الكتابة السريعة «الذوبان»
عبده وازن
الإثنين ٢٨ أكتوبر ٢٠١٣
جميعهم يكتبون، صغاراً وتلامذة وأمهات، طلاباً جامعيين وموظفين ورجال أعمال، عمالاً وسائقي سيارات، مثقفين ومتعلمين... جميعهم يكتبون، حيثما توافر لهم، في المنزل، في المقهى، في السوبر ماركت، في السيارة أو الباص، على الطريق، يكتبون كيفما كان لهم أن يكتبوا، بحرية تامة، بعيداً عن الاوراق والاقلام، وفي منأى عن القواعد «الثقيلة» وغلاظة الصرف والنحو، غير مبالين بخطأ هنا أو غلطة نافرة هناك أو ركاكة ... ما يعنيهم هو أن يكتبوا، لا ماذا يكتبون أو كيف. والمهم أن تصل الرسالة ولو مشوّهة لغوياً. وهم لا يضيرهم ان يستخدموا الارقام بدلاً من الاحرف، ما دامت الجمل التي يكتبونها مفهومة، بل هم يحلمون ان يتخلصوا يوماً من اصول الكتابة، أن يبتسروا الكلمات، أن يبعثروا الاحرف، ان يكتبوا كما لو أنهم يتكلمون ببساطة تامة.
إنها الكتابة اليومية الراهنة، الكتابة التي أصبحت وسيلة التواصل اليومي بين البشر، الاصدقاء كما الاعداء، الاهل والاخوة، الزملاء والرفاق، الموظفين على اختلاف مواقعهم، العشاق في شتى احوالهم... إنها الكتابة التي أضحت أداة لا غاية لها ألا رتق ما انقطع وينقطع من العلاقات الانسانية في زمننا، زمن الانفصال والعزلة الفردية. عوض ان اكلّمكَ ارسل اليك رسالة تصلك أسرع من الكلام على الهاتف. حتى لو كنت قريباً مني أفضّل ان ارسل اليك رسالة غاية في السرعة، اكلمك من دون أن اراك والمح وجهك وتعابيره التي قد تجعلني أنفر منك وأتوتر. أنت شخص افتراضي وإن كنت حقيقياً، من لحم ودم، وأنا كذلك، أنا الذي يكلمك كتابةً عبر الموبايل أوالانترنت.
إنها الكتابة في زمن «الاس أم أس» و»الواتس أب» والتويتر والفيسبوك والايميل... إنها الكتابة التي لم يشهد أي عصر سابق ما يوازيها ازدهاراً ورواجاً. هذا ما لحظه علماء التواصل والميديا. وأخيراً أحصت صحيفة «لوموند» الفرنسية عشرة بلايين رسالة تُبعث كل يوم في العالم عبرالفيسبوك وحده. هذا رقم هائل ورهيب، بخاصة إذا اضيفت إليه الاعداد التي يتعذر إحصاؤها من رسائل «الاس.أم.أس» التي لا تتوقف ليلاً ونهاراً، ناهيك عن الايميل وسواه.
كان العلماء يتوقعون قبل عقود انحساراً تدريجياً لما يسمّى «حرفة» الكتابة، لكنّ عصر التواصل الالكتروني فاجأهم أيما مفاجأة، أصابهم في عقر مختبراتهم وجعلهم يعاودون النظر في آرائهم. لكنّ ازدهار هذه الكتابة الالكترونية لم يعنِ البتة أنّ الكتابة هي في أفضل أحوالها. بل بدا هذا الازدهار كأنه يحمل في طياته سمات احتضار- لئلا أقول موت - الكتابة، الكتابة الحقيقية، السليمة والصحيحة. ولكن قبالة هذا الاحتضار- أو الموت - راحت تولد كتابة جديدة، كتابة هي ضرب من ضروب الكلام الذي لا هدف له سوى التواصل اليومي، أياً تكن مرتبته اللغوية، وهي بلا شك من المرتبات الدنيا وغاية في الانحطاط.
الكتابة مزدهرة إذاً. من يجرؤ على نقض هذه المقولة أو الظاهرة؟ الكتابة الالكترونية طبعاً، لا الكتابة التي درج أهل اللغة والعلم على تسميتها وتحديد معالمها ووضع الأسس التي قامت - وتقوم - عليها. الكتابة لا الكلام اليومي أوالارتجال و»الحكي» الذي على عواهنه. الكتابة التي تتم كيفما اتفق، وبما تيسر من حروف وأرقام تحل محل الحروف، الكتابة المتطفلة واللاهية الاقرب الى المكالمة الهاتفية العابرة والثرثرة ... الكتابة «العامية» والعامة التي تناقض الكتابة الحقيقية ذات الكلمات الموزونة والمفردات المنتقاة والجمل المسبوكة والافكار والمشاعر... الكتابة الحقيقية التي لا تخلو من صعوبة ولا تتخلى عن جهد، الكتابة التي هي أشبه بخطاب ذاتي أو مونولوغ يسترسل فيها صاحبها من غير انقطاع.
لعل أخطر ما أنجزته ظاهرة الكتابة الالكترونية هو هدمها الحدود بين المكتوب والمحكي، أو دمجهما معاً في نسيج هجين لا هو بالمكتوب الصرف ولا بالمحكي البحت. بل إن هذه الظاهرة ساهمت في إسقاط المكتوب الى حضيض المحكي شبه المشوه بدلاً من أن ترقى بالمحكي الى مصاف المكتوب. أضحت الكتابة هنا صنو الكلام ولكن ليس بملكته وفرادته وإنما بركاكته و»سوقيته» إن جاز القول. ولطالما أثبت علماء اللغة القدامى والالسنيون الجدد أن الكتابة تختلف عن الكلام، وأن شعار «اكتب كما تتكلم» هو خاطئ تماماً. حتى الكتابة باللغة العامية والمحكية تختلف كل الاختلاف عن الكلام المحكي. وهذا ما أثبته على سبيل المثل الشعر الجميل المكتوب بالعامية. وهنا لا بد من تذكر القول الشهير للكاتب الفرنسي الشهيرابن القرن الثامن عشر بوفون: «اولئك الذين يكتبون مثلما يتكلمون، هم، مهما أجادوا في الكلام، يخفقون في الكتابة».
ليس الخوف ان تروج الكتابة الالكترونية وأن تشيع و»تدرج» وتصبح وسيلة تواصل بين البشر، حتى وإن اقتصّت من علاقاتهم الانسانية ومشاعرهم وساهمت في عزلهم بعضهم عن بعض، الخوف أن تحل هذه الكتابة الهجينة محل الكتابة الحقيقية وتصبح هي القاعدة والمثال، وان تكسر قدسية اللغة ورهبة النص وهالة الكاتب... الخوف هو أن تقتل القارئ الحقيقي خالقة قارئاً جديداً هو قارئ العصر الاكتروني، القارئ السطحي والعابر وذو الذائقة المشوهة والذاكرة «المثقوبة».
جميعهم يكتبون، لكن الكتابة تنحسر ومثلها القارئ ومثلها الكتاب. هذا زمن ازدهار الثقافة الاستهلاكية ، ثقافة «الاس.ام.اس» السريعة «الذوبان» والتبخر.
http://alhayat.com/OpinionsDetails/565799
إنها الكتابة اليومية الراهنة، الكتابة التي أصبحت وسيلة التواصل اليومي بين البشر، الاصدقاء كما الاعداء، الاهل والاخوة، الزملاء والرفاق، الموظفين على اختلاف مواقعهم، العشاق في شتى احوالهم... إنها الكتابة التي أضحت أداة لا غاية لها ألا رتق ما انقطع وينقطع من العلاقات الانسانية في زمننا، زمن الانفصال والعزلة الفردية. عوض ان اكلّمكَ ارسل اليك رسالة تصلك أسرع من الكلام على الهاتف. حتى لو كنت قريباً مني أفضّل ان ارسل اليك رسالة غاية في السرعة، اكلمك من دون أن اراك والمح وجهك وتعابيره التي قد تجعلني أنفر منك وأتوتر. أنت شخص افتراضي وإن كنت حقيقياً، من لحم ودم، وأنا كذلك، أنا الذي يكلمك كتابةً عبر الموبايل أوالانترنت.
إنها الكتابة في زمن «الاس أم أس» و»الواتس أب» والتويتر والفيسبوك والايميل... إنها الكتابة التي لم يشهد أي عصر سابق ما يوازيها ازدهاراً ورواجاً. هذا ما لحظه علماء التواصل والميديا. وأخيراً أحصت صحيفة «لوموند» الفرنسية عشرة بلايين رسالة تُبعث كل يوم في العالم عبرالفيسبوك وحده. هذا رقم هائل ورهيب، بخاصة إذا اضيفت إليه الاعداد التي يتعذر إحصاؤها من رسائل «الاس.أم.أس» التي لا تتوقف ليلاً ونهاراً، ناهيك عن الايميل وسواه.
كان العلماء يتوقعون قبل عقود انحساراً تدريجياً لما يسمّى «حرفة» الكتابة، لكنّ عصر التواصل الالكتروني فاجأهم أيما مفاجأة، أصابهم في عقر مختبراتهم وجعلهم يعاودون النظر في آرائهم. لكنّ ازدهار هذه الكتابة الالكترونية لم يعنِ البتة أنّ الكتابة هي في أفضل أحوالها. بل بدا هذا الازدهار كأنه يحمل في طياته سمات احتضار- لئلا أقول موت - الكتابة، الكتابة الحقيقية، السليمة والصحيحة. ولكن قبالة هذا الاحتضار- أو الموت - راحت تولد كتابة جديدة، كتابة هي ضرب من ضروب الكلام الذي لا هدف له سوى التواصل اليومي، أياً تكن مرتبته اللغوية، وهي بلا شك من المرتبات الدنيا وغاية في الانحطاط.
الكتابة مزدهرة إذاً. من يجرؤ على نقض هذه المقولة أو الظاهرة؟ الكتابة الالكترونية طبعاً، لا الكتابة التي درج أهل اللغة والعلم على تسميتها وتحديد معالمها ووضع الأسس التي قامت - وتقوم - عليها. الكتابة لا الكلام اليومي أوالارتجال و»الحكي» الذي على عواهنه. الكتابة التي تتم كيفما اتفق، وبما تيسر من حروف وأرقام تحل محل الحروف، الكتابة المتطفلة واللاهية الاقرب الى المكالمة الهاتفية العابرة والثرثرة ... الكتابة «العامية» والعامة التي تناقض الكتابة الحقيقية ذات الكلمات الموزونة والمفردات المنتقاة والجمل المسبوكة والافكار والمشاعر... الكتابة الحقيقية التي لا تخلو من صعوبة ولا تتخلى عن جهد، الكتابة التي هي أشبه بخطاب ذاتي أو مونولوغ يسترسل فيها صاحبها من غير انقطاع.
لعل أخطر ما أنجزته ظاهرة الكتابة الالكترونية هو هدمها الحدود بين المكتوب والمحكي، أو دمجهما معاً في نسيج هجين لا هو بالمكتوب الصرف ولا بالمحكي البحت. بل إن هذه الظاهرة ساهمت في إسقاط المكتوب الى حضيض المحكي شبه المشوه بدلاً من أن ترقى بالمحكي الى مصاف المكتوب. أضحت الكتابة هنا صنو الكلام ولكن ليس بملكته وفرادته وإنما بركاكته و»سوقيته» إن جاز القول. ولطالما أثبت علماء اللغة القدامى والالسنيون الجدد أن الكتابة تختلف عن الكلام، وأن شعار «اكتب كما تتكلم» هو خاطئ تماماً. حتى الكتابة باللغة العامية والمحكية تختلف كل الاختلاف عن الكلام المحكي. وهذا ما أثبته على سبيل المثل الشعر الجميل المكتوب بالعامية. وهنا لا بد من تذكر القول الشهير للكاتب الفرنسي الشهيرابن القرن الثامن عشر بوفون: «اولئك الذين يكتبون مثلما يتكلمون، هم، مهما أجادوا في الكلام، يخفقون في الكتابة».
ليس الخوف ان تروج الكتابة الالكترونية وأن تشيع و»تدرج» وتصبح وسيلة تواصل بين البشر، حتى وإن اقتصّت من علاقاتهم الانسانية ومشاعرهم وساهمت في عزلهم بعضهم عن بعض، الخوف أن تحل هذه الكتابة الهجينة محل الكتابة الحقيقية وتصبح هي القاعدة والمثال، وان تكسر قدسية اللغة ورهبة النص وهالة الكاتب... الخوف هو أن تقتل القارئ الحقيقي خالقة قارئاً جديداً هو قارئ العصر الاكتروني، القارئ السطحي والعابر وذو الذائقة المشوهة والذاكرة «المثقوبة».
جميعهم يكتبون، لكن الكتابة تنحسر ومثلها القارئ ومثلها الكتاب. هذا زمن ازدهار الثقافة الاستهلاكية ، ثقافة «الاس.ام.اس» السريعة «الذوبان» والتبخر.
http://alhayat.com/OpinionsDetails/565799
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق