الأربعاء، 14 أكتوبر 2015

الفصل التاسع في أركان الكتابة من كتاب المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر لابن الاثير 9-


اعلم أن للكتابة شرائط وأركانا 
أما شرائطها فكثيرة وهذا التأليف موضوع لمجموعها وللقسم الآخر من الكلام المنظوم وليس يلزم الكاتب أن يأتي بالجميع في كتاب واحد بل يأتي بكل نوع من أنواعها في موضعه الذي يليق به كما أريناه فيما يأتي من هذا التأليف
وأما الأركان التي لا بد من إيداعها في كل كتاب بلاغي ذي شأن فخمسة
الأول أن يكون مطلع الكتاب عليه جدة ورشاقة فإن الكاتب من أجاد المطلع والمقطع أو يكون مبنيا على مقصد الكتاب ولهذا باب يسمى باب المبادي والافتتاحات فليحذ حذوه وهذا الركن يشترك فيه الكاتب والشاعر
الركن الثاني أن يكون الدعاء المودع في صدر الكتاب مشتقا من المعنى الذي بني عليه الكتاب
وقد نبهنا على طرف من ذلك في باب يخصه أيضا فليطلب من هناك وهو مما يدل على حذاقة الكاتب وفطانته وكثيرا ما تجده في مكاتباتي التي أنشأتها فإني قصدته فيها وتوخيته بخلاف غيري من الكتاب لأنه ربما يوجد في كتابة غيري قليلا وتجده في كتابتي كثيرا
الركن الثالث أن يكون خروج الكاتب من معنى إلى معنى برابطة لتكون رقاب المعاني آخذة بعضها ببعض ولا تكون مقتضبة ولذلك باب مفرد أيضا يسمى باب التخلص والاقتضاب وهذا الركن أيضا يشترك فيه الكاتب والشاعر
الركن الرابع أن تكون ألفاظ الكتاب غير مخلولقة بكثرة الاستعمال ولا
أريد بذلك أن تكون ألفاظا غريبة فإن ذلك عيب فاحش بل أريد أن تكون الألفاظ المستعملة مسبوكة سبكا غريبا يظن السامع أنها غير ما في أيدي الناس وهي مما في أيدي الناس وهناك معترك الفصاحة التي تظهر فيه الخواطر براعتها والأقلام شجاعتها كما قال البحتري
  
باللَّفْظِ يَقْرُبُ فَهْمَهٌ فِي بُعْدِهِ ... عَنَّا وَيَبْعُدُ نَيْلُهُ فِي قُرْبِهِ   
وهذا الموضع بعيد المنال كثير الإشكال يحتاج إلى لطف ذوق وشهامة خاطر وهو شبيه بالشيء الذي يقال إنه لا داخل العالم ولا خارج العالم فلفظه هو الذي يستعمل وليس بالذي يستعمل أي أن مفردات ألفاظه هي المستعملة المألوفة ولكن سبكه وتركيبه هو الغريب العجيب
وإذا سموت أيها الكاتب إلى هذه الدرجة واستطعمت طعم هذا الكلام المشار إليه علمت حينئذ أنه كالروح الساكنة في بدنك التي قال الله فيها   قل الروح من أمر ربي    وليس كل خاطر براق إلى هذه الدرجة ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
ومع هذا فلا تظن أيها الناظر في كاتبي أني أردت بهذا القول إهمال جانب المعاني بحيث يؤتى باللفظ الموصوف بصفات الحسن والملاحة ولا تكون تحته من المعنى ما يماثله ويساويه فإنه إذا كان كذلك كان كصورة حسنة بديعة في حسنها إلا أن صاحبها بليد أبله والمراد أن تكون هذه الألفاظ المشار إليها جسما لمعنى شريف على أن تحصيل المعاني الشريفة على الوجه الذي أشرت إليه أيسر من تحصيل الألفاظ المشار إليها
ويحكى عن المبرد رحمه الله تعالى أنه قال ليس أحد في زماني إلا وهو يسألني عن مشكل من معاني القرآن أو مشكل من معاني الحديث النبوي أو غير
ذلك من مشكلات علم العربية فأنا إمام الناس في زماني هذا وإذا عرضت لي حاجة إلى بعض إخواني وأردت أن أكتب إليه شيئا في أمرها أحجم عن ذلك لأني أرتب المعنى ثم أحاول أن أصوغه بألفاظ مرضية فلا أستطيع ذلك
ولقد صدق في قوله هذا وأنصف غاية الإنصاف
ولقد رأيت كثيرا من الجهال الذين هم من السوقة أرباب الحرف والصنائع وما منهم إلا من يقع له المعنى الشريف ويظهر من خاطره المعنى الدقيق ولكنه لا يحسن أن يزاوج بين لفظتين
فالعبارة عن المعاني هي التي تخلب بها العقول وعلى هذا فالناس كلهم مشتركون في استخراج المعاني فإنه لا يمنع الجاهل الذي لا يعرف علما من العلوم أن يكون ذكيا بالفطرة واستخراج المعاني إنما هو بالذكاء لا بتعلم العلم
وبلغني أن قوما ببغداد من رعاع العامة يطوفون بالليل في شهر رمضان على الحارات وينادون بالسحور ويخرجون ذلك في كلام موزون على هيئة الشعر وإن لم يكن من بحار الشعر المنقولة عن العرب وسمعت شيئا منه فوجدت فيه معاني حسنة مليحة ومعاني غريبة وإن لم تكن الألفاظ التي صيغت به فصيحة
وهذا الركن أيضا يشترك فيه الكاتب والشاعر
الركن الخامس أن لا يخلو الكتاب من معنى من معاني القرآن الكريم والأخبار النبوية فإنها معدن الفصاحة والبلاغة وإيراد ذلك على الوجه الذي أشرت إليه في الفصل الذي يلي هذا الفصل من حل معاني القرآن الكريم والأخبار النبوية أحسن من إيراده على وجه التضمين وتوخي ذلك في كل كتاب عسر جدا وأنا انفردت بذلك دون غيري من الكتاب فإني استعملته في كل كتاب حتى إنه ليأتي في الكتاب الواحد في عدة مواضع منه ولقد أنشأت تقليدا لبعض الملوك مما يكتب من ديوان الخلافة ثم إني اعتبرت ما ورد فيه من معاني الآيات والأخبار
النبوية فكان ما يزيد على الخمسين وهذا لا أتكلفه تكلفا وإنما يأتي على حسب ما يقتضيه الموضع الذي يذكر فيه وقد عرفتك أيها الكاتب كيف تستعمل ما تستعمله من ذلك في الفصل الذي يأتي بعد هذا الفصل فخذه من هناك
وهذا الركن يختص بالكاتب دون الشاعر لأن الشاعر لا يلزمه ذلك إذ الشعر أكثره مدائح وأيضا فإنه لا يتمكن من صوغ معاني القرآن والأخبار في المنظوم كما يتمكن منه في المنثور ولربما أمكن ذلك في الشيء اليسير في بعض الأحيان
وإذا استكملت معرفة هذه الأركان الخمسة وأتيت بها في كل كتاب بلاغي ذي شأن فقد استحققت حينئذ فضيلة التقدم ووجب لك أن تسمي نفسك كاتبا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق