الأحد، 15 مارس 2015

حكومة الزعران:



"قل لي من تعاشر أقلْ لك من أنت" هذا المثل قد لا يكون، في بعض الأحيان، أكثر من فخّ مراوغ يقع فيه كثير من الناس. وثمّة تعبير قد ينقض المثل الأوّل ورد على لسان تشوْ إنْ لايْ الرجل القويّ الثاني في عهد مؤسّس الصين الحديثة ماو تسي تونغ يقول فيه:" النوم على سرير واحد لا يعني أنّنا نرى المنام نفسه". الغاية توحّد الأضداد، تجعل التعاون بين طرفي نقيض ضرورة حياتية ملحّة. قال لي، ذات يوم، صديق لا أشكّ في " أوادميّته" ونزاهته الأخلاقية وورعه الصادق على الإطلاق: "حاجتي إلى  الزعران حاجة أخلاقيّة ماسّة". بدت لي العبارة في وهلتها الأولى مهلهلة الدلالة، مهيضة الجناح الأخلاقيّ، وراح يضرب لي الأمثال عن استثمار الزعران في فعل الخير، أليس من الممكن أنْ تصل عبر طريق سيئة التعبيد إلى قصر مشيد؟ الطريق إلى الغاية ليس بالضرورة أن تكون امتداداً بيولوجياً للغاية؟ ذات يوم وأنا أقلّب في صفحات كتاب يتناول الخطط الاستراتيجية الصينية الـ36 الشهيرة " سَنْ شِيْهْ لْيُوْ دْجِي"، استوقفتني حكاية مملكة نخر عظمها الفساد وانسدّت في وجه الحاكم السبل في ايجاد حلول لاسئصال الفساد والمحسوبيات والدجل والتكاذب والتكالب واستشراء النهب والسلب، فصارت الحياة في مملكته لا تطاق. الزعران والفسّاق وقطّاع الطرق لم يتركوا للناس متنفّساً أو منفذاً للأمل.


 كان من حسن حظّ الحاكم وجود حكيم داهية في مملكته، فاستنجد الحاكم بالحكيم الخلوق واستشاره في الأزمة التي تحيط بالبلاد. فقال الحكيم بعد أنْ تبيّن نيّة الحاكم الصافية في استئصال شأفة الفساد: نستنجد، يا مولاي، بمن نريد القضاء عليه، إنّ سرّ الدواء في تبنّي الداء كدواء. واقترح الحكيم بناء فرقة في الجيش، ضمن معايير وأسس مبتكرة. فرقة لا تدخل المعايير الأخلاقية النبيلة في حسبانها، حين يتقدّم المرء للانخراط في هذه الفرقة يجب أن تتوفّر فيه شروط شيطانيّة اذهلت كثيراً من الناس، وكان الحاكم نفسه على رأس من اعتراهم الذهول. الشرط الأساس للدخول في الفرقة أن يكون الراغب فيها مجرماً قِتِّيلَ قَتَلَةٍ، صاحب سوابق شيّبت الولدان، يده ملطخة بالدم والقتل، قدرته على السطو لا يعيقها عائق، أفكاره في الاستيلاء على ممتلكات الآخرين جهنمية، مهارته في الإغواء والفجور تضع ألاعيب دونجوان في جيبه، وكان كلّ واحد من المتطوعين يوضع بحسب كفاءته الدامية، فلا يحصل على رتبة عقيد أو عميد مثلاً إلاّ من كان تاريخه كثير السواد وحافلاً بالدم، الأعلى رتبة هو الأكثر دمويّة، والرواتب مجزية ومغرية، والتأمينات تصفّد الأقدار. سال لعاب الزعران ولكنّهم خافوا. هل من الممكن ان يتحوّل طريد العدالة، بين ليلة وضحاها، إلى نجم تحت الأضواء وعلى سدّة الحكم؟ تساءل المطاردون: هل هذا فخّ؟ تردّدوا في قبول العرض؟ وماذا لو؟ من أين لهم أن يأمنوا مكر الحكيم؟ تردّدوا، ضربوا أخماساً بأسداس، بهرهم العرض السخيّ، ونهرهم ماضيهم. كانت مهمة الحكيم معلقة على قرار مغامر يأخذه احد جنرالات القتل والبطش، حتّى تكرّ سبحة التجنيد. أعلن كبير من كبار أهل السلب والنهب الموافقة على العرض، والتقى بالحكيم، وبدت لدى خروجه من اللقاء أسارير البهجة ومعالم الرضى. وبدأ حكيم المملكة بتكوين الفرقة، وبعد ان تكوّنت الفرقة، وشحذت هممها وقواها، تمّ إعلان يوم للعرض العسكريّ أمام ذهول الناس ورعبهم. أينقصنا تحويل الشاذّ الى قاعدة، والخوف إلى وجبة يومية؟  لقد تمت تبرءة القتلة وشذّاذ الآفاق جميعاً من ماضيهم،  لن ينالهم عقاب من الدولة على ذنوبهم السابقة، إلاّ أنّه لا بدّ من أن يدفعوا ثمن ما ارتكبت أياديهم من سلب ونهب وقتل فيما مضى من أيام. حتى العفو له ثمن، ولكن ما هو الثمن؟ الاستمرار في ارتكاب القتل والسلب والنهب ولكن مع تغيير وجهته! لقد صدر عفو عام، قال الحكيم، وأنتم قبلتم، ولكن هناك من بقي هارباً او رافضاً. مهمتكم الجديدة هي القضاء على الأزعر المتمرّد الذي لا يزال يعيث في المجتمع فساداً، فلا يفلّ حديدَهم الاّ حديدُكم.


وبحكم خبرة الزعران في الفرقة فإنّهم يعرفون أسرار رفاقهم ونقاط ضعفهم وقوّتهم وأوكارهم السرّيّة، وما هي إلاّ فترة قصيرة من الزمن حتى قضى الزعران على الزعران، ومع الرخاء الذي عاش فيه الأزعر وجد من مصلحته توظيف شرّه في خدمة خير الدولة التي ينعم في ظلّها برخاء واستقرار لم يعهدهما في حياة السلب والنهب. وهكذا استُثمِر الخارجون على القانون في استعادة سلطة القانون.


هذه الاستراتيجية الحكيمة يمارسها كثير من أصحاب الشركات والمواقع الالكترونية، فالمهارة في القرصنة الرقمية مثلاً تتحوّل إلى بند إيجابيّ في سيرة حياة بعض الناس، ولقد سمعت أنّ "مارك زوكربيرج Mark Zuckerberg " الذي أنشأ موقع التواصل الاجتماعي "الفايسبوك" وظّف عددا كبيراً من الهاكرز hackers الذي اخترقوا موقعه من منطلق انّه لا يستطيع ان يحمي موقعك إلاّ من يستطيع خرقه وتدميره. ولقد قرأت أنّ الصين لديها في الجيش فرقة خاصّة مكوّنة من آلاف "الهاكرز" تستخدمهم كاحتياط استراتيجيّ في حروب محتملة الكترونيّة تشنّها الصين على مواقع الأعداء لشلّ حركتهم الرقميّة. إنّ مفهوم الخير والشرّ في عالم الناس مثل مفهوم السمّ في الطبّ، فالسمّ قد يكون وسيلة قتل او وسيلة استعادة العافية. فالخير قد يلعب أدواراً شرّيرة (أين نضع، مثلاً، عبارة " ومن الحبّ ما قتل"؟) والشرّ قد يلعب أدواراً خيّرة فيكون باباً من أبواب الخير.


أشير في الأخير الى غَرَضٍ أدبيّ وفكريّ عربيّ تراثيّ عن تعاون الأضداد تناوله الكتّاب العرب القدامى تحت عنوان "المحاسن والمساوىء". وهذا الغرض عبارة عن كتب تعرض الشيء الواحد من منظور إيجابيّ ومن منظور سلبيّ، كمحاسن الشكر ومساوىء الشكر، كما نرى ذلك في كتاب ابراهيم البيهقيّ" المحاسن والمساوىء"، أو الكتاب المنسوب إلى أمير البيان العربيّ الجاحظ تحت عنوان:"المحاسن والأضداد".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق