كان للجاحظ ولع
بذكر عيوب الكلام، وذكر مرتكبي الإثم الصوتي حيث تخونهم قدراتهم على إعطاء كلّ صوت
حقّه. وللناس علاقات مختلفة مع الأصوات والكلمات والمقاطع الصوتية، بعضهم لا يفكر
باستعمال كلمة أو أكثر لما تسبب من تنغيص لأذن السامع، فلبعض الكلمات مخالب قادرة
على "خدش" الحياء مثلاً!.
يقال إن احد أسباب شيوع المترادفات في اللغات هو
نفور بعض الناس من أصوات مركبة بطريقة معينة. حين لا يحبّ إنسان ما استعمال كلمة
لنفوره من أصواتها فانه مضطر للاستعانة ببدائل لها تخوله الاستمرار في العيش
اللغويّ الطبيعي. تكتسب البدائل مع الوقت الحقّ في أن تكون مفردات لها حياتها
المعجمية المزدهرة. وقد يصل الأمر ببعض الناس أحيانا إلى النفور من الأصوات
اللغوية كلها لفترة زمنية محددة فيصوم عن الحكي كالسيدة مريم العذراء التي"
نذرت للرحمن صوما أن لا تكلم اليوم انسيا".
إن أسباب بطلان
الكلمات كثيرة، منها مثلاً رغبة لسان الشيخ محمد عبده - وهي رغبة لم يستطع
تحقيقها- في استئصال حرف السين من الاستعمال لفرط ما رأى من ألاعيب السياسة فظنّ
أن مرض السياسة كامن في حرف الـ"سين"!
إلا أن حكاية واصل بن العطاء، وهو من أهم
الشخصيات الفكرية التي أنجبها العصر العباسي، مع حرف من أصوات لغته حكاية نادرة
الوجود. كان واصل يلثغ بحرف الراء، وهو حرف كثير الدوران في اللغة. المعروف أن لكل
لغة علاقة مميزة مع بعض الأصوات، وتكفي نظرة عجلى على حجم مادة كل حرف في القاموس،
لتبيان أنّ تبدل أحجام الصفحات بين حرف وحرف كاشف عن اختلاف أدوار الحروف في اللغة
الواحدة. ثمة حروف طاغية الحضور، تفلت من لسانك غصبا عنك أكثر من غيرها، بل يمكن
الاستعانة بمصير بعض الحروف عن طريق ملاحظة الاستعمال العامي لنرى أن الحروف ليس
لها نفس القدرة على مقاومة ألاعيب الألسنة. حرف الثاء مثلا دفع ضريبة قاسية في
الاستعمال العامي ( إنّ التلفظ به يعرض طرف اللسان للخطر) حيث يكاد يكون معدوما
تماما بعد أن أصيبت شخصيته بالانفصام، فهو
طورا يتنكر في ثياب "السين"، وطورا آخر في لباس "التاء". وهنا
اكتفي بذكر مصير كلمة واحدة تبدأ بحرف الثاء، وكيف أنها صارت كلمتين، وقد لا ينتبه
المرء إلى أصلهما المشترك الواحد. إنّ كلمة "ثريا" لم تعد موجودة في
عالم الألسنة، فهي "سُرَيّا" في حال كانت "الثُّرَيّا" اسم
علم لإحدى البنات، ولكنّها "تْرَيّا" حين تكون سراجاً معلقاً في سقف
المنزل. ومن باب السخرية المحض تسمية فتاة مثلاً بـ"تْرَيّا"!
لم يستطع واصل
بن العطاء أن ينتصر على حرف الراء، ظل عصيا على عضلات لسانه. وهو أمام موقفين لا
ثالث لهما إما أن يستمر في استعمال هذا الحرف على عاهته اللثغيّة وإما أن يلغيه.
الجاحظ لم يحدد لنا الكيفية التي كان ينطق بها واصل هذا الحرف فهي ليست كالتشوهات
المألوفة، فهو يعرض لنا أربعة أشكال لثغية مع هذا الصوت " جعل الراء ياء، أو
غينا، أو ذالاً، أو ظاء ". إن اللثغة التي كانت تعرض لواصل لم تكن من الحالات
الأربع المذكورة المعتادة إذ " ليس إلى تصويرها سبيل" بحسب قول الجاحظ.
وتحمل هذه العبارة اعترافا بأنّ الراء الواصلية ليست حرفا موجوداً في الأبجدية
العربية وإلا لسهل تصويرها.
إنّ الصعوبة
التي كان يعاني منها واصل مع حرف الراء جعلته يعمد إلى الانتقام عن طريق اعتماد
استراتيجية عنيفة مع اللغة، إلى عملية بتر قاهرة، وهي اعتبار حرف الراء كائناً لا
صلة له بالوجود، لقد حذف الحرف، أسقط من ألفباء العربية حرفا واحداً. ولا ريب في
أن صعوبة حذف حرف واحد من الأبجدية يزيد أضعافاً مضاعفة عن أي تمرين صوتيّ كان
يمكن له أن يدّجن حرف الراء الشموس ولكن عاهة الحرف الصوتية لديه كانت، فيما يبدو،
كعاهة رقبته الطويلة غير القابلة للإصلاح والتي بسببها لقب بـ"الزرافة".
لا يمكن لواصل
أن يعيش حياة لغوية طبيعية إلا بأن يجعل لغته لغة غير طبيعية، لكن بشرط أن لا
ينتبه أحد إلى لعبته، ويبدو أن السامعين المأخوذين بكلام واصل لم ينتبهوا إلى غياب
حرف الراء من خطبه وأقاويله.
الطريف في
الأمر أن كلمات كثيرة ما كان لها أن تخطر ببال واصل لو أن حرف الراء عاش على لسانه
حياة طبيعية مما يعني أن كلمات كثيرة من كلمات واصل كانت حاضرة للإشارة إلى غياب
كلمات أخرى تشكل الراء جزءا من بنيتها الصوتية. وعليه فإنّه من الممكن القيام
بتأليف معجم صغير عن المفردات التي رماها واصل دون رحمة في سلة المهملات فقط لأنها
كانت تريد أن تسخر من لسانه!
مقال من كتاب " لعنة بابل"والكتاب مجموعة مقالات لغوية ، ولمن يرغب من الحصول على نسخة الكترونية منه بصيغة PDF يمكنه ارسال طلب الي على عنوان مدونتي لأرسله له مجانا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق