ثم ترامى الحديث إلى أمر المطعمين والطاعمين،
والذين يهشون عند المائدة، والذين يعبسون ويجمون ويطرقون، والذين يصخبون ويلغطون،
ويضجرون ويغتاظون.
فقال: أحب أن أسمع في هذا أكثر ما فيه، ويمر بي أعجبه، فإن في معرفة هذا الباب تهذيباً وإيقاظاً كثيراً.
فكان في الجواب: إن الناس قديماً وحديثاً قد خاضوا في هذا الفن خوضاً بعيداً، وما وقفوا منه عند حد، لأن الحديث عن الأخلاق المختلفة بالأمزجة المتباينة، والطبائع المتنائية لا يكاد ينتهي إلى غاية يكون فيها شفاءٌ للمستمع المستفيد و لا للرواية المفيد.
قال: قبل كل شيء أعلمونا يا أصحابنا: الحث على الأكل أحسن، أم الإمساك حتى يكون من الأكل ما يكون? فكان من الجواب: أن هذه المسئلة بعينها جرت بالأمس بالري عند ابن عباد فتنوهب الكلام فيها، وأفضى إلى أن الأولى الحث والتأنيس والبسط والطلاقة ولين اللفظ وقلة التحديق وإسجاء الطرف مع اللطف والدماثة، من غير دلالةٍ على تكلفٍ في ذلك فاضح ولا إمساكٍ عنه قادح.
وحكى ابن عباد في هذا الموضع ان بعض السلف قال: الطعام أهون من أن يحث على تناوله.
وقال الحسن بن عليك الطعام أجل من أن لا يحث على تناوله، ومذهب الحسن أحسن.
قال: ولقد حضرت مولد ناسٍ لا أظن بهم البخل فلم يحثوني ولم يبسطوني فقبضني ذلك، وكأن انقباضي كان بمعونتهم، وإن لم يكن بإرادتهم.
قال الوزير: هذه فائدة من هذا الرجل الذي يتهادى قوله، وتتراوى أخباره.
ثم حكيت له أن أسماء بن حارجة قال: ما صنعت طعاماً قط فدعوت عليه نفراً إلا كانوا أمن علي مني عليهم. فقال: زدنا من هذا الضرب ما كان، قلت: لو أذن لي في جمعه كان أولى؛ قال: لك ذلك فما يضرنا أن تطرب آذاننا بما تهوى نفوسنا.
فكان من الجواب أن الجاحظ قد أتى على جمهرة هذا الباب إلا ما شذ عنه مما لم يقع إليه، فإن العالم - وإن كان بارعاً - ليس يجوز أن يظن به أنه قد أحاط بكل باب، أو بالباب الواحد إلى آخره؛ على أنه حدث من عهد الجاحظ إلى وقتنا هذا أمورٌ وأمور، وهناتٌ وهناتٌ، وغرائب وعجائب، لأن الناس يكتسبون على رأس كل مائة سنةٍ عادةً جديدة، وخليقةً غير معهودةٍ، وبدء هذه المئين هو الوقت الذي فيه تنعقد شريعة، وتظهر نبوة، وتفشو أحكام، وتستقر سنن، وتؤلف أحوالٌ بعد فطامٍ شديد، وتلكؤٍ واقع؛ ثم على استنان ذلك يكون ما يكون.
وقال ميمون بن مهران: من ضاف البخيل صامت دابته، واستغنى عن الكنيف، وأمن التخمة.
وقال حامد اللفاف المتزهد: المرائي إذا ضاف إنساناً حدثه بسخاوة إبراهيم، وإذا ضافه إنسانٌ حدثه بزهد عيسى بن مريم.
وقال مالك بن دينار: دخلنا على ابن سيرين فقال: ما أدري ما أطعمكم? ثم قدم إلنيا شهدة.
وقال الأعمش: كان خيثمة يصنع الخبيص ثم يقول: كلوا فوالله ما صنع إلا من أجلكم.
وقال بكر بن عبد الله المزني: أحق الناس بلطمةٍ من إذا دعي إلى طعامٍ ذهب بآخر معه، وأحقهم بلطمتين من إذا قيل له: اجلس ها هنا قال: بل ها هنا؛ وأحق الناس بثلاث لطمات من إذا قيل له: كل، قال: ما بال صاحب البيت لا يأكل معنا.
وقال إبراهيم بن الجنيد: كان يقال: أربع لا ينبغي لشريف أن يأنف منهن وإن كان أميراً: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته للعالم يتعلم منه، والسؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه، وخدمة الضيف بنفسه إكراماً له.
وقال حاتم الأصم: كان يقال العجلة من الشيطان إلا في خمس، فإنها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إطعام الضيف إذا حل، وتجهيز الميت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا حل ووجب، والتوبة من الذنب إذا وقع.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: :ليلة الضيف حقٌ واجبٌ على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه فهو أحق به إن شاء أخذ، وإن شاء ترك".
وجاءت امرأة إلى الليث بن سعد وفي يدها قدح، فسألت عسلاً وقالت: زوجي مريض؛ فأمر لها براوية عسل؛ فقالوا: يا أبا الحرث: إنما تسأل قدحاً. قال: سألت قدرها ونعطيها على قدرنا.
خرج ابن المبارك يوماً إلى أصحابه، فقال لهم: نزل بنا ضيفٌ اليوم فقال: اتخذوا لي فالوذجاً؛ فسرنا ذلك منه.
وقال الحسن في الرجل يدخل بيت أخيه فيرى السلة فيها الفاكهة: لابأس أن يأكل من غير أن يستأذنه.
وقال ابن عمر: أهديت لرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شاةٌ فقال: أخي فلانٌ أحوج إليها، وبعث بها إليه، فلم يزل يبعث بها واحدٌ بعد واحد حتى تداولها تسعة أبيات، ورجعت إلى الأول، فنزلت الآية: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ".
قال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له ظهرٌ فليعد على من لا ظهر له؛ ومن كان له زادٌ فليعد على من لا زاد له، حتى رأينا أنه لا حق لأحدٍ منا في الفضل".
وسئل ابن عمر. ما حق المسلم على المسلم? قال: ألا يشبع ويجوع، وألا يلبس ويعرى، وأن يواسيه ببيضائه وصفرائه.
وكان ابن أبي بكرة ينفق على جيرانه أربعين داراً سوى سائر نفقاته، وكان يبعث إليهم بالأضاحي والكسوة في الأعياد، وكان يعتق في كل يوم عيدٍ مائة مملوك.
وكان حماد بن أبي سليمان يفطر كل ليلةٍ من شهر رمضان خمسين إنساناً، وإذا كان يوم الفطر كساهم ثوباً ثوباً وأعطاهم مائة مائة.
وقال الشاعر:
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تجافوا عن ذنب السخي، فإن الله يأخذ بيده كلما عثر".
وقال عليه السلام: "من أدى الزكاة، وقرة الضيف، وآوى في النائبة، فقد وقي شح نفسه".
وقالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز: أفٍ للبخل، ولو كان طريقاً ما سلكته، ولو كان ثوباً ما لبسته، ولو كان سراجاً ما استضأت به.
وقال الأصمعي: قال بعض العرب: ليست الفتوة الفسق ولا الفجور، ولا شرب الخمور، وإنما الفتوة طعامٌ موضوع، وصنيع مصنوع، ومكانٌ مرفوع، ولسانٌ معسول، ونائل مبذول، وعفاف معروف، وأذى مكفوف.
وقال أبو حازم المدني: أسعد الناس بالخلق الحسن صاحبه، نفسه منه في راحة، ثم زوجته، ثم ولده، حتى إن فرسه ليصهل إذا سمع صوته، وكلبه يشرشر بذنبه إذا رآه وقطه يدخل تحت مائدته، وإن السيىء الخلق لأشقى الناس، نفسه منه في بلاء، ثم زوجته، ثم ولده، ثم خدمه، وإ،ه ليدخل وهم في سرور فيتفرقون فرقاً منه، وإن دابته لتحيد عنه إذا رأته، مما ترى منه، وكلبه ينزو على الجدار، وقطه يفر منه.
وكان على باب ابن كيسان مكتوب: ادخل وكل.
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول في بكائها على النبي صلى الله عليه وسلم: بأبي من لم ينم على الوثير، ولم يشبع من خبز الشعير.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يخلق وعاءً ملىء شراً من بطنٍ، فإن كان لابد فاجعلوا ثلثاً للطعام، وثلثاً للشراب، وثلثاً للريح".
قال الشاعر:
وحكى لنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بجرجان إمام الدنيا قال: رأيت أبا خليفة المفضل بن الحباب، وقد دعي إلى وليمةٍ فرأى الصحاف توضع وترفع، فقال: أللحسن والمنظر دعينا، أم للأكل والمخبر? فقيل: بل للأكل والمخبر، قال: فاتركوا الصحفة يبلغ قعرها.
وكان سليمان بن ثوابة ضخم الخوان، كثير الطعام، وافر الرغيف، وكان معجباً بإجادة الألوان، واتخاذ البدائع والطرائف والغرائب على مائدته؛ وكانت له ضروبٌ من الحلوى لا تعرف إلا به، وكان خبزه الذي يوضع على المائدة الرغيف من مكوك دقيق، ولذلك قال أبو فرعون العدوي:
وعشق رجلٌ جاريةً رومية كانت لقوم ذوي يسار، فكتب إليها يوماً: جعلت فداك، عندي اليوم أصحابي، وقد اشتهيت سكباجةً بقرية فأحب أن توجهي إلينا بما يعمنا ويكفينا منها، ودستجةً من نبيذٍ لنتغذى ونشرب على ذكرك، فلما وصلت الرقعة وجهت إليه بما طلب؛ ثم كتب إليها يوماً آخر: فدتك نفسي، إخواني مجتمعون عندي، وقد اشتهيت قليةً جزورية فوجهي بها إلي وما يكفينا من النبيذ والنقل، ليعرفوا منزلتي عندك، فوجهت إليه بكل ما سأل؛ ثم كتب إليها يوماً آخر: جعلت فداك، قد اشتهيت أنا وأصحابي رءوساً سماناً، فأحب أن توجهي إلينا بما يكفينا، ومن النبيذ بما يروينا؛ فكتبت الجارية عند ذلك: إني رأيت الحب يكون في القلب، وحبك هذا ما تجاوز المعدة. وكتبت أسفل الرقعة:
وقال جرير:
وقالت عادية بنت فرعة الزبيرية في ابنها دوس:
يقال سغبل رأسه بالدهن وسغسغه ورواه وأمرعه.
قال الواقدي: قيل لأم أيوب: أي الطعام كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد عرفتم ذلك بمقامه عندكم? فقالت: ما رأيته أمر بطعامٍ يصنع له بعينه، ولا رأيناه أتى بطعام فعابه قط. وقد أخبرني أبو أيوب أنه تعشى عنده ليلةً من قصعة أرسل بها سعد بن عبادة فيها طفيشل فرأيته ينهك تلك القصعة ما لم ينهك غيرها، فرجع إلي فأخبرني، فكنا نعملها له. وكنا نعمل له الهريسة، وكانت تعجبه، وكان يحضر عشاءه من خمسة إلى ستةٍ إلى عشرة كما يكون الطعام في القلة والكثرة.
وكان أسعد بن زرارة يعمل له هريسة ليلةً وليلةً لا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها؛ أجاءت قصعة أسعد أم لا? فيقال: نعم، فيقول: هلموها؛ فنعرف بذلك أنها تعجبه.
قدم صهيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء ومعه أبو بكرٍ وعمر، بين أيديهم رطبٌ قد جاءهم به كلثوم بن الهدم أمهات جراذبن وصهيبٌ قد رمد في الطريق، وأصابته مجاعةٌ شديدة، فوقع في الرطب؛ قال صهيب: فجعلت آكل، فقال عمر: يا رسول الله، ألا ترى إلى صهيب يأكل الرطب وهو رمد? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتأكل الرطب وأنت رمد?" فقال صهيب: أنا آكل بشق عيني الصحيحة، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الأعشى:
وقال الكميت:
يقول إذا جاورنا جارٌ لم نكلفه أن يطبخ من عنده، ويكون ما يطبخه من عندنا بما نعطيه من اللحم لينصب قدره. ويقال للحيس سويطة. وقال: الرغيغة لبن يطبخ. وقال: هي العصيدة، ثم الحريرة ثم النجبرة، ثم الحسو. واللوقة: الرطب بالسمن، والسليقة: الذرة تدق وتصلح باللبن، والرصيعة: البر يدق بالفهر ويبل ويطبخ بشيء من السمن، والوجيئة: التمر يوجأ ثم يؤكل باللبن.
وقال أعرابي: ليس من الألبان أحلى من لبن الخلفة.
والنخبسة والقطبية يخلط لبن إبلٍ بلبن غنم.
وقال أعرابي: الحمد لله الذي أغنانا باللبن عما سواه. ويقال أكل خبزاً قفاراً وعفاراً وعفيراً: لا شيء معه وعليه العفار والدمار وسوء الدار؛ وأكل خبزاً جبيزاً أي فطيراً يابساً. وجاء بتمر فضٍ وفضاً وفذٍ وحثٍ: لا يلزق بعضه ببعض.
قال أبو الحسن الطوسي: أخبرني هشام قال: دخل علي فرجٌ الرخجي وقد تغديت واتكأت، فقال: يا أبا عبد الله: إنما تحسن الأكل والاتكاء.
قال: فتركت الأكل عنده أياماً، وبلغه ذلك، فبعث إلي: إن كنت لا تأكل طعامنا فليس لنا فيك حاجة. قال: فأكلت شيئاً ثم أتيته فلم يعتذر مما كان.
قال أبو الحسن: أخبرني الفراء قال: العرب تسمى السكباجة الصعفصة. وأنشد:
أبو مالك: الجوع، هكذا تقول العرب ويجىء ويجوء لغتان.
وقال الآخر:
أبو مالك ها هنا الشيب.
قال أبو الحسن: أخبرني الثوري عن أبي عبيدة في الحديث الذي يروى عن عمر بن الخطاب أنه رأى في روث فرسه حبة شعير، فقال: لأجعلن لك في غرز النقيع ما يشغلك عن شعير المسلمين. قال: والنقيع: موضع بالمدينة أحماه عمر بن الخطاب لخيل المسلمين، خلاف البقيع بالباء.
قال الطوسي: العرب تقول: أيدي الرجال أعناقها، أي من كان أطول يداً على المائدة تناول فأكل، الهاء ترجع على الإبل، أي أيدي الرجال أعناق الإبل، أي من طال نال.
قال الأصمعي: سألت بعض الأكلة فيمن كان يقدم على ميسري الناس كيف تصنع إذا جهدتك الكظة - والعرب تقول: إذا كنت بطناً فعدك زمناً -? قال: آخذ روثاً حاراً وأعصره وأشرب ماءه، فاختلف عنه مراراً، فلا ألبث أن يلحق بطني بظهري فأشتهي الطعام.
قال ابن الأعرابي: قال الكلابي: هو يندف الطعام إذا أكله بيده، ويلقم الحسو، واللقم بالشفة، والندف: الأكل باليد. وقال الزبيري: يندف.
وأنشد ابن الأعرابي:
أي ممتلئة. والتضمر: الهزال والنحافة، كالنخل المصمر، أي الذي قد ذوت جذوعه. قال الشنبوذي في قول الله تعالى: "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا". قال: الذين يثردون ويأكل غيرهم. قال أبو الحسن: كانت لي ابنة تجلس معي على المائدة فتبرز كفاً كأنها طلعةٌ، في ذراعٍ كأنها جمارة، فلا تقع عينها على أكلةٍ نفيسةٍ إلا خصتني بها، فزوجتها، وصار يجلس معي على المائدة ابنٌ لي، فيبرز لي كفاً كأنها كرنافة، في ذراعٍ كأنها كربة، فوالله إن تسبق عيني إلى لقمةٍ طيبةٍ إلا سبقت يده إليها.
وقال أعرابيٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: إني نذرت إذا بلغتني ناقتي أن أنحرها وآكل من كبدها. قال: "بئسما جازيتها".
أضل أعرابيٌ بعيراً له، فطلبه، فرأى على باب الأمير بختياً، فأخذه وقال: هذا بعيري، فقال: إنك أضللت بعيراً وهذا بختي. فقال: لما أكل علف الأمير تبخت. فضحك منه وتركه يعيد قوله ويعجبه.
الكدبة: غلظ اللحم وتراكمه، ومنه قول هشامٍ لسالم - وقد رآه فأعجبه جسمه -: ما رأيت ذا كدنةٍ أحسن منك، فما طعامك? قال: الخبز والزيت. قال: أما تأجمه? قال: إذا أجمته تركته حتى أشتهيه، ثم خرج وقد أصاب في جسمه برصاً. فقال لقمني الأحوال بعينه، فما خرج هشام من المدينة حتى صلى عليه.
وقال عبد الأعلى القاص: الفقير مرقته سلقة، وغذاؤه علقة، وخبزته فلقة، وسمكته شلقة، أي كثيرة الشوك.
قال رجاء بن سلمة: الأكل في السوق حماقة.
قيل لذؤيب بن عمرو: إنك مفلسٌ لا تقدر على قرصٍ ولا جمعٍ ولا حفاةل، وبيتك عامرٌ بالفأر.
قال علي بن عيسى: الطلاق الثلاث البتة إن كان يمنعهم من التحول عنه إلا أنهم يسرقون أطعمة الناس يأكلونها في بيته لأمنهم فيه، لأنه لا هر هناك ولا أحد يأخذ شيئاً ولا يؤذون، وإن لهم لمسقاةً مملوءةً ماءً كلما جفت سكب لهم فيها ماءٌ.
جعل الخبر عن الفأر على التلميح، كالخبر عن قومٍ عقلاء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكرموا الخبز فإن الله أكرمه وسخر له بركات السموات والأرض".
وقال آخر:
قال الأصمعي: الرجيع: الشواء يسخن ثانيةً. والنقيعة ما يحرزه رئيس القوم من الغنيمة قبل أن تقسم والجمع نقائع. وقال: أنشدني عيسى بن عمر لمعاوية بن صعصعة:
وقال مهلهل:
القدار: الجزار والقدار: الملك أيضاً. والقدام: رؤساء الجيوش، والواحد قادم.
وقال معن بن أوس يصف هدير قدرٍ:
وقال آخر:
قال: وإذا كان القحط فصدوا الإبل وعالجوا ذلك الدم بشيء من العلاج لها كما يصنع الترك، فإنها تجعله في المصران، ثم تشويه أو تطبخه، فيؤكل كما تؤكل النقانق وما أشبه ذلك.
وأما قوله: والعرق ناضبٌ، فإنما يعني قلة الدم لهزال البعير، وكذلك جميع الحيوان، وأكثر ما يكون دماً إذا كان بين المهزول والسمين.
وقالت أم هشام السلولية: ما ذكر الناس مذكوراً خيراً من الإبل وأجدى على أحدٍ بخيرٍ؛ هكذا روي.
وقال الأندلسي: إن حملت أثقلت، وإن مشت أبعدت، وإن حلبت أروت، وإن نحرت أشبعت.
قال أبو الحسن الهيثم، عن عبد العزيز بن يسار قال: قدمت يا جميري بخمس سفائف دقيق، وذاك في زمن مصعب وهو معسكرٌ بها فلقيني عكرمة بن ربعي الشيباني فقال: بكم أخذتها? قلت: بتسعين ألفاً. قال: فإني أعطيك مائةً وخمسين ألفاً على أن تؤخرني. فدفعتهن إليه، وما في المعسكر يومئذ دقيق. قال: فجاء بنو تيم الله فأخذوا ذلك الدقيق، فجعل كل قومٍ يعجنون على حيالهم، ثم جاءوا إلى رهوةٍ من الأرض فحفروها، ثم جعلوا فيها الحشيش، ثم طرحوا ذلك العجين فيها، ثم أقبلوا فأخذوا فرساً وديقاً … فخلوا عنه، ثم أقبلوا وهو يتبعهم حتى انتهوا إلى الحفيرة، فدفعوا الفرس الوديق فيها، وتبعها الفرس، وتنادى الفريقان: إن فرس حوشب وقع في حفيرة عكرمة فما أخرجوه إلا بالعمد. قال: فغلبه عكرمة.
قال شاعر:
وقال آخر:
قيل لصوفي: ما حد الشبع? قال: لا حد له، ولو أراد الله أن يؤكل بحدٍ لبين كما بين جميع الحدود. وكيف يكون للأكل حد، والأكلة مختلفو الطباع والمزاج والعارض والعادة، وحكمة الله ظاهرة في إخفاء حد الشبع حتى يأكل من شاء على ما شاء كما شاء.
وقيل لصوفيٍ: ما حد الشبع? فقال: ما نشط على أداء الفرائض، وثبط عن إقامة النوافل.
وقيل لمتكلم: ما حد الشبع? فقال: حده أن يجلب النوم، ويضجر القوم، ويبعث على اللوم.
وقيل لطفيلي: ما حد الشبع? قال: أن يؤكل على أنه آخر الزاد، ويؤتى على الجل والدق.
وقيل لأعرابي: ما حد الشبع? قال: أما عندكم يا حاضرة فلا أدري؛ وأما عندنا في البادية فما وجدت العين، وامتدت إليه اليد، ودار عليه الضرس وأساغه الحلق، وانتفخ به البطن، واستدارت عليه الحوايا، واستغاثت منه المعدة، وتقوست منه الأضلاع، والتوت عليه المصارين، وخيف منه الموت.
وقيل لطبيب: ما حد الشبع? قال: ما عدل الطبيعة، وحفظ المزاج وأبقى الشهوة لما بعد.
وقيل لقصار: ما حد الشبع? قال: أن تثب إلى الجفنة كأنك سرحان وتأكل وأنت غضبان، وتمضغ كأنك شيطان، وتبلغ كأنك هيمان، وتدع وأنت سكران، وتستلقي كأنك أوان.
وقيل لحمال: ما حد الشبع? قال: أن تأكل ما رأيت بعشر يديك غير عائفٍ ولا متقززٍ، ولا كارهٍ ولا متعزز.
وقيل لملاح: ما حد الشبع? قال: حد السكر. قيل: فما حد السكر? قال: ألا تعرف السماء من الأرض، ولا الطول من العرض، ولا النافلة من الفرض، من شدة النهس والكسر والقطع والقرض. قيل له فإن السكر محرم، فلم جعلت الشبع مثله? قال: صدقتم، هما سكران: أحد السكرين موصوفٌ بالعيب والخسار، والآخر معروفٌ بالسكينة والوقار. قيل له: أما تخاف الهيضة? قال: إنما تصيب الهيضة من لا يسمي الله عند أكله، ولا يشكره على النعمة فيه. فأما من ذكر الله وشكره فإنه يهضم ويستمرىء ويقوم إلى الزيادة.
وقيل لبخيل: ما حد الشبع? قال: الشبع حرامٌ كله، وإنما أحل الله من الأكل ما نفى الخوى، وسكن الصداع، وأمسك الرمق، وحال بين الإنسان وبين المرح، وهل هلك الناس في الدين والدنيا إلا بالشبع ولاتضلع والبطنة والاحتشاء، والله لو كان للناس إمامٌ لو كل بكل عشرةٍ منهم من يحفظ عليهم عادة الصحة، وحالة العدالة، حتى يزول التعدي، ويفشو الخير.
وقيل لجندي: ما حد الشبع? قال: ما شد العضد، وأحمى الظهر، وأدر الوريد، وزاد في الشجاعة.
وقيل لزاهد: ما حد الشبع? قال: ما لم يحل بينك وبين صوم النهار وقيام الليل. وإذا شكا إليك جائعٌ عرفت صدقه لإحساسك به.
وقيل لمدني: ما حد الشبع? فقال: لا عهد لي به، فكيف أصف ما لا أعرف? وقيل ليمني: ما حد الشبع? قال: أن يحشى حتى يخشى.
وقيل لتركي: ما حد الشبع? قال: أن تأكل حتى تدنو من الموت.
وقيل سمويه القاص: من أفضل الشهداء? قال: من مات بالتخمة، ودفن على الهيضة.
قيل لسمرقندي: ما حد الشبع? قال: إذا جحظت عيناك، وبكم لسانك، وثقلت حركتك، وارجحن بدنك، وزال عقلك، فأنت في أوائل الشبع. قيل له: إذا كان هذا أوله، فما آخره? قال: أن تنشق نصفين.
قيل لهندي: ما حد الشبع? قال: المسئلة عن هذا كالمحال، لأن الشبع من الأرز النقي الأبيض، الكبار الحب، المطبوخ باللبن والحليب، المغروف على الجام البلور، المدوف بالسكر الفائق، مخالفٌ للشبع من السمك المملوح وخبز الذرة، وعلى هذا يختلف الأمر في الشبع. فقيل له: فدع هذا، إلى متى ينبغي أن يأكل الإنسان? قال: إلى أن يقع له أنه إن أراد لقمة زهقت نفسه إلى النار.
قيل لمكارٍ: ما حد الشبع? قال: والله ما أدري، ولكن أحب أن آكل ما مشى حماري من المنزل إلى المنزل.
قيل لجمال: ما حد الشبع? قال: أنا أواصل الأكل فما أعرف الحد، ولو كنت أنتهي لوصفت الحال فيه، أعني أني ساعةً ألت الدقيق، وساعة أمل الملة، وساعةً أثرد، وساعةً آكل وساعةً أشرب لبن اللقاح؛ فليس لي فراغ فأدري أني بلغت من الشبع، إلا أنني أعلم في الجملة أن الجوع عذابٌ وأن الأكل رحمة، وأن الرحمة كلما كانت أكثر، كان العبد إلى الله أقرب، والله عنه أرضى.
قال الوزير: لما بلغت هذا الموضع من الجزء - وكنت أقرأ عليه -: ما أحسن ما اجتمع من هذه الأحاديث! هل بقي منها شيء? قلت: بقي منها جزء آخر. قال: دعه لليلةٍ أخرى وهات ملحة الوداع. قلت: قيل لصوفيٍ في جامع المدينة: ما تشتهي? قال: مائدةً روحاء عليها جفنةٌ رحاء، فيها ثريدةٌ صفراء، وقدرٌ حمراء بيضاء.
قال: أبيت الآن ألا تودع إلا بمثل ما تقدم? وانصرفت.
ثم حضرت فقرأت ما بقي من هذا الفن.
قال رجلٌ من فزارة:
المقدحر: المتهيىء للسباب.
وقال أبو دلامة الأسدي:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال أبو النجم:
وقال آخر:
وأنشد ابن الأعرابي:
وأنشد أيضاً:
وأنشد ابن حبيب:
وأنشد الآمدي:
وقال محمد بن بشير:
قال الأعرابي: نعم الغداء السويق، إن أكلته على الجوع عصم، وإن أكلته على الشبع هضم.
وقال العوامي - وكان زواراً لإخوانه في منازلهم -: العبوس بوس، والبشر بشرى، والحاجة تفتق الحيلة، والحيلة تشحذ الطبيعة.
ورأيت الحنبلوني ينشد ابن آدم - وكان موسراً بخيلاً -:
وحكى لنا ابن أسادة قال: كان عندنا - يعني بأصفهان - رجلٌ أعمى يطوف ويسأل، فأعطاه مرةً إنسانٌ رغيفاً، فدعا له وقال: أحسن الله إليك، وبارك عليك، وجزاك خيراً، ورد غربتك. فقال له الرجل: ولم ذكرت الغربة في دعائك، وما علمك بالغربة? فقال: الآن لي ها هنا عشرون سنة ما ناولني أحدٌ رغيفاً صحيحاً.
وقال آخر:
وقال الكروسي:
وأنشد:
وأنشد آخر:
العرب تقول: إذا شبعت الدقيقة لحست الجليلة.
قال ابن سلام: كان يخبز في مطبخ سليمان - عليه السلام - في كل يومٍ ستمائة كرٍ حنطة، ويذبح له في كل غداةٍ ستة آلاف ثور وعشرون شاةً، وكان يطعم الناس ويجلس على مائدته بجانبه اليتامى والمساكين وأبناء السبيل، ويقول لنفسه: مسكينٌ بين مساكين.
ولما ورد تهامة وافى الحرم وذبح للبيت طول مقامه بمكة كل يومٍ خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة. وقال لمن حضر: إن هذا المكان سيخرج منه نبيٌ صفته كذا وكذا.
وقال أعرابي:
وروى هشيم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كرم المرء أن يطيب زاده في السفر.
وقال ابن الأعرابي: يقال: جاء فلانٌ ولقد لغط رباطه من الجوع والعطش.
وأنشد:
أي جاع حتى كأنه يمشي في جانب متعقفاً.
وقال أيضاً: إن من شؤم الضيف أن يغيب عن عشاء الحي، أي لا يدركه، فيريد إذا جاءهم أن يتكلفوا له عشاءً على حدة.
وأنشد:
واللقمة واللقمة إذا جمعتا من الثريد والعصائد يقال لهما دبلة، ومنه سميت الدبيلة، وهي الورم الذي يخرج بالناس. وأنشد:
وقال الفرزدق:
وقال سعيد بن المسيب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطيبوا الطعام فإنه أنفى للسخط، وأجلب للشكر، وأرضى للصاحب".
قال بشار:
المسعور: الجائع. قال هميان بن قحافة:
وقال شاعر:
البزخ: دخول البطن وخروج الثنة أسفل السرة.
وقال آخر:
شداه: طيبه.
وقال أعرابي: بنو فلان لا يبزرون ولا يقدرون.
وقال الثوري: بطنوا غداءكم بشربة.
وقال الشاعر:
الكريب: الشوبق وهو المحور والمسطح.
وقال الشاعر:
قال الشعبي: استسقيت على خوان قتيبة، فقال: ما أسقيك? فقلت: الهين الوجد، العزيز الفقد، فقال: يا غلام، اسقه الماء.
مر مسكينٌ بأبي الأسود ليلاً وهو ينادي: أنا جائع! فأدخله وأطعمه حتى شبع، ثم قال له: انصرف إلى أهلك، وأتبعه غلاماً وقال له: إن سمعته يسأل فاردده إلي. فلما جاوزه المسكين سأل كعادته، فتشبث به الغلام ورده إلى أبي الأسود. فقال: ألم تشبع? فقال: بلى. قال: فما سؤالك? ثم أمر به فحبس في بيتٍ وأغلق عليه الباب، وقال: لا تروع مسلماً سائر الليلة ولا تكذب. فلما أصبح خلى سبيله، وقال: لو أطعنا السؤال صرنا مثلهم.
وسمع دابةً له تعتلف في جوف الليل، فقال: إني لأراك تسهرين في مالي والناس نيام، والله لا تصبحين عندي. وباعها.
وأبو الأسود يعد في الشعراء والتابعين والمحدثين والبخلاء والمفاليج والنحويين والقضاة والعرج والمعلمين.
وقال الشاعر:
كان مسلم بن قتيبة لا يجلس لحوائج الناس حتى يشبع من الطعام الطيب، ويروي من الماء البارد، ويقول: إن الجائع ضيق الصدر، فقير النفس، والشبعان واسع الصدر، غني النفس.
وقال أعرابي:
وقال الفرزدق:
ولديك الجن:
وقال آخر:
وقال مسعر بن مكدم لرقبة بن مصلة: أراك طفيلياً. قال: يا أبا محمد، كل من ترى طفيليٌ إلا أنهم يتكاتمون.
وقال شاعر:
قال المفجع: الرأس الرئيس.
اشتد بأبي فرعون الشاشي الحال فكتب إلى بعض القضاة بالبصرة:
فأجابه إلى ما سأل.
ويقال: وقف أعرابيٌ على حلقة الحسن البصري رحمة الله عليه، فقال: رحم الله من أعطى من سعة، وواسى من كفاف، وآثر من قلة. فقال الحسن: ما أبقى أحداً إلا سأله.
وقال ابن حبيب: يقال أحمق من الضبع، وذلك أنها وجدت تودية في غدير، فجعلت تشرب الماء وتقول: يا حبذا طعم اللبن حتى انشق بطنها فماتت. والتودية: العود يشد على رأس الخلف لئلا يرضع الفصيل أمه.
دعا رجل آخر فقال له: هذه تكسب الزيارة وإن لم تسعد، ولعل تقصيراً أنفع فيما أحب بلوغه من برك. فقال صاحبه: حرصك على كرامتي يكفيك مؤونة التكلف لي.
قيل لأعرابي: لو كنت خليفةً كيف كنت تصنع? قال: كنت أستكفي شريف كل قومٍ ناحيته، ثم أخلو بالمطبخ فآمر الطهاة فيعظمون الثريدة ويكثرون العراق، فابدأ فآكل لقماً، ثم آذن للناس، فأي ضياعٍ يكون بعد هذا?! وقال أعرابي لابن عم له: والله ما جفانكم بعظام، ولا أجسامكم بوسام، ولا بدت لكم نار، ولا طولبتم بثار.
وقيل لأعرابي: لم قالت الحاضرة للعبد: باعك الله في الأعراب? قال: لأنا نعري جلده، ونطيل كده، ونجيع كبده.
وقال طفيلي: إذا حدثت على المائدة فلا تزد في الجواب على نعم، فإنك تكون بها مؤانساً لصاحبك، ومسيغاً للقمتك، ومقبلاً على شأنك.
وقيل لأعرابي: أي شيء أحد? قال: كبدٌ جائعة، تلقى إلى أمعاء ضالعة.
وقيل لآخر: أي شيء أحد? قال ضرس جائع، يلقى إلى معي ضالع.
وقال آخر:
الجوزل: فرخ الحمام. والورل: دابة. أرمل: صفةٌ للورل. وإذا كان كذلك كان أسمن له، وهو يسفد فيهزل.
ويقال: أقبح هزيلين: المرأة والفرس، وأطيب غثٍ أكل غث الإبل، وأطيب الإبل لحماً ما أكل السعدان، وأطيب الغنم لبناً ما أكل الحربث.
ويقال: أهون مظلومٍ سقاءٌ مروب، وهو الذي يسقى منه قبل أن يمخض وتخرج زبدته.
ويقال: سقانا ظليمة وطبه، وقد ظلمت أوطب القوم.
وقال الشاعر:
يعني وطب لبن.
وكان الحسن البصري إذا طبخ اللحم قال: هلموا إلى طعام الأحرار.
قال سفيان الثوري: إني لألقى الرجل فيقول لي مرحباً فيلين له قلبي، فكيف بمن أطأ بساطه، وآكل ثريده، وأزدرد عصيده?.
حكى أبو زيد: قد هجا غرثى: إذا ذهب، وقد أهجأ طعامكم غرثى: إذا قطعه.
قال الشاعر:
قال: ويقال بأرت بؤرةً فأنا أبارها، إذا حفرت حفيرةً يطبخ فيها وهي الإرة. ويقال: أرت إرةً فأنا أثرها وأراً.
وقال حسان:
قال أبو عبيدة: كان الأصمعي بخيلاً، وكان يجمع أحاديث البخلاء ويوصي بها ولده ويتحدث بها.
وكان أبو عبيدة إذا ذكر الأصمعي أنشد:
ويقال: أسأرت، إذا أبقيت من الطعام والشراب أو غيرهما، والاسم السؤر وجماعته الأسآر. ويقال: فأدت الخبزة في الملة أفادها إذا خبزتها فيها. والمفأد: الحديدة التي يخبز بها ويشوى. ويقال: تملأت من الأكل والشراب تملوا، إذا شبعت منهما وامتلأت. ويقال: لفأت اللحم عن العظم لفأً إذا جلفت اللحم عن العظم. واللفيئة هي البضعة التي لا عظم فيها نحو النحضة والهبرة والوذرة.
وأنشد يعقوب:
قال الأصمعي: قال ابن هبيرة: تعجيل الغداء يزيد في المروءة، ويطيب النكهة، ويعين على قضاء الحاجة.
قال بعض العرب: أطيب مضغة أكلها الناس صيحانيةٌ مصلبة.
ويقال: آكل الدواب، برذونةٌ رغوث وهي التي يرضعها ولدها.
قال أبو الحارث حميد: ما رأيت شيئاً أشبه بالقمر ليلة البدر من قدرٍ سقيت اللبن كثيرة السكر.
وقال الشاعر:
ضم عثمان بن رواح السفر ورفيقاً له، فقال له الرفيق: امض إلى السوق فاشتر لنا لحماً. قال: والله ما أقدر. قال: فمضى الرفيق واشترى اللحم ثم قال لعثمان: قم الآن فاطبخ القدر. قال: والله ما أقدر. فطبخها الرقيق. ثم قال: قم الآن فاثرد. قال: والله إني لأعجز عن ذلك. فثرد الرفيق. ثم قال: قم الآن فكل. فقال: والله لقد استحييت من كثرة خلافي عليك، ولولا ذلك ما فعلت.
قال يونس: أتيت ابن سيرين فدعوت الجارية، فسمعته يقول: قولي إنه نائم. فقلت: معي خبيص. فقال: مكانك حتى أخرج إليك.
قال أردشير: احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع.
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه جابر بن عبد الله: هلاك الرجل أن يحتقر ما في بيته أن يقدمه إلى ضيفه، وهلاك الضيف أن يحتقر ما قدم إليه.
وقال الشاعر:
وقال ابن بدر:
وقال آخر:
قال ابن حبيب: كان الرجل إذا اشتد عليه الشتاء تنحى ونزل وحده لئلا ينزل به ضيفٌ فيكون صقعاً مستحباً.
وهذا ضد قول زهير:
فإذا كان الشتاء انحاز الناس من الجدب والجهد، وإذا أخصبوا أغاروا للثأر لا للسؤال.
وقال الشاعر في عبيد الله بن عباس:
وقال مجاهدٌ في قول الله عز وجل: "وأعتدت لهن متكئاً"، أي طعاماً، يقال: اتكأنا عند فلانٍ، أي طعمنا.
ذكر الأصمعي أن أعرابياً خرج في سفر ومعه جماعة، فأرمل بعضهم من الزاد، وحضر وقت الغذاء وجعل بعضهم ينتظر بعضاً بالغداء، فلما أبطأ ذلك عليهم عمد بعضهم إلى زاده فألقاه بين يدي القوم، فأقبلوا يأكلون، وجلس صاحب الزاد بعيداً للتوفير عليهم، فصاح به أعرابي: يا سؤدداه! وهل شرفٌ أفضل من إطعام الطعام والإيثار به في وقت الحاجة إليه? لقد آثرت في مخمصةٍ ويوم مسغبة، وتفردت بمكرمة قعد عنها من أرى من نظرائك، فلا زالت نعم الله عليك غاديةً ورائحة.
وفي مثله يقول حاتمٌ الطائي:
قال: المخمصة: المجاعة. والخمص: الجوع.
قال شاعرٌ يذم رجلاً:
وقال المرقش الأكبر:
وكتب بعضهم إلى أخٍ له: إن رأيت أن تروي ظمأ أخيك بقربك، وتبرد غليله بطلعتك، وتؤنس وحشته بأنسك، وتجلو غشاء ناظره بوجهك، وتزين مجلسه بجمال حضورك، وتجعل غداءك عنده في منزلك الذي هو فيه ساكن، وتممت له السرور بك باقي يومك، مؤثراً له على شغلك، فعلت - إن شاء الله -.
وقال الشاعر:
قال بعض الخطباء: العجب من ذي جدةٍ منعمٍ عليه يطوي جاره جوعاً وقراً، وأفرخه شعثٌ جردٌ من الريش، وهو مبطانٌ محتشٍ من حلوه وحامضه، مكتنٌ في كنه ودفئه، مزينٌ له شهوةٌ عن أداء الذي عليه لجاره وقريبه وذي حلةٍ بطرٍ رفةٍ كيف يأمن سلباً مفاجئاً? أما لو وجه بعض فضله إلى ذي حاجةٍ إليه كان مستديماً لما أولى، مستزيداً مما أوتي.
قال الشاعر:
وفي هذه الأبيات ما يستحسن:
وقال آخر:
وقال آخر:
الحربة: الغرارة.
وقال جابر بن قبيصة: ما رأيت أحلم جليساً، ولا أفضل رفيقاً، ولا أشبه سريرةً بعلانية، من زياد.
وقال جابر أيضاً: شهدت قوماً ورأيتهم بعيني، فما رأيت أقرأ لكتاب الله، ولا أفقه في دين الله، من عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وما رأيت رجلاً أعطى من صلب ماله في غير ولائه، من طلحة بن عبيد الله. وما رأيت رجلاً أسود من معاوية. وما رأيت رجلاً أنصع ظرفاً، ولا أحضر جواباً، ولا أكثر صواباً، من عمرو بن العاص. وما رأيت رجلاً المعرفة عنده أنفع منها عند غيره، من المغيرة بن شعبة.
ويقال: ما كان الطعام مريئاً ولقد مرأ، وما كان الرجل مريئاً وقد مرؤ.
وقال لنا القطان أبو منصور رئيس أهل قزوين: الرجل من أرض أردبيل إذا دخل بلداً يسأل فيقول: كيف الخبز والمبرز، ولا يسأل عن غيرهما. فقيل له: لم ذلك? فقال: يأخذ الخبز والمبرز ويأكل ويسلح إلى الصباح.
قال الشاعر:
وقال آخر:
وقال آخر يصف دار قوم:
قال الهلالي: أتى رجلٌ أبا هريرة فقال: إني كنت صائماً فدخلت بيت أبي فوجدت طعاماً، فنسيت فأكلت. قال: الله أطعمك. قال: ثم دخلت بيتاً آخر فوجدت أهله قد حلبوا لقحتهم فسقوني، فنسيت فشربت. فقال: يا بني هون عليك فإنك قلما اعتدت الصيام.
وقال الشاعر:
قال مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول الله، أنت سيدنا، وأنت أطولنا علينا طولاً، وأنت الجفنة الغراء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا بقولكم ولا يستفزنكم الشيطان فإنما أنا عبد الله ورسوله".
وقال آخر:
قال يونس: أشد طعامٍ ضراً ما كان من عامٍ إلى عام، وهو اللبأ الذي لا يوجد إلا في الولادة كل عامٍ وإن كان مزبداً.
حكى يونس: أشد طعامٍ ضراً ما كان من عامٍ إلى عام، وهو اللبأ الذي لا يوجد إلا في الولادة كل عامٍ وإن كان مزبداً.
حكى يونس: التنافيط، أن ينزع شعر الجلد ثم يلقى في النار ثم يؤكل، وذلك في الجدب.
وقال الشاعر:
وكتب ابن دينار إلى صديق له: وكتبت تفضلاً منك تعتذر من تأخرك عن قضاء حق زيارتي بقصور يديك عن برٍ يشبهني ويشبهك؛ فأما ما يشبهني في هذا الوقت فرغيفٌ وسكرجة كامخٍ حريف يثقب اللسان بحرافته.
وكان ابن أبي البغل إذا أنشد: أروني من يقوم لكم مقامي يقول: لو شهدت قائله لقلت: كلب الحارس يقوم مقامك. هذه قصةٌ في حضور ما يشبهني، فأما ما يشبهك فمتعذر كما قيل:
وقال رجل لعبيد الله بن زياد بن ظبيان: ما أعددت في كنانتي سهماً غيرك. فقال: لا تعدني في كنانتك فوالله لو قمت فيها لطلتها، ولو جلست فيها لخرقتها. ولئن انتظرت بي ما يشبهك طال الانتظار، والعامة تتمثل - على خساسة لفظها -: "إذا أردت ألا تزوج ابنتك فغال بمهرها". وأملي فيك على الأحوال بعيد، وظني فيك جميل، ولست أخشى فيما لي عندك الفوت فأعجله، وهل يلقم الكلب إلا الحجر.
العرب تقول: لئيمٌ جبان.
وقال أعرابي: لا يكن بطن أحدكم عليه مغرماً، ليكسره بالتميرة والكسيرة والبقيلة والعليكة.
قال ابن الأعرابي: الفرزدق، الرغيف الواسع.
قيل لابن القرية: تكلم. فقال: لا أحب الخبز إلا يابساً. أراد لا أحب أن أتكلم إلا بعد الارتثاء.
وروى أبو عبيدة في تفسير بيت الأعشى في ديوانه:
قال: شبههم بأنسال عاد، وهم ثمانية ذوو أحلامٍ وسؤدد: مالك - وهو سيد الثمانية - وعمار وطفيل، وشمر، وقرزعة، وحممة، ونئض، ودفيف؛ وهم الذين بعث لقمان بن عادٍ جاريةً بعسٍ من لبن، فقال لها: ايتي الحي فادفعيه إلى سيدهم لا تسألي عنه. فأتت الجارية الحي، فرأتهم مختلفين بين عاملٍ ولاعب، وثمانيةً على رءوسهم الطير وقاراً؛ ورأت جاريةً من الحي، فأخبرتها بما قال لقمان؛ قالت: هؤلاء سادة الحي، وسأصف لك كل واحدٍ منهم، فادفعي العس إلى من شئت. أما هذا فعمار، أخاذٌ ودار، لا تخمد له نار، المعشبات عقار "المعشبة: التي تسمن على شحمٍ قديم"، وأما هذا فحممة، غداؤه كل يوم ناقةٌ سنمة، وبقرةٌ شحمة، ورشاةٌ كدمة. وأما هذا فقرزعة، إذا لقي جائعاً أشبعه، وإذا لقي قرناً جعجعه وقد خاب جيشٌ لا يغزو معه. وأما هذا فطفيل، غضبه حين يغضب ويل، ورضاه حين يرضى سيل، ولم تحمل مثله على ظهرها إبلٌ ولا خيل، وأما هذا فشمر، ليس في أهله بالشحيح للقتر، ولا المسرف البطر، ولا يخدع الحي إذا اؤتمر.
وأما هذا فدفيف، قاري الضيف، ومغمد السيف، ومعيل الشتاء والصيف وأما هذا فنئضٌ، أسنت الحي فمرض، فعدل مرضه عندهم إسناتهم، أي قحطهم، فقاموا عليه فأوسعهم دقيقاً ولحماً غريضاً، ومسكاً رميضاً، وكساهم ثياباً بيضاً؛ وأما هذا فما لك، حاميتنا إذا غزونا، ولطعم ولداننا إذا شتونا، ودافع كل كريهةٍ إذا عدت علينا. فدفعت العس إلى مالكٍ، فكان سيدهم.
بشرت امرأةٌ زوجها بأن ابنها منه قد اتغر، فقال: أتبشرينني بعدو الخبز؛ اذهبي إلى أهلك.
قال الشاعر:
وأنشد غليم من بني دبير:
التنقيح: القشر، أي قشروا حمائل سيوفهم فباعوها لشدة زمانهم.
وأنشد:
وقال آخر:
وقال سماعة بن أشول:
وأنشد أبو الجراح:
وقال آخر:
وقال آخر:
ويقال: أزواد الركب من قريشٍ أبو أمية بن المغيرة، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، ومسافر بن أبي عمرو بن أيمة عم عقبة كانوا إذا سافروا خرج معهم الناس فلم يتخذوا زاداً، ولم يوقدوا ناراً كانو يكفونهم.
وقال الشاعر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال المبرد: البطن: الذي لا يهمه إلا بطنه. والرغيب: الشديد الأكل. والمنهوم: الذي تمتلىء بطنه ولا تنتهي نفسه.
وأنشد ابن الأعرابي:
وقال آخر:
وقال آخر:
يعني قدراً. وقوائمها، يعني الأثافي. وخسا: فرد.
وأنشد:
الرماع: داء. وحوأبة: دلوٌ كبيرة. والحوب والحوب: الإثم.
والحيبة: الحال. والحوباء: النفس.
العرب تقول: ماءٌ لا تبن معه ولا غيره. خبزٌ قفار: لا أدم معه. وسويقٌ جافٌ هو الذي لم يلت بسمنٍ ولا زيتٍ. وحنظلٌ مبسل، وهو أن يؤكل وحده.
قال الراجز:
ويبجع أيضاً.
وقال أبو الجراح: المبسل يحرق الكبد. والمبكل: أن يؤكل بتمرٍ أو غيره، يقال بكلوه لنا، أي اخلطوه. قال: وعندنا طعامٌ يقال له: الخولع وهو أن يؤخذ الحنظل فينقع مراتٍ حتى تخرج مرارته، ثم يخلط معه تمرٌ ودقيق فيكون طعاماً طيباً.
وقال: الخليطة والنخيسة والقطيبة: أن يحلب ابن الضأن على لبن المعزى، والمعزى على لبن الضأن، أو حلب النوق على لبن الغنم.
قال:
ملىء الرجل: سمن بعد هزال.
قيل لطفيل العرائس: كم اثنين في اثنين? قال: أربعة أرغفة.
وقيل له: حكي أن العرب تقول نحن العرب أقرى الناس للضيف، فقال: إن هذا النصب على المدح.
وقال العماني:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال الأصمعي: قال الهيثم بن جراد - وذم قوماً -: والله ما أنتم آل فلاةٍ فتعصمكم، ولا أنتم آل ريفٍ فتأكلون. فقيل: لو زدت? فقال: ما بعد هذا شيء.
قال: وما أشبه هذا الجواب بقول عقيل بن علفة حين قيل له: لم لا تطيل الهجاء? قال: يكفيك من القلادة ما أحاط العنق.
وقيل لابن عمر: لو دعوت الله بدعوات? فقال: اللهم عافنا وارحمنا وارزقنا. فقيل له: لو زدتنا? فقال: نعوذ باله من الإسهاب.
قال شاعر:
قال: وكل لحمٍ وخبزٍ أنضج دفيناً فهو مليل، وما كان في تنور فهو شواء؛ وما كان في قدرٍ فهو حميل.
قال الأحنف لعمر بن الخطاب: إن إخواننا من أهل الكوفة والشام نزلوا في مقلة الجمل وحولاء الناقة من أنهارٍ متفجرة، وثمارٍ متدلية، ونزلنا بسبخةٍ نشاشة يأتينا ماءنا في مثل حلقوم النعامة أو مرىء الحمل، فإما أن تشق لنا نهراً، وإما أن ترفعنا إليك.
قال جابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم، والفقراء باتخاذ الدجاج.
والعرب تقول: أكرموا الإبل إلا في بيتٍ يبنى، أو دمٍ يفدى، أو عزبٍ يتزوج، أو حمل حمالة.
وقال معاوية لأعرابي: ما تجارتك? قال: أبيع الإبل، قال: أما علمت أن أفواهها حرب، وجلودها جرب، وبعرها حطب، وتأكل الذهب.
وقال خالد بن صفوان: الإبل للبعد، والبغال للثقل، والبراذين للجمال والدعة، والحمير للحوائج، والخيل للكر والفر.
وقال آخر:
يريد بالأعناق الحلوق.
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال أبو الصلت:
ووصف بعض البلغاء التجار فقال: لا يوجد الأدب إلا عند الخاصة والسلطان ومدبريه، وأما أصحاب الأسواق فإنا لا نعدم من أحدهم خلقاً دقيقاً وديناً رقيقاً، وحرصاً مسرفاً، وأدباً مختلفاً، ودناءة معلومة، ومروءة معدومة وإلغاء اللفيف، ومجاذبةً على الطفيف، يبلغ أحدهم غاية المدح والذم في علقٍ واحد في يوم واحد مع رجل واحد، إذا اشتراه منه أو باعه إياه، إن بايعك مرابحةً وخبر بالأثمان، قوي الأيمان على البهتان، وإن قلدته الوزن أعنت لسان الميزان، ليأخذ برجحانٍ أو يعطى بنقصان؛ وإن كان لك قبله حقٌ لواه محتجاً في ذلك بسنة السوفيين، يرضى لك ما لا يرضى لنفسه، ويأخذ منك بنقدٍ ويعطيك بغيره، ولا يرى أن عليه من الحق في المبايعة مثل ما له؛ إن استنصحته غشك، وإن سألته كذبك، وإن صدقته حربك متمردهم صاعقةٌ على المعاملين، وصاحب سمتهم نقمةٌ على المسترسلين؛ قد تعاطوا المنكر حتى عرف، وتناكروا المعروف حتى نسي، يتمسكون من الملة بما أصلح البضائع، وينهون عنها كلما عادت بالوضائع؛ يسر أحدهم بحيلةٍ يرزقها لسلعةٍ ينفقها، وغيلةٍ لمسلمٍ يحميه الإسلام، فإذا أحكم حيلته وغيلته غدا قادراً على حرده، فغر وضر، وآب إلى منزله بحطام قد جمعه مغتبطاً بما أباح من دينه وانتهك من حرمة أخيه، يعد الذي كان منه حذقاً بالتكسب، ورفقاً بالمطلب، وعلماً بالتجارة وتقدماً في الصناعة.
فلما بلغت قراءتي هذا الموضع قال الوزير: إن كان هذا الواصف عنى العامة بهذا القول فقد دخل في وصفه الخاصة أيضاً، فوالله ما أسمع ولا أرى هذه الأخلاق إلا شائعة في أصناف الناس من الجند والكتاب والتناء والصالحين وأهل العلم؛ لقد حال الزمان إلى أمرٍ لا يأتي عليه النعت، ولا تستوعبه الأخبار، وما عجبي إلا من الزيادة على مر الساعات، ولو وقف لعله كان يرجى بعض ما قد وقع اليأس منه؛ واعترض القنوط دونه.
فقال ابن زرعة وكان حاضراً: هذا لأن الزمان من قبل كان ذا لبوس من الدين رائع، وذا يدٍ من السياسة بسيطة، فأخلق اللبوس وبلي، بل تمزق وفني، وضعفت اليد بل شلت وقطعت، ولا سبيل إلى سياسة دينية لأسبابٍ لا تتفق إلا بعلل فلكية، وأمور سماوية، فحينئذ يكون انقياد الأمور الجانحة لها، في مقابلة حران الأمور الجامحة عنها، وذلك منتظر في وقته، وتمنى ذلك قبل إبانه وسواس النفس، وخور الطباع، والناس أهدافٌ لأغراض الزمان ومقلبون بحوادث الدهور، ولا فكاك لهم من المكاره، ولا اعتلاق لهم بالمحاب إلا بالدواعي والصوارف التي لا سبيل لهم إلى تحويل هذه إلى هذه، ولا إلى تبديل هذه بهذه، واختيارهم للتوجه إلى محبوبهم أو الإعراض عن مكروههم ضعيفٌ طفيف، ولولا ذلك لكانت الحسرات تزول في وقت ما يراد، والغبطة تملك بإدراك ما يتمنى، وهذا شأوٌ محكومٌ به بقوة النفس، غير مستيقظٍ إليه بقوة الحس.
فقال الوزير: أحسنت يا أبا عليٍ في هذا الوصف، وإن نفثك ليدل على أكثر من ذلك، ولو كان البال ظافراً بنعمة، والصدر فارغاً من كربة، لكنا نبلغ من هذا الحديث مبلغاً نشفي به غليلنا قائلين ونشفي به مستمعين، ولكني قاعدٌ معكم وكأني غائب، بل أنا غائبٌ من غير كاف التشبيه، والله ما أملك تصرفي ولا فكري في أمري، أرى واحداً في فتل حبل، وآخر في حفر بئر، وآخر في نصب فخ، وآخر في تمزيق عرض، وآخر في اختلاق كذب، وآخر في صدع ملتئم، وآخر في عقد، وآخر في نفث سحر، وناري مع صاحبي رماد، وريحه على عاصفة، ونسيمي بيني وبينه سموم، ونصيبي منه هموم وغموم، وإني أحدثكم بشيء تعلمون به صدقي في شكواي، وتقفون منه على تفسخي تحت بلواي، ولولا أني أطفىء بالحديث لهباً قد تضرم صدري به ناراً، واحتشى فؤادي منه أواراً؛ لما تحدثت به، ولو استطعت طيه لما نبست بحرفٍ منه، ولكن كتماني للحديث أنقب لحجاب القلب من العتلة لسور القصر.
دخلت منذ أيام فوصلت إلى المجلس، فقال لي قد أعدت الخلعة فالبسها على الطائر الأسعد، فقلت أفعل، وفي تذكرتي أشياء لابد من ذكرها وعرضها.
فقال: هات، فقلت: يتقدم بكذا وكذا، ويفعل كذا وكذا. فقال: عندي جميع ذلك، أمض هذا كله، واصنع فيه ما ترى، وما فوق يدك يد، ولا عليك لأحدٍ اعتراض؛ فانقلبت عن المجلس إلى زاويةٍ في الحجرة، وفيها تحدرت دموعي، وعلا شهيقي، وتوالى نشيجي، حتى كدت أفتضح فدنا مني بعض خدمي من ثقاتي، فقال: ما هذا? الناس وقوفٌ ينتظرون بروزك بالخلعة المباركة والتشريف الميمون، وأنت في نوحٍ وندم?! فقلت: تنح عني ساعةً حتى أطفىء نار صدري، وإنما كان ذلك العارض لأني كنت عرضت على صاحبي تذكرةً مشتملةً على أشياء مختلفة، فأمضاها كلها، ولم يناظرني في شيء منها، ولا زادني شيئاً فيها، ولا ناظرني عليها، ولعلي قد بلوته بها، وأخفيت مغزاي في ضمنها، فخيل إلي بهذه الحال أن غيري يقف موقفي، فيقول في قولاً مزخرفاً، وينسب إلي أمراً مؤلفاً، فيمضي ذلك أيضاً له كما أمضاه لي، فوجدتني بهذا الفكر الذي قد فتق لي هذا النوع من الأمر كراقمٍ على صفحة ماء، أو كقابضٍ في جوٍ على قطعةٍ من هواء؛ أو كمن ينفخ في غير فحم، أو يلعب في قيد، ولقد صدق الأول حيث قال:
غير أني أذكر لكم ما عن لي من هذا الأمر.
اعلموا أني ظننت أن مانظمه الماضي - رحمه الله - وأصلحه، وبناه وقومه، ونسجه ونوقه لا يستحيل في ثلاثين سنةً ولا خمسين سنة؛ وأن الحال تدوم على ذلك المنهاج، وتستمر على ذلك السياج، ونكون قد أخذنا بطريق من السعادة، وبلغنا لأنفسنا بعض ما كنا نسلط عليه التمني من الإرادة فنجمع بين علو المرتبة، وشرف الرياسة، ونيل اللذة، وإدراك السرور، واصطناع العرف، وكسب الثناء، ونشر الذكر، وبعد الصيت، فعاد ذلك كله بالضد، وحال إلى الخلاف، ووقف على الفكر المضني، والخوف المقلق، واليأس الحي، والرجاء الميت؛ وما أحسن ما قال القائل:
فقال له ابن زرعة: إن الأمور كلها بيد الله، ولا يستنجز الخير إلا منه، ولا يستدفع الشر إلا به، فسله جميل الصنع وحسن النية وانو الخير، وبث الإحسان، وكل أعداءك إلى ربك الذي إذا عرف صدقك وتوكلك عليه فلل حدهم، وغفر خدهم، وسيح الفرات إلى جمرتهم حتى يطفئها، وسلط الأرضة على أبدانهم حتى تقرضها، وشغلهم بأنفسهم، وخالف بين كلمتهم، وصدع شمل جميعهم، وردهم إليك صاغرين ضارعين، وعرضهم عليك خاضعين، وما ذلك على الله بعزيز، وإن الله مع المحسنين على المسيئين.
قال: والله لقد وجدت روحاً كثيراً بما قلت لكم وما سمعت منكم، وأرجو أن الله يعين المظلوم، ويهين الظالم. قد تمطى الليل، وتغورت النجوم، وحن البدن إلى الترفه؛ فإذا شئتم. فانصرفنا متعجبين.
فقال: هات، فقلت: يتقدم بكذا وكذا، ويفعل كذا وكذا. فقال: عندي جميع ذلك، أمض هذا كله، واصنع فيه ما ترى، وما فوق يدك يد، ولا عليك لأحدٍ اعتراض؛ فانقلبت عن المجلس إلى زاويةٍ في الحجرة، وفيها تحدرت دموعي، وعلا شهيقي، وتوالى نشيجي، حتى كدت أفتضح فدنا مني بعض خدمي من ثقاتي، فقال: ما هذا? الناس وقوفٌ ينتظرون بروزك بالخلعة المباركة والتشريف الميمون، وأنت في نوحٍ وندم?! فقلت: تنح عني ساعةً حتى أطفىء نار صدري، وإنما كان ذلك العارض لأني كنت عرضت على صاحبي تذكرةً مشتملةً على أشياء مختلفة، فأمضاها كلها، ولم يناظرني في شيء منها، ولا زادني شيئاً فيها، ولا ناظرني عليها، ولعلي قد بلوته بها، وأخفيت مغزاي في ضمنها، فخيل إلي بهذه الحال أن غيري يقف موقفي، فيقول في قولاً مزخرفاً، وينسب إلي أمراً مؤلفاً، فيمضي ذلك أيضاً له كما أمضاه لي، فوجدتني بهذا الفكر الذي قد فتق لي هذا النوع من الأمر كراقمٍ على صفحة ماء، أو كقابضٍ في جوٍ على قطعةٍ من هواء؛ أو كمن ينفخ في غير فحم، أو يلعب في قيد، ولقد صدق الأول حيث قال:
غير أني أذكر لكم ما عن لي من هذا الأمر.
اعلموا أني ظننت أن مانظمه الماضي - رحمه الله - وأصلحه، وبناه وقومه، ونسجه ونوقه لا يستحيل في ثلاثين سنةً ولا خمسين سنة؛ وأن الحال تدوم على ذلك المنهاج، وتستمر على ذلك السياج، ونكون قد أخذنا بطريق من السعادة، وبلغنا لأنفسنا بعض ما كنا نسلط عليه التمني من الإرادة فنجمع بين علو المرتبة، وشرف الرياسة، ونيل اللذة، وإدراك السرور، واصطناع العرف، وكسب الثناء، ونشر الذكر، وبعد الصيت، فعاد ذلك كله بالضد، وحال إلى الخلاف، ووقف على الفكر المضني، والخوف المقلق، واليأس الحي، والرجاء الميت؛ وما أحسن ما قال القائل:
فقال له ابن زرعة: إن الأمور كلها بيد الله، ولا يستنجز الخير إلا منه، ولا يستدفع الشر إلا به، فسله جميل الصنع وحسن النية وانو الخير، وبث الإحسان، وكل أعداءك إلى ربك الذي إذا عرف صدقك وتوكلك عليه فلل حدهم، وغفر خدهم، وسيح الفرات إلى جمرتهم حتى يطفئها، وسلط الأرضة على أبدانهم حتى تقرضها، وشغلهم بأنفسهم، وخالف بين كلمتهم، وصدع شمل جميعهم، وردهم إليك صاغرين ضارعين، وعرضهم عليك خاضعين، وما ذلك على الله بعزيز، وإن الله مع المحسنين على المسيئين.
قال: والله لقد وجدت روحاً كثيراً بما قلت لكم وما سمعت منكم، وأرجو أن الله يعين المظلوم، ويهين الظالم. قد تمطى الليل، وتغورت النجوم، وحن البدن إلى الترفه؛ فإذا شئتم. فانصرفنا متعجبين.
فقال: أحب أن أسمع في هذا أكثر ما فيه، ويمر بي أعجبه، فإن في معرفة هذا الباب تهذيباً وإيقاظاً كثيراً.
فكان في الجواب: إن الناس قديماً وحديثاً قد خاضوا في هذا الفن خوضاً بعيداً، وما وقفوا منه عند حد، لأن الحديث عن الأخلاق المختلفة بالأمزجة المتباينة، والطبائع المتنائية لا يكاد ينتهي إلى غاية يكون فيها شفاءٌ للمستمع المستفيد و لا للرواية المفيد.
قال: قبل كل شيء أعلمونا يا أصحابنا: الحث على الأكل أحسن، أم الإمساك حتى يكون من الأكل ما يكون? فكان من الجواب: أن هذه المسئلة بعينها جرت بالأمس بالري عند ابن عباد فتنوهب الكلام فيها، وأفضى إلى أن الأولى الحث والتأنيس والبسط والطلاقة ولين اللفظ وقلة التحديق وإسجاء الطرف مع اللطف والدماثة، من غير دلالةٍ على تكلفٍ في ذلك فاضح ولا إمساكٍ عنه قادح.
وحكى ابن عباد في هذا الموضع ان بعض السلف قال: الطعام أهون من أن يحث على تناوله.
وقال الحسن بن عليك الطعام أجل من أن لا يحث على تناوله، ومذهب الحسن أحسن.
قال: ولقد حضرت مولد ناسٍ لا أظن بهم البخل فلم يحثوني ولم يبسطوني فقبضني ذلك، وكأن انقباضي كان بمعونتهم، وإن لم يكن بإرادتهم.
قال الوزير: هذه فائدة من هذا الرجل الذي يتهادى قوله، وتتراوى أخباره.
ثم حكيت له أن أسماء بن حارجة قال: ما صنعت طعاماً قط فدعوت عليه نفراً إلا كانوا أمن علي مني عليهم. فقال: زدنا من هذا الضرب ما كان، قلت: لو أذن لي في جمعه كان أولى؛ قال: لك ذلك فما يضرنا أن تطرب آذاننا بما تهوى نفوسنا.
فكان من الجواب أن الجاحظ قد أتى على جمهرة هذا الباب إلا ما شذ عنه مما لم يقع إليه، فإن العالم - وإن كان بارعاً - ليس يجوز أن يظن به أنه قد أحاط بكل باب، أو بالباب الواحد إلى آخره؛ على أنه حدث من عهد الجاحظ إلى وقتنا هذا أمورٌ وأمور، وهناتٌ وهناتٌ، وغرائب وعجائب، لأن الناس يكتسبون على رأس كل مائة سنةٍ عادةً جديدة، وخليقةً غير معهودةٍ، وبدء هذه المئين هو الوقت الذي فيه تنعقد شريعة، وتظهر نبوة، وتفشو أحكام، وتستقر سنن، وتؤلف أحوالٌ بعد فطامٍ شديد، وتلكؤٍ واقع؛ ثم على استنان ذلك يكون ما يكون.
وقال ميمون بن مهران: من ضاف البخيل صامت دابته، واستغنى عن الكنيف، وأمن التخمة.
وقال حامد اللفاف المتزهد: المرائي إذا ضاف إنساناً حدثه بسخاوة إبراهيم، وإذا ضافه إنسانٌ حدثه بزهد عيسى بن مريم.
وقال مالك بن دينار: دخلنا على ابن سيرين فقال: ما أدري ما أطعمكم? ثم قدم إلنيا شهدة.
وقال الأعمش: كان خيثمة يصنع الخبيص ثم يقول: كلوا فوالله ما صنع إلا من أجلكم.
وقال بكر بن عبد الله المزني: أحق الناس بلطمةٍ من إذا دعي إلى طعامٍ ذهب بآخر معه، وأحقهم بلطمتين من إذا قيل له: اجلس ها هنا قال: بل ها هنا؛ وأحق الناس بثلاث لطمات من إذا قيل له: كل، قال: ما بال صاحب البيت لا يأكل معنا.
وقال إبراهيم بن الجنيد: كان يقال: أربع لا ينبغي لشريف أن يأنف منهن وإن كان أميراً: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته للعالم يتعلم منه، والسؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه، وخدمة الضيف بنفسه إكراماً له.
وقال حاتم الأصم: كان يقال العجلة من الشيطان إلا في خمس، فإنها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إطعام الضيف إذا حل، وتجهيز الميت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا حل ووجب، والتوبة من الذنب إذا وقع.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: :ليلة الضيف حقٌ واجبٌ على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه فهو أحق به إن شاء أخذ، وإن شاء ترك".
وجاءت امرأة إلى الليث بن سعد وفي يدها قدح، فسألت عسلاً وقالت: زوجي مريض؛ فأمر لها براوية عسل؛ فقالوا: يا أبا الحرث: إنما تسأل قدحاً. قال: سألت قدرها ونعطيها على قدرنا.
خرج ابن المبارك يوماً إلى أصحابه، فقال لهم: نزل بنا ضيفٌ اليوم فقال: اتخذوا لي فالوذجاً؛ فسرنا ذلك منه.
وقال الحسن في الرجل يدخل بيت أخيه فيرى السلة فيها الفاكهة: لابأس أن يأكل من غير أن يستأذنه.
وقال ابن عمر: أهديت لرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شاةٌ فقال: أخي فلانٌ أحوج إليها، وبعث بها إليه، فلم يزل يبعث بها واحدٌ بعد واحد حتى تداولها تسعة أبيات، ورجعت إلى الأول، فنزلت الآية: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ".
قال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له ظهرٌ فليعد على من لا ظهر له؛ ومن كان له زادٌ فليعد على من لا زاد له، حتى رأينا أنه لا حق لأحدٍ منا في الفضل".
وسئل ابن عمر. ما حق المسلم على المسلم? قال: ألا يشبع ويجوع، وألا يلبس ويعرى، وأن يواسيه ببيضائه وصفرائه.
وكان ابن أبي بكرة ينفق على جيرانه أربعين داراً سوى سائر نفقاته، وكان يبعث إليهم بالأضاحي والكسوة في الأعياد، وكان يعتق في كل يوم عيدٍ مائة مملوك.
وكان حماد بن أبي سليمان يفطر كل ليلةٍ من شهر رمضان خمسين إنساناً، وإذا كان يوم الفطر كساهم ثوباً ثوباً وأعطاهم مائة مائة.
وقال الشاعر:
أراك تؤمل حسن الثـنـاء | ولم يرزق الله ذاك البخيلا | |
وكيف يسود أخو بـطـنةٍ | يمن كثيراً ويعطي قلـيلا |
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تجافوا عن ذنب السخي، فإن الله يأخذ بيده كلما عثر".
وقال عليه السلام: "من أدى الزكاة، وقرة الضيف، وآوى في النائبة، فقد وقي شح نفسه".
وقالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز: أفٍ للبخل، ولو كان طريقاً ما سلكته، ولو كان ثوباً ما لبسته، ولو كان سراجاً ما استضأت به.
وقال الأصمعي: قال بعض العرب: ليست الفتوة الفسق ولا الفجور، ولا شرب الخمور، وإنما الفتوة طعامٌ موضوع، وصنيع مصنوع، ومكانٌ مرفوع، ولسانٌ معسول، ونائل مبذول، وعفاف معروف، وأذى مكفوف.
وقال أبو حازم المدني: أسعد الناس بالخلق الحسن صاحبه، نفسه منه في راحة، ثم زوجته، ثم ولده، حتى إن فرسه ليصهل إذا سمع صوته، وكلبه يشرشر بذنبه إذا رآه وقطه يدخل تحت مائدته، وإن السيىء الخلق لأشقى الناس، نفسه منه في بلاء، ثم زوجته، ثم ولده، ثم خدمه، وإ،ه ليدخل وهم في سرور فيتفرقون فرقاً منه، وإن دابته لتحيد عنه إذا رأته، مما ترى منه، وكلبه ينزو على الجدار، وقطه يفر منه.
وكان على باب ابن كيسان مكتوب: ادخل وكل.
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول في بكائها على النبي صلى الله عليه وسلم: بأبي من لم ينم على الوثير، ولم يشبع من خبز الشعير.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يخلق وعاءً ملىء شراً من بطنٍ، فإن كان لابد فاجعلوا ثلثاً للطعام، وثلثاً للشراب، وثلثاً للريح".
قال الشاعر:
ليسوا يبالون إذا أصبـحـوا | شبعى بطاناً حق من ضيعوا | |
ولا يبـالـون بـمـولاهـم | والكلب في اموالهم يرتـع |
وحكى لنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بجرجان إمام الدنيا قال: رأيت أبا خليفة المفضل بن الحباب، وقد دعي إلى وليمةٍ فرأى الصحاف توضع وترفع، فقال: أللحسن والمنظر دعينا، أم للأكل والمخبر? فقيل: بل للأكل والمخبر، قال: فاتركوا الصحفة يبلغ قعرها.
وكان سليمان بن ثوابة ضخم الخوان، كثير الطعام، وافر الرغيف، وكان معجباً بإجادة الألوان، واتخاذ البدائع والطرائف والغرائب على مائدته؛ وكانت له ضروبٌ من الحلوى لا تعرف إلا به، وكان خبزه الذي يوضع على المائدة الرغيف من مكوك دقيق، ولذلك قال أبو فرعون العدوي:
ما الناس إلا نـبـطٌ وخـوزان | ككهمسٍ أو عمر بن عمـران | |
ضاق جرابي عن رغيف سلمان | أبا حمار في حر أم قحطـان | |
وأير بغلٍ في است أم عدنـان | ||
…. |
وعشق رجلٌ جاريةً رومية كانت لقوم ذوي يسار، فكتب إليها يوماً: جعلت فداك، عندي اليوم أصحابي، وقد اشتهيت سكباجةً بقرية فأحب أن توجهي إلينا بما يعمنا ويكفينا منها، ودستجةً من نبيذٍ لنتغذى ونشرب على ذكرك، فلما وصلت الرقعة وجهت إليه بما طلب؛ ثم كتب إليها يوماً آخر: فدتك نفسي، إخواني مجتمعون عندي، وقد اشتهيت قليةً جزورية فوجهي بها إلي وما يكفينا من النبيذ والنقل، ليعرفوا منزلتي عندك، فوجهت إليه بكل ما سأل؛ ثم كتب إليها يوماً آخر: جعلت فداك، قد اشتهيت أنا وأصحابي رءوساً سماناً، فأحب أن توجهي إلينا بما يكفينا، ومن النبيذ بما يروينا؛ فكتبت الجارية عند ذلك: إني رأيت الحب يكون في القلب، وحبك هذا ما تجاوز المعدة. وكتبت أسفل الرقعة:
عذيري من حبيبٍ جـا | ءنا في زمن الـشـده | |
وكان الحب في القلـب | فصار الحب في المعده |
وقال جرير:
ولا يذبحون الشاة إلا بميسرٍ | كثيرٌ تناجيها لئامٌ قدورهـا |
وقالت عادية بنت فرعة الزبيرية في ابنها دوس:
تشبه دوس نفـراً كـرامـا |
كانوا الذرى والأنف والسناما |
كانوا لمن خالطهـم إدامـا |
كالسمن لما سغبل الطعامـا |
يقال سغبل رأسه بالدهن وسغسغه ورواه وأمرعه.
قال الواقدي: قيل لأم أيوب: أي الطعام كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد عرفتم ذلك بمقامه عندكم? فقالت: ما رأيته أمر بطعامٍ يصنع له بعينه، ولا رأيناه أتى بطعام فعابه قط. وقد أخبرني أبو أيوب أنه تعشى عنده ليلةً من قصعة أرسل بها سعد بن عبادة فيها طفيشل فرأيته ينهك تلك القصعة ما لم ينهك غيرها، فرجع إلي فأخبرني، فكنا نعملها له. وكنا نعمل له الهريسة، وكانت تعجبه، وكان يحضر عشاءه من خمسة إلى ستةٍ إلى عشرة كما يكون الطعام في القلة والكثرة.
وكان أسعد بن زرارة يعمل له هريسة ليلةً وليلةً لا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها؛ أجاءت قصعة أسعد أم لا? فيقال: نعم، فيقول: هلموها؛ فنعرف بذلك أنها تعجبه.
قدم صهيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء ومعه أبو بكرٍ وعمر، بين أيديهم رطبٌ قد جاءهم به كلثوم بن الهدم أمهات جراذبن وصهيبٌ قد رمد في الطريق، وأصابته مجاعةٌ شديدة، فوقع في الرطب؛ قال صهيب: فجعلت آكل، فقال عمر: يا رسول الله، ألا ترى إلى صهيب يأكل الرطب وهو رمد? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتأكل الرطب وأنت رمد?" فقال صهيب: أنا آكل بشق عيني الصحيحة، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الأعشى:
لو أطعموا المن والسلوى مكانهم | ما أبصر الناس طعماً فيهم نجعا |
وقال الكميت:
وما استنزلت في غيرنا قدر جارنا | ولا ثفيت إلا بنا حين تنـصـب |
يقول إذا جاورنا جارٌ لم نكلفه أن يطبخ من عنده، ويكون ما يطبخه من عندنا بما نعطيه من اللحم لينصب قدره. ويقال للحيس سويطة. وقال: الرغيغة لبن يطبخ. وقال: هي العصيدة، ثم الحريرة ثم النجبرة، ثم الحسو. واللوقة: الرطب بالسمن، والسليقة: الذرة تدق وتصلح باللبن، والرصيعة: البر يدق بالفهر ويبل ويطبخ بشيء من السمن، والوجيئة: التمر يوجأ ثم يؤكل باللبن.
وقال أعرابي: ليس من الألبان أحلى من لبن الخلفة.
والنخبسة والقطبية يخلط لبن إبلٍ بلبن غنم.
وقال أعرابي: الحمد لله الذي أغنانا باللبن عما سواه. ويقال أكل خبزاً قفاراً وعفاراً وعفيراً: لا شيء معه وعليه العفار والدمار وسوء الدار؛ وأكل خبزاً جبيزاً أي فطيراً يابساً. وجاء بتمر فضٍ وفضاً وفذٍ وحثٍ: لا يلزق بعضه ببعض.
قال أبو الحسن الطوسي: أخبرني هشام قال: دخل علي فرجٌ الرخجي وقد تغديت واتكأت، فقال: يا أبا عبد الله: إنما تحسن الأكل والاتكاء.
قال: فتركت الأكل عنده أياماً، وبلغه ذلك، فبعث إلي: إن كنت لا تأكل طعامنا فليس لنا فيك حاجة. قال: فأكلت شيئاً ثم أتيته فلم يعتذر مما كان.
قال أبو الحسن: أخبرني الفراء قال: العرب تسمى السكباجة الصعفصة. وأنشد:
أبو مالكٍ يعتادنا في الظهائر | يجوء فيلقي رحله عند عامر |
أبو مالك: الجوع، هكذا تقول العرب ويجىء ويجوء لغتان.
وقال الآخر:
رأيت الغواني إذ نزلت جفونني | أبا مالكٍ إني أظـنـك دائبـا |
أبو مالك ها هنا الشيب.
قال أبو الحسن: أخبرني الثوري عن أبي عبيدة في الحديث الذي يروى عن عمر بن الخطاب أنه رأى في روث فرسه حبة شعير، فقال: لأجعلن لك في غرز النقيع ما يشغلك عن شعير المسلمين. قال: والنقيع: موضع بالمدينة أحماه عمر بن الخطاب لخيل المسلمين، خلاف البقيع بالباء.
قال الطوسي: العرب تقول: أيدي الرجال أعناقها، أي من كان أطول يداً على المائدة تناول فأكل، الهاء ترجع على الإبل، أي أيدي الرجال أعناق الإبل، أي من طال نال.
قال الأصمعي: سألت بعض الأكلة فيمن كان يقدم على ميسري الناس كيف تصنع إذا جهدتك الكظة - والعرب تقول: إذا كنت بطناً فعدك زمناً -? قال: آخذ روثاً حاراً وأعصره وأشرب ماءه، فاختلف عنه مراراً، فلا ألبث أن يلحق بطني بظهري فأشتهي الطعام.
قال ابن الأعرابي: قال الكلابي: هو يندف الطعام إذا أكله بيده، ويلقم الحسو، واللقم بالشفة، والندف: الأكل باليد. وقال الزبيري: يندف.
وأنشد ابن الأعرابي:
ويظل ضيف بني عبادة فيهم | متضمراً وبطونهم كـتـم |
أي ممتلئة. والتضمر: الهزال والنحافة، كالنخل المصمر، أي الذي قد ذوت جذوعه. قال الشنبوذي في قول الله تعالى: "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا". قال: الذين يثردون ويأكل غيرهم. قال أبو الحسن: كانت لي ابنة تجلس معي على المائدة فتبرز كفاً كأنها طلعةٌ، في ذراعٍ كأنها جمارة، فلا تقع عينها على أكلةٍ نفيسةٍ إلا خصتني بها، فزوجتها، وصار يجلس معي على المائدة ابنٌ لي، فيبرز لي كفاً كأنها كرنافة، في ذراعٍ كأنها كربة، فوالله إن تسبق عيني إلى لقمةٍ طيبةٍ إلا سبقت يده إليها.
وقال أعرابيٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: إني نذرت إذا بلغتني ناقتي أن أنحرها وآكل من كبدها. قال: "بئسما جازيتها".
أضل أعرابيٌ بعيراً له، فطلبه، فرأى على باب الأمير بختياً، فأخذه وقال: هذا بعيري، فقال: إنك أضللت بعيراً وهذا بختي. فقال: لما أكل علف الأمير تبخت. فضحك منه وتركه يعيد قوله ويعجبه.
الكدبة: غلظ اللحم وتراكمه، ومنه قول هشامٍ لسالم - وقد رآه فأعجبه جسمه -: ما رأيت ذا كدنةٍ أحسن منك، فما طعامك? قال: الخبز والزيت. قال: أما تأجمه? قال: إذا أجمته تركته حتى أشتهيه، ثم خرج وقد أصاب في جسمه برصاً. فقال لقمني الأحوال بعينه، فما خرج هشام من المدينة حتى صلى عليه.
وقال عبد الأعلى القاص: الفقير مرقته سلقة، وغذاؤه علقة، وخبزته فلقة، وسمكته شلقة، أي كثيرة الشوك.
قال رجاء بن سلمة: الأكل في السوق حماقة.
قيل لذؤيب بن عمرو: إنك مفلسٌ لا تقدر على قرصٍ ولا جمعٍ ولا حفاةل، وبيتك عامرٌ بالفأر.
قال علي بن عيسى: الطلاق الثلاث البتة إن كان يمنعهم من التحول عنه إلا أنهم يسرقون أطعمة الناس يأكلونها في بيته لأمنهم فيه، لأنه لا هر هناك ولا أحد يأخذ شيئاً ولا يؤذون، وإن لهم لمسقاةً مملوءةً ماءً كلما جفت سكب لهم فيها ماءٌ.
جعل الخبر عن الفأر على التلميح، كالخبر عن قومٍ عقلاء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكرموا الخبز فإن الله أكرمه وسخر له بركات السموات والأرض".
وقال آخر:
كأن صوت سحبها الممتاح | سعال شيخٍ من بني الجلاح | |
يقول من بعد السعـا آح |
قال الأصمعي: الرجيع: الشواء يسخن ثانيةً. والنقيعة ما يحرزه رئيس القوم من الغنيمة قبل أن تقسم والجمع نقائع. وقال: أنشدني عيسى بن عمر لمعاوية بن صعصعة:
مثل الذرى لحبت عرائكها | لحب الشفار نقائع النهب |
وقال مهلهل:
إنا لنضرب بالسيوف رءوسهم | ضرب القدار نقيعة القـدام |
القدار: الجزار والقدار: الملك أيضاً. والقدام: رؤساء الجيوش، والواحد قادم.
وقال معن بن أوس يصف هدير قدرٍ:
إذا التطمت أمواجها فكـأنـهـا | عوائد دهمٌ في المـحـلة قـيل | |
إذا ما انتحاها المرملون رأيتهـا | لوشك قراها وهي بالجزل تشعل | |
سمعت لها لغطاً إذا ما تغطمطت | كهدر الجمال رزماً حين تجفـل |
وقال آخر:
إذا كان فصد العرق والعرق ناضبٌ | وكشط سنام الحي عيشاً ومغنـمـا | |
وكان عتيق القـد خـير شـوائهـم | وصار غبوق الخود ماءً محمـمـا | |
عقرت لهم دهماً مقـاحـيد جـلةً | وعادت بقايا البرك نهباً مقسـمـا |
قال: وإذا كان القحط فصدوا الإبل وعالجوا ذلك الدم بشيء من العلاج لها كما يصنع الترك، فإنها تجعله في المصران، ثم تشويه أو تطبخه، فيؤكل كما تؤكل النقانق وما أشبه ذلك.
وأما قوله: والعرق ناضبٌ، فإنما يعني قلة الدم لهزال البعير، وكذلك جميع الحيوان، وأكثر ما يكون دماً إذا كان بين المهزول والسمين.
وقالت أم هشام السلولية: ما ذكر الناس مذكوراً خيراً من الإبل وأجدى على أحدٍ بخيرٍ؛ هكذا روي.
وقال الأندلسي: إن حملت أثقلت، وإن مشت أبعدت، وإن حلبت أروت، وإن نحرت أشبعت.
قال أبو الحسن الهيثم، عن عبد العزيز بن يسار قال: قدمت يا جميري بخمس سفائف دقيق، وذاك في زمن مصعب وهو معسكرٌ بها فلقيني عكرمة بن ربعي الشيباني فقال: بكم أخذتها? قلت: بتسعين ألفاً. قال: فإني أعطيك مائةً وخمسين ألفاً على أن تؤخرني. فدفعتهن إليه، وما في المعسكر يومئذ دقيق. قال: فجاء بنو تيم الله فأخذوا ذلك الدقيق، فجعل كل قومٍ يعجنون على حيالهم، ثم جاءوا إلى رهوةٍ من الأرض فحفروها، ثم جعلوا فيها الحشيش، ثم طرحوا ذلك العجين فيها، ثم أقبلوا فأخذوا فرساً وديقاً … فخلوا عنه، ثم أقبلوا وهو يتبعهم حتى انتهوا إلى الحفيرة، فدفعوا الفرس الوديق فيها، وتبعها الفرس، وتنادى الفريقان: إن فرس حوشب وقع في حفيرة عكرمة فما أخرجوه إلا بالعمد. قال: فغلبه عكرمة.
قال شاعر:
لا أشتم الضيف إلا أن أقول له: | أباتك الله في أبيات عـمـار | |
أباتك الله في أبيات مـعـتـزٍ | عن المكارم لا عفٍ ولا قاري | |
جلد الندى زاهدٍ في كل مكرمةٍ | كأنما ضيفه في ملة الـنـار |
وقال آخر:
وهو إذا قيل له: ويهاً كل | فإنه مواشكٌ مستعجـل | |
وهو إذا قيل له: ويهاً فل | فإنه أحج به أن ينكـل |
قيل لصوفي: ما حد الشبع? قال: لا حد له، ولو أراد الله أن يؤكل بحدٍ لبين كما بين جميع الحدود. وكيف يكون للأكل حد، والأكلة مختلفو الطباع والمزاج والعارض والعادة، وحكمة الله ظاهرة في إخفاء حد الشبع حتى يأكل من شاء على ما شاء كما شاء.
وقيل لصوفيٍ: ما حد الشبع? فقال: ما نشط على أداء الفرائض، وثبط عن إقامة النوافل.
وقيل لمتكلم: ما حد الشبع? فقال: حده أن يجلب النوم، ويضجر القوم، ويبعث على اللوم.
وقيل لطفيلي: ما حد الشبع? قال: أن يؤكل على أنه آخر الزاد، ويؤتى على الجل والدق.
وقيل لأعرابي: ما حد الشبع? قال: أما عندكم يا حاضرة فلا أدري؛ وأما عندنا في البادية فما وجدت العين، وامتدت إليه اليد، ودار عليه الضرس وأساغه الحلق، وانتفخ به البطن، واستدارت عليه الحوايا، واستغاثت منه المعدة، وتقوست منه الأضلاع، والتوت عليه المصارين، وخيف منه الموت.
وقيل لطبيب: ما حد الشبع? قال: ما عدل الطبيعة، وحفظ المزاج وأبقى الشهوة لما بعد.
وقيل لقصار: ما حد الشبع? قال: أن تثب إلى الجفنة كأنك سرحان وتأكل وأنت غضبان، وتمضغ كأنك شيطان، وتبلغ كأنك هيمان، وتدع وأنت سكران، وتستلقي كأنك أوان.
وقيل لحمال: ما حد الشبع? قال: أن تأكل ما رأيت بعشر يديك غير عائفٍ ولا متقززٍ، ولا كارهٍ ولا متعزز.
وقيل لملاح: ما حد الشبع? قال: حد السكر. قيل: فما حد السكر? قال: ألا تعرف السماء من الأرض، ولا الطول من العرض، ولا النافلة من الفرض، من شدة النهس والكسر والقطع والقرض. قيل له فإن السكر محرم، فلم جعلت الشبع مثله? قال: صدقتم، هما سكران: أحد السكرين موصوفٌ بالعيب والخسار، والآخر معروفٌ بالسكينة والوقار. قيل له: أما تخاف الهيضة? قال: إنما تصيب الهيضة من لا يسمي الله عند أكله، ولا يشكره على النعمة فيه. فأما من ذكر الله وشكره فإنه يهضم ويستمرىء ويقوم إلى الزيادة.
وقيل لبخيل: ما حد الشبع? قال: الشبع حرامٌ كله، وإنما أحل الله من الأكل ما نفى الخوى، وسكن الصداع، وأمسك الرمق، وحال بين الإنسان وبين المرح، وهل هلك الناس في الدين والدنيا إلا بالشبع ولاتضلع والبطنة والاحتشاء، والله لو كان للناس إمامٌ لو كل بكل عشرةٍ منهم من يحفظ عليهم عادة الصحة، وحالة العدالة، حتى يزول التعدي، ويفشو الخير.
وقيل لجندي: ما حد الشبع? قال: ما شد العضد، وأحمى الظهر، وأدر الوريد، وزاد في الشجاعة.
وقيل لزاهد: ما حد الشبع? قال: ما لم يحل بينك وبين صوم النهار وقيام الليل. وإذا شكا إليك جائعٌ عرفت صدقه لإحساسك به.
وقيل لمدني: ما حد الشبع? فقال: لا عهد لي به، فكيف أصف ما لا أعرف? وقيل ليمني: ما حد الشبع? قال: أن يحشى حتى يخشى.
وقيل لتركي: ما حد الشبع? قال: أن تأكل حتى تدنو من الموت.
وقيل سمويه القاص: من أفضل الشهداء? قال: من مات بالتخمة، ودفن على الهيضة.
قيل لسمرقندي: ما حد الشبع? قال: إذا جحظت عيناك، وبكم لسانك، وثقلت حركتك، وارجحن بدنك، وزال عقلك، فأنت في أوائل الشبع. قيل له: إذا كان هذا أوله، فما آخره? قال: أن تنشق نصفين.
قيل لهندي: ما حد الشبع? قال: المسئلة عن هذا كالمحال، لأن الشبع من الأرز النقي الأبيض، الكبار الحب، المطبوخ باللبن والحليب، المغروف على الجام البلور، المدوف بالسكر الفائق، مخالفٌ للشبع من السمك المملوح وخبز الذرة، وعلى هذا يختلف الأمر في الشبع. فقيل له: فدع هذا، إلى متى ينبغي أن يأكل الإنسان? قال: إلى أن يقع له أنه إن أراد لقمة زهقت نفسه إلى النار.
قيل لمكارٍ: ما حد الشبع? قال: والله ما أدري، ولكن أحب أن آكل ما مشى حماري من المنزل إلى المنزل.
قيل لجمال: ما حد الشبع? قال: أنا أواصل الأكل فما أعرف الحد، ولو كنت أنتهي لوصفت الحال فيه، أعني أني ساعةً ألت الدقيق، وساعة أمل الملة، وساعةً أثرد، وساعةً آكل وساعةً أشرب لبن اللقاح؛ فليس لي فراغ فأدري أني بلغت من الشبع، إلا أنني أعلم في الجملة أن الجوع عذابٌ وأن الأكل رحمة، وأن الرحمة كلما كانت أكثر، كان العبد إلى الله أقرب، والله عنه أرضى.
قال الوزير: لما بلغت هذا الموضع من الجزء - وكنت أقرأ عليه -: ما أحسن ما اجتمع من هذه الأحاديث! هل بقي منها شيء? قلت: بقي منها جزء آخر. قال: دعه لليلةٍ أخرى وهات ملحة الوداع. قلت: قيل لصوفيٍ في جامع المدينة: ما تشتهي? قال: مائدةً روحاء عليها جفنةٌ رحاء، فيها ثريدةٌ صفراء، وقدرٌ حمراء بيضاء.
قال: أبيت الآن ألا تودع إلا بمثل ما تقدم? وانصرفت.
الليلة الثانية والثلاثون
ثم حضرت فقرأت ما بقي من هذا الفن.
قال رجلٌ من فزارة:
تنبح أحياناً وأحـيانـاً تـهـر | وتتمطى ساعةً وتـقـدحـر | |
تعدو على الضيف بعودٍ منكسر | يسقط عنها ثوبهـا وتـأتـزر | |
لو نحرت في بيتها عشر جزر | لأصبحت من لحمهن تعتـذر | |
بحلفٍ سحٍ ودمعٍ منـهـمـر | يفر من قاتلـهـا ولا تـفـر |
المقدحر: المتهيىء للسباب.
وقال أبو دلامة الأسدي:
قد يشبع الضيف الذي لا يشبع | من الهبيد والحـراد تـسـع | |
ثم يقول ارضوا بهذا أو دعوا |
وقال آخر:
حتى إذا أضحى تدري واكتحل | لجارتيه ثم ولـى فـنـشـل | |
ذرق الأنـــوقـــــين | القـرنـبـي والـجـعـل |
وقال آخر:
إذا أتوه بـطـعـامٍ وأكـل | بات يعشى وحده ألفي جعل |
وقال أبو النجم:
تدني من الجدول مثل الجدول | أجوف في غلصمةٍ كالمرجل | |
تسمع للماء كصوت المسحل | بين وريديها وبين الجحـفـل | |
يلقيه من طرقٍ أتتها من عل | قذف لها جوفٍ وشدقٍ أهدل | |
كأن صوت جرعها المستعجل | جندلةٌ دهدهتها في جـنـدل |
وقال آخر:
يقول للطاهي المطري في العمل | ضهب لنا إن الشـواء لا يمـل | |
بالشحم إما قد أجمـنـاه بـخـل | عجل لنا من ذا وألحق بالـبـدل |
وأنشد ابن الأعرابي:
أعددت للضيف ولـلـرفـيق | والجار والصاحب والصديق | |
وللعيال الدردق الـلـصـوق | حمراء من معز أبي مرزوق | |
تلحس خد الحالب الـرفـيق | بلين المس قـلـيل الـريق | |
كأن صوت شخبها الفـتـيق | فحيح ضبٍ حربٍ حـنـيق | |
في جحرٍ ضاق أشد الضيق |
وأنشد أيضاً:
هل لك في مقراة قيلٍ نىء | وشكوةٍ باردة النـسـىء | |
تخرج لحم الرجل الضوي | حتى تراه ناهد الـثـدي |
وأنشد ابن حبيب:
نعم لقوح الصبية الأصاغـر | شروبهم من حلبٍ وحـازر | |
حتى يروحوا سقط المـآزر | وضع الفقاح نشز الخواصر |
وأنشد الآمدي:
كأن في فيه حراباً شـرعـا | زرقاً تقض البدن المدرعـا | |
لو عض ركناً وصفاً تصدعا |
وقال محمد بن بشير:
لقل عاراً إذا ضيفٌ تضـيفـنـي | ما كان عندي إذا أعطيت مجهودي | |
فضل المقل إذ أعطاه مصطـبـراً | ومكثرٍ في الغنى سيان في الجود | |
لا يعدم السائلون الخير أفـعـلـه | إما نوالي وإما حسـن مـردودي |
قال الأعرابي: نعم الغداء السويق، إن أكلته على الجوع عصم، وإن أكلته على الشبع هضم.
وقال العوامي - وكان زواراً لإخوانه في منازلهم -: العبوس بوس، والبشر بشرى، والحاجة تفتق الحيلة، والحيلة تشحذ الطبيعة.
ورأيت الحنبلوني ينشد ابن آدم - وكان موسراً بخيلاً -:
وما لامرىء طول الخلود وإنما | يخلده حسن الثناء فـيخـلـد | |
فلا تدخر زاداً فتصحب ملجـأً | إليه وكله اليوم يخلفه الـغـد |
وحكى لنا ابن أسادة قال: كان عندنا - يعني بأصفهان - رجلٌ أعمى يطوف ويسأل، فأعطاه مرةً إنسانٌ رغيفاً، فدعا له وقال: أحسن الله إليك، وبارك عليك، وجزاك خيراً، ورد غربتك. فقال له الرجل: ولم ذكرت الغربة في دعائك، وما علمك بالغربة? فقال: الآن لي ها هنا عشرون سنة ما ناولني أحدٌ رغيفاً صحيحاً.
وقال آخر:
يرى جارهم فيهم نحيفاً وضيفهم | يجوع وقد باتوا ملاء المذاخر |
وقال الكروسي:
ولا يستوي الاثنان للضيف: آنسٌ | كريمٌ، وزاوٍ بين عينيه قاطـب |
وأنشد:
طعامهم فوضى فضى في رحالهم | ولا يحسنون السـر إلا تـنـاديا |
وأنشد آخر:
يمان ولا يمون وكان شيخاً | شديد اللقم هلقاماً بطينـا |
العرب تقول: إذا شبعت الدقيقة لحست الجليلة.
قال ابن سلام: كان يخبز في مطبخ سليمان - عليه السلام - في كل يومٍ ستمائة كرٍ حنطة، ويذبح له في كل غداةٍ ستة آلاف ثور وعشرون شاةً، وكان يطعم الناس ويجلس على مائدته بجانبه اليتامى والمساكين وأبناء السبيل، ويقول لنفسه: مسكينٌ بين مساكين.
ولما ورد تهامة وافى الحرم وذبح للبيت طول مقامه بمكة كل يومٍ خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة. وقال لمن حضر: إن هذا المكان سيخرج منه نبيٌ صفته كذا وكذا.
وقال أعرابي:
وإذا خشيت من الفؤاد لـجـاجةً | فاضرب عليه بجرعةٍ من رائب |
وروى هشيم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كرم المرء أن يطيب زاده في السفر.
وقال ابن الأعرابي: يقال: جاء فلانٌ ولقد لغط رباطه من الجوع والعطش.
وأنشد:
ربا الجوع في أونيه حتى كأنه | جنيبٌ به إن الجنيب جنـيب |
أي جاع حتى كأنه يمشي في جانب متعقفاً.
وقال أيضاً: إن من شؤم الضيف أن يغيب عن عشاء الحي، أي لا يدركه، فيريد إذا جاءهم أن يتكلفوا له عشاءً على حدة.
وأنشد:
حياك ربك واصطبحت ثريدةً | وإدامها رزٌ وأنت تـدبـل |
واللقمة واللقمة إذا جمعتا من الثريد والعصائد يقال لهما دبلة، ومنه سميت الدبيلة، وهي الورم الذي يخرج بالناس. وأنشد:
أقول لما ابتركوا جنوحـا | بقصعةٍ قد طفحت تطفيحا | |
دبل أبا الجوزاء أو تطيحا |
وقال الفرزدق:
فدبلت أمثال الأثافي كـأنـهـا | رءوس أعادٍ قطعت يوم مجمع |
وقال سعيد بن المسيب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطيبوا الطعام فإنه أنفى للسخط، وأجلب للشكر، وأرضى للصاحب".
قال بشار:
يغص إذا نال الطعام بذكـركـم | ويشرق من وجدٍ بكم حين يشرب |
المسعور: الجائع. قال هميان بن قحافة:
لاقى صحافاً بطناً مسعورا |
وقال شاعر:
يمشي من البطنة مشي الأبزخ |
البزخ: دخول البطن وخروج الثنة أسفل السرة.
وقال آخر:
أغر كمصباح الدجنة يتـقـي | شذى الزاد حتى تستفاد أطايبه |
شداه: طيبه.
وقال أعرابي: بنو فلان لا يبزرون ولا يقدرون.
وقال الثوري: بطنوا غداءكم بشربة.
وقال الشاعر:
لا يستوي الصوتان حين تجـاوبـا | صوت الكريب وصوت ذئبٍ مقفر |
الكريب: الشوبق وهو المحور والمسطح.
وقال الشاعر:
إذا جاء باغي الخير قلنا بشاشةً | له بوجوهٍ كالدنانير: مرحبـا | |
وأهلا فلا ممنوع خير تـريده | ولا أنت تخشى عندنا أن نؤوبا |
قال الشعبي: استسقيت على خوان قتيبة، فقال: ما أسقيك? فقلت: الهين الوجد، العزيز الفقد، فقال: يا غلام، اسقه الماء.
مر مسكينٌ بأبي الأسود ليلاً وهو ينادي: أنا جائع! فأدخله وأطعمه حتى شبع، ثم قال له: انصرف إلى أهلك، وأتبعه غلاماً وقال له: إن سمعته يسأل فاردده إلي. فلما جاوزه المسكين سأل كعادته، فتشبث به الغلام ورده إلى أبي الأسود. فقال: ألم تشبع? فقال: بلى. قال: فما سؤالك? ثم أمر به فحبس في بيتٍ وأغلق عليه الباب، وقال: لا تروع مسلماً سائر الليلة ولا تكذب. فلما أصبح خلى سبيله، وقال: لو أطعنا السؤال صرنا مثلهم.
وسمع دابةً له تعتلف في جوف الليل، فقال: إني لأراك تسهرين في مالي والناس نيام، والله لا تصبحين عندي. وباعها.
وأبو الأسود يعد في الشعراء والتابعين والمحدثين والبخلاء والمفاليج والنحويين والقضاة والعرج والمعلمين.
وقال الشاعر:
أنفق أبا عمـرٍو ولا تـعـذرا | وكل من المال وأطعم من عرا | |
لا ينفع الدرهم إلا مـدبـرا |
كان مسلم بن قتيبة لا يجلس لحوائج الناس حتى يشبع من الطعام الطيب، ويروي من الماء البارد، ويقول: إن الجائع ضيق الصدر، فقير النفس، والشبعان واسع الصدر، غني النفس.
وقال أعرابي:
هلكت هريئةً وهلكت جوعاً | وخرق معدتي شوك القتاد | |
وحبة حنظل ولباب قطـنٍ | وتنومٌ ينظم بـطـن وادي |
وقال الفرزدق:
وإن أبا الكرشاء ليس بسارقٍ | ولكنه ما يسرق القوم يأكل |
ولديك الجن:
إذا لم يكن في البيت ملحٌ مـطـيبٌ | وخلٌ وزيتٌ حـول حـب دقـيق | |
فرأس ابن أمي في حرام ابن خالتي | ورأس عدوي في حر أم صديقـي |
وقال آخر:
وما جيرةٌ إلا كليب بـن وائلٍ | ليالي تحمى عزةً منبت البقل |
وقال مسعر بن مكدم لرقبة بن مصلة: أراك طفيلياً. قال: يا أبا محمد، كل من ترى طفيليٌ إلا أنهم يتكاتمون.
وقال شاعر:
قومٌ إذا آنسوا ضيفاً فلم يجـدوا | إلا دم الرأس صبوه على الباب |
قال المفجع: الرأس الرئيس.
اشتد بأبي فرعون الشاشي الحال فكتب إلى بعض القضاة بالبصرة:
يا قاضي البصرة ذا الوجه الأغر | إليك أشكو ما مضى وما غبـر | |
عفا زمانٌ وشتاءٌ قـد حـضـر | إن أبا عمرة في بيتي انجحـر | |
يضرب بالدف وإن شـاء زمـر | فاطرده عني بدقيق ينـتـظـر |
فأجابه إلى ما سأل.
ويقال: وقف أعرابيٌ على حلقة الحسن البصري رحمة الله عليه، فقال: رحم الله من أعطى من سعة، وواسى من كفاف، وآثر من قلة. فقال الحسن: ما أبقى أحداً إلا سأله.
وقال ابن حبيب: يقال أحمق من الضبع، وذلك أنها وجدت تودية في غدير، فجعلت تشرب الماء وتقول: يا حبذا طعم اللبن حتى انشق بطنها فماتت. والتودية: العود يشد على رأس الخلف لئلا يرضع الفصيل أمه.
دعا رجل آخر فقال له: هذه تكسب الزيارة وإن لم تسعد، ولعل تقصيراً أنفع فيما أحب بلوغه من برك. فقال صاحبه: حرصك على كرامتي يكفيك مؤونة التكلف لي.
قيل لأعرابي: لو كنت خليفةً كيف كنت تصنع? قال: كنت أستكفي شريف كل قومٍ ناحيته، ثم أخلو بالمطبخ فآمر الطهاة فيعظمون الثريدة ويكثرون العراق، فابدأ فآكل لقماً، ثم آذن للناس، فأي ضياعٍ يكون بعد هذا?! وقال أعرابي لابن عم له: والله ما جفانكم بعظام، ولا أجسامكم بوسام، ولا بدت لكم نار، ولا طولبتم بثار.
وقيل لأعرابي: لم قالت الحاضرة للعبد: باعك الله في الأعراب? قال: لأنا نعري جلده، ونطيل كده، ونجيع كبده.
وقال طفيلي: إذا حدثت على المائدة فلا تزد في الجواب على نعم، فإنك تكون بها مؤانساً لصاحبك، ومسيغاً للقمتك، ومقبلاً على شأنك.
وقيل لأعرابي: أي شيء أحد? قال: كبدٌ جائعة، تلقى إلى أمعاء ضالعة.
وقيل لآخر: أي شيء أحد? قال ضرس جائع، يلقى إلى معي ضالع.
وقال آخر:
أحب أن أصطاد ضباً سحبـلا | وورلاً يرتاد رمـلاً أرمـلا | |
قالت سليمى لا أحب الجوز لا | ولا أحب السمكات مـأكـلا |
الجوزل: فرخ الحمام. والورل: دابة. أرمل: صفةٌ للورل. وإذا كان كذلك كان أسمن له، وهو يسفد فيهزل.
ويقال: أقبح هزيلين: المرأة والفرس، وأطيب غثٍ أكل غث الإبل، وأطيب الإبل لحماً ما أكل السعدان، وأطيب الغنم لبناً ما أكل الحربث.
ويقال: أهون مظلومٍ سقاءٌ مروب، وهو الذي يسقى منه قبل أن يمخض وتخرج زبدته.
ويقال: سقانا ظليمة وطبه، وقد ظلمت أوطب القوم.
وقال الشاعر:
وصاحب صدقٍ لم تنلني شكاتـه | ظلمت وفي ظلمي له عامداً أجر |
يعني وطب لبن.
وكان الحسن البصري إذا طبخ اللحم قال: هلموا إلى طعام الأحرار.
قال سفيان الثوري: إني لألقى الرجل فيقول لي مرحباً فيلين له قلبي، فكيف بمن أطأ بساطه، وآكل ثريده، وأزدرد عصيده?.
حكى أبو زيد: قد هجا غرثى: إذا ذهب، وقد أهجأ طعامكم غرثى: إذا قطعه.
قال الشاعر:
فأخزاهم ربـي ودل عـلـيهـم | وأطعمهم من مطعمٍ غير مهجي |
قال: ويقال بأرت بؤرةً فأنا أبارها، إذا حفرت حفيرةً يطبخ فيها وهي الإرة. ويقال: أرت إرةً فأنا أثرها وأراً.
وقال حسان:
تخال قدور الصاد حول بيوتنا | قنابل دهماً في المباءة صيما |
قال أبو عبيدة: كان الأصمعي بخيلاً، وكان يجمع أحاديث البخلاء ويوصي بها ولده ويتحدث بها.
وكان أبو عبيدة إذا ذكر الأصمعي أنشد:
عظم الطعام بعينه فكأنه | هو نفسه للآكلين طعام |
ويقال: أسأرت، إذا أبقيت من الطعام والشراب أو غيرهما، والاسم السؤر وجماعته الأسآر. ويقال: فأدت الخبزة في الملة أفادها إذا خبزتها فيها. والمفأد: الحديدة التي يخبز بها ويشوى. ويقال: تملأت من الأكل والشراب تملوا، إذا شبعت منهما وامتلأت. ويقال: لفأت اللحم عن العظم لفأً إذا جلفت اللحم عن العظم. واللفيئة هي البضعة التي لا عظم فيها نحو النحضة والهبرة والوذرة.
وأنشد يعقوب:
سقى الله الغضا وخبوت قومٍ | متى كانت تكون لهم ديارا | |
أناسٌ لا ينادي الضيف فيهم | ولا يقرون آنيةً صـغـارا |
قال الأصمعي: قال ابن هبيرة: تعجيل الغداء يزيد في المروءة، ويطيب النكهة، ويعين على قضاء الحاجة.
قال بعض العرب: أطيب مضغة أكلها الناس صيحانيةٌ مصلبة.
ويقال: آكل الدواب، برذونةٌ رغوث وهي التي يرضعها ولدها.
قال أبو الحارث حميد: ما رأيت شيئاً أشبه بالقمر ليلة البدر من قدرٍ سقيت اللبن كثيرة السكر.
وقال الشاعر:
وإني لأستحيي رفيقـي أن يرى | مكان يدي من جانب الزاد أقرعا |
ضم عثمان بن رواح السفر ورفيقاً له، فقال له الرفيق: امض إلى السوق فاشتر لنا لحماً. قال: والله ما أقدر. قال: فمضى الرفيق واشترى اللحم ثم قال لعثمان: قم الآن فاطبخ القدر. قال: والله ما أقدر. فطبخها الرقيق. ثم قال: قم الآن فاثرد. قال: والله إني لأعجز عن ذلك. فثرد الرفيق. ثم قال: قم الآن فكل. فقال: والله لقد استحييت من كثرة خلافي عليك، ولولا ذلك ما فعلت.
قال يونس: أتيت ابن سيرين فدعوت الجارية، فسمعته يقول: قولي إنه نائم. فقلت: معي خبيص. فقال: مكانك حتى أخرج إليك.
قال أردشير: احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع.
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه جابر بن عبد الله: هلاك الرجل أن يحتقر ما في بيته أن يقدمه إلى ضيفه، وهلاك الضيف أن يحتقر ما قدم إليه.
وقال الشاعر:
يا ذاهباً في داره جـاثـياً | بغير معنىً وبـلا فـائده | |
قد جن أضيافك من جوعهم | فاقرأ عليهم سورة المائده |
وقال ابن بدر:
ونحن نبذل عند القحط ما أكلوا | من السديف إذا لم يؤنس القزع | |
وننحر الكوم عبطاً في أرومتنا | للنازلين إذا ما استنزلوا شبعوا |
وقال آخر:
أطعمني بـيضةً ونـاولـنـي | من بعد ما ذقت فقده قـدحـا | |
وقال أي الأصوات تسئلنـي? | يزيد، إني أراك مقـتـرحـا | |
فقلت صوت المقلي وجـردقةً | إن خاب ذا الاقتراح أو صلحا | |
فقطب الوجه وانثنى غضـبـاً | وكان سكران طافحاً فصحـا | |
فقلت: إني مزحت، قال: كـذا | رأيت حراً بمثل ذا مزحـا? |
قال ابن حبيب: كان الرجل إذا اشتد عليه الشتاء تنحى ونزل وحده لئلا ينزل به ضيفٌ فيكون صقعاً مستحباً.
وهذا ضد قول زهير:
بسط البيوت لكي تكون مطيةً | من حيث توضع جفنة استرفد |
فإذا كان الشتاء انحاز الناس من الجدب والجهد، وإذا أخصبوا أغاروا للثأر لا للسؤال.
وقال الشاعر في عبيد الله بن عباس:
ففي السنة الجدباء أطعمت حامضاً | وحلواً وشحماً تامكاً وسـنـامـا |
وقال مجاهدٌ في قول الله عز وجل: "وأعتدت لهن متكئاً"، أي طعاماً، يقال: اتكأنا عند فلانٍ، أي طعمنا.
ذكر الأصمعي أن أعرابياً خرج في سفر ومعه جماعة، فأرمل بعضهم من الزاد، وحضر وقت الغذاء وجعل بعضهم ينتظر بعضاً بالغداء، فلما أبطأ ذلك عليهم عمد بعضهم إلى زاده فألقاه بين يدي القوم، فأقبلوا يأكلون، وجلس صاحب الزاد بعيداً للتوفير عليهم، فصاح به أعرابي: يا سؤدداه! وهل شرفٌ أفضل من إطعام الطعام والإيثار به في وقت الحاجة إليه? لقد آثرت في مخمصةٍ ويوم مسغبة، وتفردت بمكرمة قعد عنها من أرى من نظرائك، فلا زالت نعم الله عليك غاديةً ورائحة.
وفي مثله يقول حاتمٌ الطائي:
أكلف يدي من أن تنال أكفـهـم | إذا ما مددناها وحاجاتنا مـعـا | |
وإني لأستحيي رفيقـي أن يرى | مكان يدي من جانب الزاد أقرعا |
قال: المخمصة: المجاعة. والخمص: الجوع.
قال شاعرٌ يذم رجلاً:
يرى الخمص تعذيباً وإن يلق شبعةً | يبت قلبه من قلة الهم مبـهـمـا |
وقال المرقش الأكبر:
إن يخصبوا يغنوا بخصبهم | أو يجدبوا فجدوبهم ألـم |
وكتب بعضهم إلى أخٍ له: إن رأيت أن تروي ظمأ أخيك بقربك، وتبرد غليله بطلعتك، وتؤنس وحشته بأنسك، وتجلو غشاء ناظره بوجهك، وتزين مجلسه بجمال حضورك، وتجعل غداءك عنده في منزلك الذي هو فيه ساكن، وتممت له السرور بك باقي يومك، مؤثراً له على شغلك، فعلت - إن شاء الله -.
وقال الشاعر:
وكأن هدر دمائهم في دورهم | لغط القبيل على خوان زياد |
قال بعض الخطباء: العجب من ذي جدةٍ منعمٍ عليه يطوي جاره جوعاً وقراً، وأفرخه شعثٌ جردٌ من الريش، وهو مبطانٌ محتشٍ من حلوه وحامضه، مكتنٌ في كنه ودفئه، مزينٌ له شهوةٌ عن أداء الذي عليه لجاره وقريبه وذي حلةٍ بطرٍ رفةٍ كيف يأمن سلباً مفاجئاً? أما لو وجه بعض فضله إلى ذي حاجةٍ إليه كان مستديماً لما أولى، مستزيداً مما أوتي.
قال الشاعر:
وإذا تأمل شخص ضيفٍ مقبلٍ | متسربلٍ سربال محلٍ أغبـر | |
أوما إلى الكوماء هذا طارقٌ | نحرتني الأعداء إن لم تنحري |
وفي هذه الأبيات ما يستحسن:
كم قد ولدتم من كـريمٍ مـاجـدٍ | دامي الأظافر أو غمامٍ ممطـر | |
سدكت أنامله ققـائم مـرهـفٍ | وبنشر عـائدةٍ وذروة مـنـبـر | |
يلقي السيوف بوجهه وبنـحـره | ويقيم هامته مقام الـمـغـفـر | |
ويقول للطرف: اصطبر لشبا القنا | فعقرت ركن المجد إن لم تعقر |
وقال آخر:
وقـال وقـدم كـشـكـية | فكل شبعاً إنها في النهـايه | |
تطفي المرار وتنفي الخمار | وما بعدها في النهايات غايه | |
ولا تتوقع أخيراً بـحـبـك | ففي أول المستطاب الكفايه |
وقال آخر:
كأنـمـا فـوه إذا تـمـددا | للقم أخلاق جرابٍ أسـودا | |
كأنه مخترصٌ بـد جـودا | جاني جرادٍ في وعاء مقلدا | |
وصاحبٍ صاحبت غير أبعدا | تراه بين الحربتين مسنـدا |
الحربة: الغرارة.
وقال جابر بن قبيصة: ما رأيت أحلم جليساً، ولا أفضل رفيقاً، ولا أشبه سريرةً بعلانية، من زياد.
وقال جابر أيضاً: شهدت قوماً ورأيتهم بعيني، فما رأيت أقرأ لكتاب الله، ولا أفقه في دين الله، من عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وما رأيت رجلاً أعطى من صلب ماله في غير ولائه، من طلحة بن عبيد الله. وما رأيت رجلاً أسود من معاوية. وما رأيت رجلاً أنصع ظرفاً، ولا أحضر جواباً، ولا أكثر صواباً، من عمرو بن العاص. وما رأيت رجلاً المعرفة عنده أنفع منها عند غيره، من المغيرة بن شعبة.
ويقال: ما كان الطعام مريئاً ولقد مرأ، وما كان الرجل مريئاً وقد مرؤ.
وقال لنا القطان أبو منصور رئيس أهل قزوين: الرجل من أرض أردبيل إذا دخل بلداً يسأل فيقول: كيف الخبز والمبرز، ولا يسأل عن غيرهما. فقيل له: لم ذلك? فقال: يأخذ الخبز والمبرز ويأكل ويسلح إلى الصباح.
قال الشاعر:
وما تنسنا الأيام لا ننس جوعنـا | بدار بني بدر وطول التـلـدد | |
ظللنا كأنا بينهم أهـل مـأتـمٍ | على ميتٍ مستودعٍ بطن ملحد | |
يحدث بعضٌ بعضنا عن مصابه | ويأمر بعضٌ بعضنا بالتجـلـد |
وقال آخر:
دعوني فإني قد تـغـديت آنـفـاً | فإن مس كفي خبزكم فاقطعوا يدي |
وقال آخر يصف دار قوم:
الجوع داخلها واللوح خارجها | وليس يقربها خبزٌ ولا مـاء |
قال الهلالي: أتى رجلٌ أبا هريرة فقال: إني كنت صائماً فدخلت بيت أبي فوجدت طعاماً، فنسيت فأكلت. قال: الله أطعمك. قال: ثم دخلت بيتاً آخر فوجدت أهله قد حلبوا لقحتهم فسقوني، فنسيت فشربت. فقال: يا بني هون عليك فإنك قلما اعتدت الصيام.
وقال الشاعر:
وجدت وعدك زوراً في مـزورةٍ | ذكرت مبتدئاً إحكام طـاهـيهـا | |
فلا شفى الله من يرجو الشفاء بها | ولا علت كف ملق كفه فـيهـا | |
فاحبس رسولك عني أن يجىء بها | فقد حبست رسولي عن تقاضيها |
قال مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول الله، أنت سيدنا، وأنت أطولنا علينا طولاً، وأنت الجفنة الغراء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا بقولكم ولا يستفزنكم الشيطان فإنما أنا عبد الله ورسوله".
وقال آخر:
وأحمر مبيض الزجـاج كـأنـه | رداء عروسٍ مشربٌ بخـلـوق | |
له في الحشا برد الوصال وطعمه | وإن كان يلقاه بـلـون حـريق | |
كأن بياض اللوز في جنـبـاتـه | كواكب درٍ في سماء عـقـيق |
قال يونس: أشد طعامٍ ضراً ما كان من عامٍ إلى عام، وهو اللبأ الذي لا يوجد إلا في الولادة كل عامٍ وإن كان مزبداً.
حكى يونس: أشد طعامٍ ضراً ما كان من عامٍ إلى عام، وهو اللبأ الذي لا يوجد إلا في الولادة كل عامٍ وإن كان مزبداً.
حكى يونس: التنافيط، أن ينزع شعر الجلد ثم يلقى في النار ثم يؤكل، وذلك في الجدب.
وقال الشاعر:
جاورت شيبان فاحلولي جوارهم | إن الكرام خيار الناس للجـار |
وكتب ابن دينار إلى صديق له: وكتبت تفضلاً منك تعتذر من تأخرك عن قضاء حق زيارتي بقصور يديك عن برٍ يشبهني ويشبهك؛ فأما ما يشبهني في هذا الوقت فرغيفٌ وسكرجة كامخٍ حريف يثقب اللسان بحرافته.
وكان ابن أبي البغل إذا أنشد: أروني من يقوم لكم مقامي يقول: لو شهدت قائله لقلت: كلب الحارس يقوم مقامك. هذه قصةٌ في حضور ما يشبهني، فأما ما يشبهك فمتعذر كما قيل:
ومطلب مثلي إن أردت عسير |
وقال رجل لعبيد الله بن زياد بن ظبيان: ما أعددت في كنانتي سهماً غيرك. فقال: لا تعدني في كنانتك فوالله لو قمت فيها لطلتها، ولو جلست فيها لخرقتها. ولئن انتظرت بي ما يشبهك طال الانتظار، والعامة تتمثل - على خساسة لفظها -: "إذا أردت ألا تزوج ابنتك فغال بمهرها". وأملي فيك على الأحوال بعيد، وظني فيك جميل، ولست أخشى فيما لي عندك الفوت فأعجله، وهل يلقم الكلب إلا الحجر.
العرب تقول: لئيمٌ جبان.
وقال أعرابي: لا يكن بطن أحدكم عليه مغرماً، ليكسره بالتميرة والكسيرة والبقيلة والعليكة.
قال ابن الأعرابي: الفرزدق، الرغيف الواسع.
قيل لابن القرية: تكلم. فقال: لا أحب الخبز إلا يابساً. أراد لا أحب أن أتكلم إلا بعد الارتثاء.
وروى أبو عبيدة في تفسير بيت الأعشى في ديوانه:
إذا ما هم جلسوا بالعشي | فأحلام عادٍ وأيدي هضم |
قال: شبههم بأنسال عاد، وهم ثمانية ذوو أحلامٍ وسؤدد: مالك - وهو سيد الثمانية - وعمار وطفيل، وشمر، وقرزعة، وحممة، ونئض، ودفيف؛ وهم الذين بعث لقمان بن عادٍ جاريةً بعسٍ من لبن، فقال لها: ايتي الحي فادفعيه إلى سيدهم لا تسألي عنه. فأتت الجارية الحي، فرأتهم مختلفين بين عاملٍ ولاعب، وثمانيةً على رءوسهم الطير وقاراً؛ ورأت جاريةً من الحي، فأخبرتها بما قال لقمان؛ قالت: هؤلاء سادة الحي، وسأصف لك كل واحدٍ منهم، فادفعي العس إلى من شئت. أما هذا فعمار، أخاذٌ ودار، لا تخمد له نار، المعشبات عقار "المعشبة: التي تسمن على شحمٍ قديم"، وأما هذا فحممة، غداؤه كل يوم ناقةٌ سنمة، وبقرةٌ شحمة، ورشاةٌ كدمة. وأما هذا فقرزعة، إذا لقي جائعاً أشبعه، وإذا لقي قرناً جعجعه وقد خاب جيشٌ لا يغزو معه. وأما هذا فطفيل، غضبه حين يغضب ويل، ورضاه حين يرضى سيل، ولم تحمل مثله على ظهرها إبلٌ ولا خيل، وأما هذا فشمر، ليس في أهله بالشحيح للقتر، ولا المسرف البطر، ولا يخدع الحي إذا اؤتمر.
وأما هذا فدفيف، قاري الضيف، ومغمد السيف، ومعيل الشتاء والصيف وأما هذا فنئضٌ، أسنت الحي فمرض، فعدل مرضه عندهم إسناتهم، أي قحطهم، فقاموا عليه فأوسعهم دقيقاً ولحماً غريضاً، ومسكاً رميضاً، وكساهم ثياباً بيضاً؛ وأما هذا فما لك، حاميتنا إذا غزونا، ولطعم ولداننا إذا شتونا، ودافع كل كريهةٍ إذا عدت علينا. فدفعت العس إلى مالكٍ، فكان سيدهم.
بشرت امرأةٌ زوجها بأن ابنها منه قد اتغر، فقال: أتبشرينني بعدو الخبز؛ اذهبي إلى أهلك.
قال الشاعر:
من يشتري مني أبا زين | بكر بن نطاحٍ بفلسـين | |
كأنما الآكل من خبـزه | يقلع منه شحمة العين |
وأنشد غليم من بني دبير:
يابن الكرام حسبـاً ونـائلا | حقاً أقول لا أقول باطـلا | |
إليك أشكو الدهر والزلازلا | وكل عامٍ نقح الحـمـائلا |
التنقيح: القشر، أي قشروا حمائل سيوفهم فباعوها لشدة زمانهم.
وأنشد:
سلا أم عبادٍ إذا الريح أعصفت | وجلل أطراف الرعان قتامهـا | |
وجفت بقايا الطرق إلا نضـيةً | يصد الأشافي والمواسي سنامها | |
وضم إلي الليل منـزل رفـقةٍ | ترامت بهم طخياء داجٍ ظلامها | |
تكاد الصبا تهتزهم من ثيابـهـم | شديداً بأرياط الرجال اعتصامها | |
لقد علمت أني مفيدٌ ومتـلـفٌ | ومطعم أيامٍ يحب طعـامـهـا |
وقال آخر:
إن بني غاضرة الكرامـا | إن يقم الضيف بهم أعواما | |
يكن قراه اللحم والسنامـا | أو يصبح الدهر لهم غلاما | |
يكن ظريفاً وجهه كراما |
وقال سماعة بن أشول:
رأت إبلاً لابني عبيدٍ تمنعـت | من الحق لم تورك بحقٍ إيالها | |
فقالت ألاببألا تغدو لقاحك هكذا | فقلت أبت ضيفانها وعيالهـا | |
فما حلبت إلا الثلاثة والثـنـى | ولا قيلت إلا قريباً مقالـهـا |
وأنشد أبو الجراح:
أرى الخلان قد صرموا وصالي | وأضحوا لا سـلام ولا كـلام | |
وما أذنبت مـن ذنـبٍ إلـيهـم | سوى خف المنائح والـسـوام |
وقال آخر:
خرقٌ إذا وقع المطي من الوجا | لم يطو دون دقيقه ذو المزود | |
حتى تـؤوب بـه قـلـيلا…. | حمد الرفيق نداك أو لم يحمـد |
وقال آخر:
تزودت إذ أقبلت نحوك غـادياً | إليك ونحو النـاس لا أتـزود | |
أراني إذا ما جئت أطلب نائلاً | نظرت إلى وجهي كأنك أرمد |
ويقال: أزواد الركب من قريشٍ أبو أمية بن المغيرة، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، ومسافر بن أبي عمرو بن أيمة عم عقبة كانوا إذا سافروا خرج معهم الناس فلم يتخذوا زاداً، ولم يوقدوا ناراً كانو يكفونهم.
وقال الشاعر:
وبالبدو جودٌ لا يزال كأنـه | ركامٌ بأطراف الإكام يمور |
وقال آخر:
والناس إن شبعت بطونهم | فغيرهم من ذاك لا يشبع |
وقال آخر:
دورٌ تحاكي الجنان حسناً | لكن سكانها خـسـاس | |
متى أرى الجند ساكنيها | وفي دهاليزهـا يداس |
وقال آخر:
لولا مخافة ضعفي عن ذوي رحمي | وحال معتصمٍ بي مـن ذوي عـدم | |
وحاجة الأخ تبدو لي فأنجـحـهـا | لم أثن في عملٍ كفي على قلمـي |
وقال آخر:
وأوثر ضيفي حين لا يوجد القرى | بقوتي أحبـوه وأرقـد طـاويا | |
وما استكثرت نفسي لباذل وجهه | نوالاً وإن كان النـوال حـياتـيا |
وقال المبرد: البطن: الذي لا يهمه إلا بطنه. والرغيب: الشديد الأكل. والمنهوم: الذي تمتلىء بطنه ولا تنتهي نفسه.
وأنشد ابن الأعرابي:
وإن قرى أهل النبـاج أرانـبٌ | وإن جاء بعد الريث فهو قلـيل | |
إذا صد مثغورٌ وأعرض معرضٌ | فيومٌ على أهل النبـاج طـويل |
وقال آخر:
يمينك فيها الخصب والناس جوعٌ | وقد شملتهم حرجـفٌ ودبـور |
وقال آخر:
ألقت قوائمها خساً وترنمت | طرباً كما يترنم السكران |
يعني قدراً. وقوائمها، يعني الأثافي. وخسا: فرد.
وأنشد:
بئس عذاب العزب المرموع | حوأبةٌ تنقض بالضـلـوع |
الرماع: داء. وحوأبة: دلوٌ كبيرة. والحوب والحوب: الإثم.
والحيبة: الحال. والحوباء: النفس.
العرب تقول: ماءٌ لا تبن معه ولا غيره. خبزٌ قفار: لا أدم معه. وسويقٌ جافٌ هو الذي لم يلت بسمنٍ ولا زيتٍ. وحنظلٌ مبسل، وهو أن يؤكل وحده.
قال الراجز:
بئس الطعام الحنظل المبسل | ياجع منه كبدي وأكسـل |
ويبجع أيضاً.
وقال أبو الجراح: المبسل يحرق الكبد. والمبكل: أن يؤكل بتمرٍ أو غيره، يقال بكلوه لنا، أي اخلطوه. قال: وعندنا طعامٌ يقال له: الخولع وهو أن يؤخذ الحنظل فينقع مراتٍ حتى تخرج مرارته، ثم يخلط معه تمرٌ ودقيق فيكون طعاماً طيباً.
وقال: الخليطة والنخيسة والقطيبة: أن يحلب ابن الضأن على لبن المعزى، والمعزى على لبن الضأن، أو حلب النوق على لبن الغنم.
قال:
اسقني وابرد غليلي |
ملىء الرجل: سمن بعد هزال.
قيل لطفيل العرائس: كم اثنين في اثنين? قال: أربعة أرغفة.
وقيل له: حكي أن العرب تقول نحن العرب أقرى الناس للضيف، فقال: إن هذا النصب على المدح.
وقال العماني:
من كل جلفٍ لم يكن مـرمـا | جعدٍ يرى منه التصنع ريثمـا | |
لم يتجشأ من طعـامٍ بـشـمـا | ……. | |
ولم يبت من قترةٍ مـوصـمـاً | يغمز صدغيه ويشكو الأعظما | |
إذا جاع بـطـنـه تـحـزمـا | لم يشرب الماء ولم يخش الظما | |
يكفيه من قارضةٍ ما يمـمـا | ||
وخلةٍ منه إذا ما أعيما | أصاب منه مشرباً ومطعـمـا | |
لا يعقر الشارف إلا محـرمـا | ولا يعاف بصلاً وسلـجـمـا | |
يوماً ولم يفغر لبطـيخٍ فـمـا | فهو صحيحٌ لا يخاف سقـمـا | |
أسود كالمحراث يدعي شجعمـا | صمحمحٌ من طول ما تأثـمـا | |
لم يبل يوماً سورةً من العمـى | ولم يحج المسجد المـكـرمـا | |
ولم يزر حطيمـه وزمـزمـا | ولا تراه يطلب التـفـهـمـا | |
لو لم يرب مسلماً ما أسـلـمـا | ما عبد اثنان جميعاً صـنـمـا | |
عاتٍ يرى ضرب الرجال مغنما | إذا رأى مصدقاً تـجـهـمـا | |
وهز في الكف وأبدى المعصما | هراوتين نـبـعةً وسـلـمـا | |
يترك ما رام رفـاتـاً رمـمـا | وإن رأى إمـرةً تـزعـمـا | |
لم يعطه شيئاً وإن تـزعـمـا | وإن قرا عهداً له منمـنـمـا | |
هان عليه شق ما قـد رقـمـا | وأن يدق طينه المـخـتـمـا | |
صمصامه ماضٍ إذا ما صممـا | إذا اعترته عزةٌ ثم انـتـمـى | |
في ثروة الحي إذا مـا يمـمـا | ظل يرى حكماً عليه مبـرمـا | |
أن يظلم الناس وألا يظلـمـا |
وقال آخر:
ما كان ينكر في ندى مجـاشـعٍ | أكل الخزير ولا ارتضاع الفيشل |
وقال آخر:
بلادٌ كأن الجوع يطلب أهـلـهـا | بذحلٍ إذا ما الضيف صرت جنادبه |
وقال آخر:
كرية لا يطعم الـكـريا | بالليل إلا جرجراً مقلـيا | |
محترقاً نصفاً ونصفاً نيا |
وقال الأصمعي: قال الهيثم بن جراد - وذم قوماً -: والله ما أنتم آل فلاةٍ فتعصمكم، ولا أنتم آل ريفٍ فتأكلون. فقيل: لو زدت? فقال: ما بعد هذا شيء.
قال: وما أشبه هذا الجواب بقول عقيل بن علفة حين قيل له: لم لا تطيل الهجاء? قال: يكفيك من القلادة ما أحاط العنق.
وقيل لابن عمر: لو دعوت الله بدعوات? فقال: اللهم عافنا وارحمنا وارزقنا. فقيل له: لو زدتنا? فقال: نعوذ باله من الإسهاب.
قال شاعر:
إذا أغلق الباب الكريم من القرى | فليس على باب الفرزدق حاجب | |
فتىً يشتري حسن الثناء بمـالـه | إذا اغبر من برد الشتاء الكواكب |
قال: وكل لحمٍ وخبزٍ أنضج دفيناً فهو مليل، وما كان في تنور فهو شواء؛ وما كان في قدرٍ فهو حميل.
قال الأحنف لعمر بن الخطاب: إن إخواننا من أهل الكوفة والشام نزلوا في مقلة الجمل وحولاء الناقة من أنهارٍ متفجرة، وثمارٍ متدلية، ونزلنا بسبخةٍ نشاشة يأتينا ماءنا في مثل حلقوم النعامة أو مرىء الحمل، فإما أن تشق لنا نهراً، وإما أن ترفعنا إليك.
قال جابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم، والفقراء باتخاذ الدجاج.
والعرب تقول: أكرموا الإبل إلا في بيتٍ يبنى، أو دمٍ يفدى، أو عزبٍ يتزوج، أو حمل حمالة.
وقال معاوية لأعرابي: ما تجارتك? قال: أبيع الإبل، قال: أما علمت أن أفواهها حرب، وجلودها جرب، وبعرها حطب، وتأكل الذهب.
وقال خالد بن صفوان: الإبل للبعد، والبغال للثقل، والبراذين للجمال والدعة، والحمير للحوائج، والخيل للكر والفر.
وقال آخر:
يقذفن في الأعناق والغلاصم | قذف الجلاميد بكف الراجم |
يريد بالأعناق الحلوق.
وقال آخر:
نغار إذا ما الروع أبدى عن البرى | ونقرى عبيط اللحم والماء جامس |
وقال آخر:
تلك المكارم لا ناقٌ مـصـرمةٌ | ترعى الفلاة ولا قعبٌ من اللبن |
وقال أبو الصلت:
تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ | شيباً بماءٍ فعادا بعد أبـوالا |
ووصف بعض البلغاء التجار فقال: لا يوجد الأدب إلا عند الخاصة والسلطان ومدبريه، وأما أصحاب الأسواق فإنا لا نعدم من أحدهم خلقاً دقيقاً وديناً رقيقاً، وحرصاً مسرفاً، وأدباً مختلفاً، ودناءة معلومة، ومروءة معدومة وإلغاء اللفيف، ومجاذبةً على الطفيف، يبلغ أحدهم غاية المدح والذم في علقٍ واحد في يوم واحد مع رجل واحد، إذا اشتراه منه أو باعه إياه، إن بايعك مرابحةً وخبر بالأثمان، قوي الأيمان على البهتان، وإن قلدته الوزن أعنت لسان الميزان، ليأخذ برجحانٍ أو يعطى بنقصان؛ وإن كان لك قبله حقٌ لواه محتجاً في ذلك بسنة السوفيين، يرضى لك ما لا يرضى لنفسه، ويأخذ منك بنقدٍ ويعطيك بغيره، ولا يرى أن عليه من الحق في المبايعة مثل ما له؛ إن استنصحته غشك، وإن سألته كذبك، وإن صدقته حربك متمردهم صاعقةٌ على المعاملين، وصاحب سمتهم نقمةٌ على المسترسلين؛ قد تعاطوا المنكر حتى عرف، وتناكروا المعروف حتى نسي، يتمسكون من الملة بما أصلح البضائع، وينهون عنها كلما عادت بالوضائع؛ يسر أحدهم بحيلةٍ يرزقها لسلعةٍ ينفقها، وغيلةٍ لمسلمٍ يحميه الإسلام، فإذا أحكم حيلته وغيلته غدا قادراً على حرده، فغر وضر، وآب إلى منزله بحطام قد جمعه مغتبطاً بما أباح من دينه وانتهك من حرمة أخيه، يعد الذي كان منه حذقاً بالتكسب، ورفقاً بالمطلب، وعلماً بالتجارة وتقدماً في الصناعة.
فلما بلغت قراءتي هذا الموضع قال الوزير: إن كان هذا الواصف عنى العامة بهذا القول فقد دخل في وصفه الخاصة أيضاً، فوالله ما أسمع ولا أرى هذه الأخلاق إلا شائعة في أصناف الناس من الجند والكتاب والتناء والصالحين وأهل العلم؛ لقد حال الزمان إلى أمرٍ لا يأتي عليه النعت، ولا تستوعبه الأخبار، وما عجبي إلا من الزيادة على مر الساعات، ولو وقف لعله كان يرجى بعض ما قد وقع اليأس منه؛ واعترض القنوط دونه.
فقال ابن زرعة وكان حاضراً: هذا لأن الزمان من قبل كان ذا لبوس من الدين رائع، وذا يدٍ من السياسة بسيطة، فأخلق اللبوس وبلي، بل تمزق وفني، وضعفت اليد بل شلت وقطعت، ولا سبيل إلى سياسة دينية لأسبابٍ لا تتفق إلا بعلل فلكية، وأمور سماوية، فحينئذ يكون انقياد الأمور الجانحة لها، في مقابلة حران الأمور الجامحة عنها، وذلك منتظر في وقته، وتمنى ذلك قبل إبانه وسواس النفس، وخور الطباع، والناس أهدافٌ لأغراض الزمان ومقلبون بحوادث الدهور، ولا فكاك لهم من المكاره، ولا اعتلاق لهم بالمحاب إلا بالدواعي والصوارف التي لا سبيل لهم إلى تحويل هذه إلى هذه، ولا إلى تبديل هذه بهذه، واختيارهم للتوجه إلى محبوبهم أو الإعراض عن مكروههم ضعيفٌ طفيف، ولولا ذلك لكانت الحسرات تزول في وقت ما يراد، والغبطة تملك بإدراك ما يتمنى، وهذا شأوٌ محكومٌ به بقوة النفس، غير مستيقظٍ إليه بقوة الحس.
فقال الوزير: أحسنت يا أبا عليٍ في هذا الوصف، وإن نفثك ليدل على أكثر من ذلك، ولو كان البال ظافراً بنعمة، والصدر فارغاً من كربة، لكنا نبلغ من هذا الحديث مبلغاً نشفي به غليلنا قائلين ونشفي به مستمعين، ولكني قاعدٌ معكم وكأني غائب، بل أنا غائبٌ من غير كاف التشبيه، والله ما أملك تصرفي ولا فكري في أمري، أرى واحداً في فتل حبل، وآخر في حفر بئر، وآخر في نصب فخ، وآخر في تمزيق عرض، وآخر في اختلاق كذب، وآخر في صدع ملتئم، وآخر في عقد، وآخر في نفث سحر، وناري مع صاحبي رماد، وريحه على عاصفة، ونسيمي بيني وبينه سموم، ونصيبي منه هموم وغموم، وإني أحدثكم بشيء تعلمون به صدقي في شكواي، وتقفون منه على تفسخي تحت بلواي، ولولا أني أطفىء بالحديث لهباً قد تضرم صدري به ناراً، واحتشى فؤادي منه أواراً؛ لما تحدثت به، ولو استطعت طيه لما نبست بحرفٍ منه، ولكن كتماني للحديث أنقب لحجاب القلب من العتلة لسور القصر.
دخلت منذ أيام فوصلت إلى المجلس، فقال لي قد أعدت الخلعة فالبسها على الطائر الأسعد، فقلت أفعل، وفي تذكرتي أشياء لابد من ذكرها وعرضها.
فقال: هات، فقلت: يتقدم بكذا وكذا، ويفعل كذا وكذا. فقال: عندي جميع ذلك، أمض هذا كله، واصنع فيه ما ترى، وما فوق يدك يد، ولا عليك لأحدٍ اعتراض؛ فانقلبت عن المجلس إلى زاويةٍ في الحجرة، وفيها تحدرت دموعي، وعلا شهيقي، وتوالى نشيجي، حتى كدت أفتضح فدنا مني بعض خدمي من ثقاتي، فقال: ما هذا? الناس وقوفٌ ينتظرون بروزك بالخلعة المباركة والتشريف الميمون، وأنت في نوحٍ وندم?! فقلت: تنح عني ساعةً حتى أطفىء نار صدري، وإنما كان ذلك العارض لأني كنت عرضت على صاحبي تذكرةً مشتملةً على أشياء مختلفة، فأمضاها كلها، ولم يناظرني في شيء منها، ولا زادني شيئاً فيها، ولا ناظرني عليها، ولعلي قد بلوته بها، وأخفيت مغزاي في ضمنها، فخيل إلي بهذه الحال أن غيري يقف موقفي، فيقول في قولاً مزخرفاً، وينسب إلي أمراً مؤلفاً، فيمضي ذلك أيضاً له كما أمضاه لي، فوجدتني بهذا الفكر الذي قد فتق لي هذا النوع من الأمر كراقمٍ على صفحة ماء، أو كقابضٍ في جوٍ على قطعةٍ من هواء؛ أو كمن ينفخ في غير فحم، أو يلعب في قيد، ولقد صدق الأول حيث قال:
وإن امرأً دنياه اكبر همـه | لمستمسكٌ منها بحبل غرور |
غير أني أذكر لكم ما عن لي من هذا الأمر.
اعلموا أني ظننت أن مانظمه الماضي - رحمه الله - وأصلحه، وبناه وقومه، ونسجه ونوقه لا يستحيل في ثلاثين سنةً ولا خمسين سنة؛ وأن الحال تدوم على ذلك المنهاج، وتستمر على ذلك السياج، ونكون قد أخذنا بطريق من السعادة، وبلغنا لأنفسنا بعض ما كنا نسلط عليه التمني من الإرادة فنجمع بين علو المرتبة، وشرف الرياسة، ونيل اللذة، وإدراك السرور، واصطناع العرف، وكسب الثناء، ونشر الذكر، وبعد الصيت، فعاد ذلك كله بالضد، وحال إلى الخلاف، ووقف على الفكر المضني، والخوف المقلق، واليأس الحي، والرجاء الميت؛ وما أحسن ما قال القائل:
أظمتني الدنيا فلما جـئتـهـا | مستسقياً مطرت علي مصائبا |
فقال له ابن زرعة: إن الأمور كلها بيد الله، ولا يستنجز الخير إلا منه، ولا يستدفع الشر إلا به، فسله جميل الصنع وحسن النية وانو الخير، وبث الإحسان، وكل أعداءك إلى ربك الذي إذا عرف صدقك وتوكلك عليه فلل حدهم، وغفر خدهم، وسيح الفرات إلى جمرتهم حتى يطفئها، وسلط الأرضة على أبدانهم حتى تقرضها، وشغلهم بأنفسهم، وخالف بين كلمتهم، وصدع شمل جميعهم، وردهم إليك صاغرين ضارعين، وعرضهم عليك خاضعين، وما ذلك على الله بعزيز، وإن الله مع المحسنين على المسيئين.
قال: والله لقد وجدت روحاً كثيراً بما قلت لكم وما سمعت منكم، وأرجو أن الله يعين المظلوم، ويهين الظالم. قد تمطى الليل، وتغورت النجوم، وحن البدن إلى الترفه؛ فإذا شئتم. فانصرفنا متعجبين.
فقال: هات، فقلت: يتقدم بكذا وكذا، ويفعل كذا وكذا. فقال: عندي جميع ذلك، أمض هذا كله، واصنع فيه ما ترى، وما فوق يدك يد، ولا عليك لأحدٍ اعتراض؛ فانقلبت عن المجلس إلى زاويةٍ في الحجرة، وفيها تحدرت دموعي، وعلا شهيقي، وتوالى نشيجي، حتى كدت أفتضح فدنا مني بعض خدمي من ثقاتي، فقال: ما هذا? الناس وقوفٌ ينتظرون بروزك بالخلعة المباركة والتشريف الميمون، وأنت في نوحٍ وندم?! فقلت: تنح عني ساعةً حتى أطفىء نار صدري، وإنما كان ذلك العارض لأني كنت عرضت على صاحبي تذكرةً مشتملةً على أشياء مختلفة، فأمضاها كلها، ولم يناظرني في شيء منها، ولا زادني شيئاً فيها، ولا ناظرني عليها، ولعلي قد بلوته بها، وأخفيت مغزاي في ضمنها، فخيل إلي بهذه الحال أن غيري يقف موقفي، فيقول في قولاً مزخرفاً، وينسب إلي أمراً مؤلفاً، فيمضي ذلك أيضاً له كما أمضاه لي، فوجدتني بهذا الفكر الذي قد فتق لي هذا النوع من الأمر كراقمٍ على صفحة ماء، أو كقابضٍ في جوٍ على قطعةٍ من هواء؛ أو كمن ينفخ في غير فحم، أو يلعب في قيد، ولقد صدق الأول حيث قال:
وإن امرأً دنياه اكبر همـه | لمستمسكٌ منها بحبل غرور |
غير أني أذكر لكم ما عن لي من هذا الأمر.
اعلموا أني ظننت أن مانظمه الماضي - رحمه الله - وأصلحه، وبناه وقومه، ونسجه ونوقه لا يستحيل في ثلاثين سنةً ولا خمسين سنة؛ وأن الحال تدوم على ذلك المنهاج، وتستمر على ذلك السياج، ونكون قد أخذنا بطريق من السعادة، وبلغنا لأنفسنا بعض ما كنا نسلط عليه التمني من الإرادة فنجمع بين علو المرتبة، وشرف الرياسة، ونيل اللذة، وإدراك السرور، واصطناع العرف، وكسب الثناء، ونشر الذكر، وبعد الصيت، فعاد ذلك كله بالضد، وحال إلى الخلاف، ووقف على الفكر المضني، والخوف المقلق، واليأس الحي، والرجاء الميت؛ وما أحسن ما قال القائل:
أظمتني الدنيا فلما جـئتـهـا | مستسقياً مطرت علي مصائبا |
فقال له ابن زرعة: إن الأمور كلها بيد الله، ولا يستنجز الخير إلا منه، ولا يستدفع الشر إلا به، فسله جميل الصنع وحسن النية وانو الخير، وبث الإحسان، وكل أعداءك إلى ربك الذي إذا عرف صدقك وتوكلك عليه فلل حدهم، وغفر خدهم، وسيح الفرات إلى جمرتهم حتى يطفئها، وسلط الأرضة على أبدانهم حتى تقرضها، وشغلهم بأنفسهم، وخالف بين كلمتهم، وصدع شمل جميعهم، وردهم إليك صاغرين ضارعين، وعرضهم عليك خاضعين، وما ذلك على الله بعزيز، وإن الله مع المحسنين على المسيئين.
قال: والله لقد وجدت روحاً كثيراً بما قلت لكم وما سمعت منكم، وأرجو أن الله يعين المظلوم، ويهين الظالم. قد تمطى الليل، وتغورت النجوم، وحن البدن إلى الترفه؛ فإذا شئتم. فانصرفنا متعجبين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق