غلاف كتاب " لعنة بابل" |
كتب مصطفى العويك:
المتجول في صفحات كتاب "لعنة بابل" الصادر عن دار الانشاء للطباعة والنشر والتوزيع للدكتور في الجامعة اللبنانية بلال عبد الهادي، لن يجهد كثيرا حتى يدرك انه امام قارئ استثنائي قبل ان يكون امام كاتب فوق العادة، فمن يكتب: "مآكل لغوية، فن التسويق اللغوي، تفاحة لغوية، سيجارة"، ليس دكتورا جامعيا احب لغته فاحتضنها واحتضنته، واعطاها كل وقته فأعطته ربع ما تملك، وحسب، بل هو قامة لغوية تميزت عن غيرها بأنها احترمت لغتها فاحترمتها، وتعامل معها بود فاكسبته رقيا حضاريا، وعمقا لغويا واستحق بالفعل لقب "حارس اللغة العربية". كيف لا وهو الذي دعا الى سياسة "الامن اللغوي"، فاللغة كما الانسان تحتاج لمن يحميها ويمنع المخلين بقواعدها وانظمتها من العب في ميدانها، كيف لا وهو الذي يعتبر ان "العقوق اللغوي اخطر على المرء من عقوق الوالدين"، لانك ان كنت عاقا لغتك ستحرم من استخدام عباراتها الرقراقة في طاعة والديك، اما ان كنت متبعا لها عاملا على استخدامها بالشكل المطلوب، فانها ستمنحك ما يمكنك من اكتساب رضى وود اهلك وغيرهم.
الدكتور بلال عبد الهادي السيميائي الكبير الذي استطاع تحويل الاشياء والمشاهد اليومية وحتى الطرف، الى نصوص قابلة للقراءة وفق ابجدية خاصة، تقرأ معه في هذا الكتاب ثقافات عدة في مقال واحد، فهو اذ يخبرك عن ازمة الطلاق التي حصلت في مصر بسبب عدم قبول الزوج محادثة زوجته الا بالعربية، ويفضح لك سوء حالنا العربية عندما تقرأ معه بأن اليابات تترجم 30 مليون صفحة سنويا وانها لم ترسل سفيرها الى الكويت الا بعد ان انجز ترجمة مقدمة ابن خلدون، تفاجئ بصدمة كهربائية قاتلة عندما يكتب بأن: "مجموع ما ترجمه العرب منذ عهد الخليفة المأمون حتى يومنا هذا لا يتجاوز عشرة آلاف صفحة ما يساوي ما تترجمه اسبانيا في عام واحد. وان كوريا تعنى بأستاذة التعليم الابتدائي اكثر من غيرهم وترفع لهم رواتبهم، لانهم الركيزة الاساس في تهيئة جيل المستقبل، عكس ما نفعله نحن حيث ننظر الى استاذ الابتدائي نظرة استحقار ودونية على اعتبار انه يتعامل مع اطفال لا يقدمون ولا يؤخرون.
ورغم كل ذلك لا يقيم عبد الهادي عداء مع اللغات الاخرى، رغم اعترافه غير الصائب بأن العربية ليست افضل اللغات، وهو الذي يشبه علاقة العربية باللغات الاخرى بعلاقة الرجل مع "بيته وسيارته"، فالرجل بحاجة الى سيارة للتنقل وزيارة الاماكن البعيدة، ولكنه في نهاية عمله يعود الى بيته وملجأه الاساس، وكذلك نحن علينا ان نجمل بيتنا ( اي لغتنا العربية)ونهتم به ونداريه كالطفل، لكن بنفس الوقت نحن بحاجة الى سيارة (لغة الآخرين) للتعامل مع الغير والتنقل بين الثقافات، ويجب ومن المنطقي ان تكون الاولوية دائما للمنزل، فمن السهل جدا استبدال السيارة لكن استبدال البيت دونه عقبات مادية ومعنوية كبيرة قد لا يقوى عليها الكثير منا. ومن يفضل سيارته على بيته كمن يفضل ابنة الحي على امه الحقيقية، وهو عاق للغته و"العقوق اللغوي هو احد اسباب ترقق عظم واقعنا العربي".
ان فعل الكتابة الذي يمارسه عبد الهادي هو فعل رتق في أوله وآخره، والرتق وفقا لمفهومه هو التطريز والحبك، وكذلك الكتابة التي تصبح عنده "وسيلة لحفظ نسل الافكار"، وتنقيتها من الامراض المميتة التي تخترق جسد اللغة بقوة هذا الايام، ويعجز الاطباء اللغويين عن التعامل معها لانهم لا يمتلكون الترياق المناسب لوجعها، رغم انه بين ايديهم وفي عقولهم ولكن "انما تعمى القلوب التي في الصدور."
لا يمكن لاي عربي ان يدعي ان لغته غير صالحة في عصرنا الحديث وهو هاجر لها متنكر لتاريخها وانجازاتها المستقبلية فيما لو اهتم بها واعطاها بعضا من وقته، سيدرك انها صالحة لكل زمان ومكان. ان اللغة اي لغة لا ترتقي الا اذا وجدت من يهتم بها ويكثر التعامل بها، ويعطيها الاولوية على غيرها من اللغات وحتى الاهتمامات الشخصية، ولا يمكن لأمة ان تنهض الا بلغتها قبل اي شيء، هكذا علمنا التاريخ الاسلامي وهذا ما اثبته لنا المستعمر الاجنبي الذي كان اول ما يسعى له تدمير اللغة الوطنية واستبدالها بلغته الاجنبية، ولا يمكن للغتنا العربية ان يعود لها مجدها طالما اننا نستعمل لغات الاخرين، ولا يمكن لاي لغة ان تحتل مرتبة متقدمة اذا استعارت السنة الغير للنطق بها، وأكبر دليل هو تقدم اللغة الصينية التي ادركت حكومتها كيف توليا الاهتمام وتشجع المواطنين على رعايتها رعاية الاب الصالح، ولعل ما قاله فيلسوف الصينيين كونفشيوس حينما سأل اذا استلمت السلطة من اين تبدأ الاصلاح، فأجاب من اللغة، هو اكبر دليل على مكانة اللغة عند الصينيين ووعيهم لذلك. اما في عالمنا العربي فاذا سأل احد فلاسفتنا وهم كثر ولله الحمد لاجاب: ابدا الاصلاح من النظام السياسي الديكتاتوري واستبدله بنظام أكثر حرية وديمقراطية، لتتوضح الامور بعد سنوات ويتبين ان الحرية والديمقراطية ليست سوى فتح نوافذ وابواب الوطن للغربي المتربص بالثروات المادية والعقول العربية التي ينجح في تفريغها من كل شيء.
ان ثروتنا النفطية نحن العرب لا يضاهيها الا ثروتنا اللغوية وان اجدنا تسويق لغتنا عند المسلمين من غير العرب فقط، فاننا سنضمن بلا شك عودة هذه اللغة الى عراقتها ومكانها وحيويتها، فكل مسلم غير عربي هو زبون محتمل للغتنا، لكن نحتاج لمن يصنع وينتج فيحس الصنعة وانتاج البضاعة وتسويقها وبيعها لا تكديسها تمهيدا لرميها وحرقها في مزابل التاريخ، فاللغة على شاكلة حاملها فأرني لغتك اقول لك من انت، ومن يتحدث عن لغته يتحدث عن نفسه.
في كتاب "لعنة بابل" لم يترك عبد الهادي صغيرة ولا كبيرة تتعلق بقضايا اللغة الا وتناولها باسلوب جديد وطريقة مستحدثة، من صعوبة التعامل مع الهمزة في الكتابة الى الاستيعاذ من حرف السين الذي اطلقه شيخ الازهر الامام محمد عبده نظرا لتضمن كلمة سياسة له، الى محاولته اعادة احياء عبارات قل استعمالها وهي على طريق الاندثار، الى طرحه لعبارات قد تكون للوهلة الاولى ثانوية لكنها بعد التعمق بها ستجدها صالحة لرسالة دكتوراه كما في مقال "سيجارة".
كتاب لعنة بابل من اهم الكتب اللغوية التي تستحق القراءة، فهو كتاب يلامس المسائل اللغوية بنبرة شخصية على حد تعبير كاتبه، الذي يجول في ابحر لغة يقرأها بطريقة تختلف تماما عن اية قراءة اخرى، فتشعر وانت تقرأها بالطريقة المغايرة لقراءة المسائل اللغوية عند الكاتب كما جاء في تقديم الكتاب للاستاذ مايز الادهمي. وبالفعل من يطلع على مضمون النصوص سيجد ان اللغة عند عبد الهادي ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل هي قيمة ذاتية، ونوع من التأكيد على وجود الانسان، وطريقة تعمله معها تثبت انها ام رؤم لكنها تحتاج الى ابناء طائعين لها لا مرتدين عنها كافرين بها.
ان رئة الفجر الممتلئة بهواء الموتى ستنظف يوما ما وتصبح صالحة للحياة، والظل الذي لا نحسن قراءته اليوم حتى نتمكن من كتابة الشمس سيبقى ملاذنا للهروب من تقصيرنا في حق لغتنا وطعننا لها صباحا مساء، ان لم نتعلم كيف نخيط بابر تاريخنا أقمشة لغتنا التي ما تمزقت لو اننا تعلمنا فن الخياطة منذ زمن بعيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق