه جثّة.

سأتناول هنا بيتاً شعريين من قصيدتين للمتنبي في مدح سيف الدولة،  الأوّل من بائيته التي مطلعها:

بغيرِكَ راعياً عبث الذئابُ   وغيرَك صارماً ثَلَمَ الضّرابُ

ويقول فيه:

طلبتهم على الأمْواه حتى    تخوّفَ أنْ تفتّشه السَّحابُ

والثاني من رائيته ذات المطلع:

طوال قناً تطاعنها قصارُ  وقطْرك في ندىً ووغىً بحارُ

ويقول فيه:

إذا فاتوا الرماح تناولتْهم      بأرماح من العطش القِفارُ

هل استخدام المتنبي لصيغة الجمع "أفعال" هو نفسه في البيتين؟ في البيت الأوّل نرى أنّ الشاعر لم يستعمل إلاّ صيغة واحدة لجمع الماء وهي "أمواه" بينما استخدم في البيت الثاني صيغتين "رماح" و"أرماح". ماذا نلحظ في كلمة "أمواه"؟ ظهور لحرف الواو وهو غير موجود في المياه. هل من تغيير بين الياء والواو؟ من الجدير الإشارة إلى أن الصوتين الياء والواو لا يصبران على شكل واحد ولا سيّما في الجمع. وهنا أشير كمثال إلى جمع "مريول" أو "مليون" حيث نرى أنّ البعض يجمعهما على "ملاوين" أو "ملايين" و"مراويل" أو "مراييل". يشير العالم اللغوي القدير إبراهيم أنيس إلى ظاهرة صوتية في اللغة العربية ذات علاقة بالواو والياء فيقول:" إنّ الكلمة مع الأصل الواوي وما يتفرع عنه من ضمّ وواو مدّ صورة بدوية وإنها مع الأصل اليائي وما يتفرع عنه من كسر وياء مدّ صورة حضرية". والشاعر في هذا البيت يتناول قبائل بدويّة ثارت على سيف الدولة فيكون وجود الواو ملائماً للطبيعة البدوية من جهة، ولكن من جهة أخرى هذه الغرابة الصوتية لها أصداء في عالم السحاب. فالناس هاربون من جيش سيف الدولة، مطاردون في الصحراء وهم عطاش. وصار مقرّ الماء غير آمن على نفسه بما في ذلك ماء السحاب!

أمّا الشاعر يتعامل مع الرماح والأرماح بطريقة مغايرة بدليل استخدامه للصيغتين، فهو هنا لا يتكلم عن نوع واحد من الرماح وإنما عن نوعين: نوع حديدي يثير الرعب والموت في نفوس الأعداء، وآخر لا يمكن تصّوره إلا بالخيال وهو "أرماح من العطش". استثمر المتنبي هذين النوعين في توليد صورتين، المألوف من الصيغ خصّه بالحقيقة أما الغريب من الصيغ فخصّه بما يلائم غرابته الصوتية وهي الصورة المجازية لتلك الأرماح التي لم تصنع نصالها من مادّة الحديد وإنما من مادّة العطش.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق