هناك كلمات عابرة للغات والقارات. كلمة تولد من فم ثمّ تتحوّل إلى كلمة مألوفة على الأسماع في كلّ الأصقاع. وأغلب هذه الكلمات أسماء، فللاسم قوّة تفوق قوّة الأفعال والحروف، فحرف الجرّ " في" مثلاً، حرف لا يحبّ الغربة، ولا التشرّد في لغات الآخرين، يعيش حيث تعيش اللغة العربية، لا ينفصل عنها ولا تنفصل عنه، فحروف الجرّ من أكثر الكلمات إخلاصاً للغاتها الأمّ! بخلاف كلمات هي أسماء سواء كانت أسماء علم أو أسماء جنس، فالأسماء تحمل روح ابن بطوطة الجوّال في الأمصار. والطريف ببعض الكلمات أنّ اهلها يتخلّون عن خدماتها، ولكن تستمرّ حرّة وطليقة في لغات أخرى، أو قل إنّ بعض الكلمات يتخلّى عنها أهلها فتتبّناها لغات أخرى وترعاها وتمدّها بأسباب البقاء، فكلمة " فول"، على سبيل المثال، كانت كلمة غير مألوفة عند العرب لا لأنّ الفول غير مألوف ولكن لأن اسمه لم يكن " الفول" ، وإنما كان "الباقلاّء"، وأحد كبار علماء الدين الاسلاميّ صاحب كتاب " إعجاز القرآن" كان يدعى الباقلاّنيّ أي بائع الفول أو الفوّال بلغة اليوم، ولكن كلمة باقلاّء تقلّص استعمالها العربيّ ويكاد أن يتوارى عن السمع، ولكن كلمة " باقلاء" لم تصب بانهيار عصبي جرّاء استغناء العرب عن استعمالها. حملت كلمة الباقلاء أصواتها رحلت إلى لغات أخرى، استقرّت في إيران، وتحوّلت إلى مفردة ايرانية حيّة ترزق في الأفواه تحت صيغة " باقلا" ، وإلى مفردة تركية بحرف لاتينيّ bakla، وإن تتبعت مسارها ومصيرها يتبين لك أنّ تجربتها غير العربية هي أغنى من تجربتها العربية من حيث عمرها الزمنيّ، فلا تدري مفردة في أي لغة تعيش، ولا في أي لغة تموت!
الغربة تمنح الناس كما تمنح الكلمات فرصاً لا تتوفر في مسقط الرأس، وما تقوله عن الناس يمكن أن تقوله عن الكلمات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق