السبت، 19 يناير 2013

اكل لحم البشر في مصر في كتاب البغدادي بقلم: العادل خضر

لعلّ التّعريفات الأنطولوجيّة اللاّهوتيّة الميتافيزيقيّة الّتي عرّفت الإنسان بأنّه حيوان " ذو قدمين بلا ريش un bipède sans plume"، أو "حيوان مدنيّ بالطّبع" أو "حيوان ناطق" أو "عاقل يعقل الحكمة وعاقبة الحكمة" إنّما هي تعريفات تكبُت جميعا "حيوانيّةanimalité " الإنسان بالسّكوت عن هذا الحدّ الجامع الّذي يذكّرنا بأنّ الإنسان هو قبل كلّ شيء حيوان يولد ويحيا ويموت. غير أنّ هذه "الحيوانيّة" تقاوم بحدّة في بعض الأحيان كلّ كبت وسكوت "حين يأكل حيوان حيوانا آخر" (1). ففي هذه الأحوال يضحي تعريف الإنسان بأنّه "شيءune chose " معطى أساسيّا داخلا في حدّه. ويفقد الإنسان في هذا التّعريف شرف كونه شبيها semblable بالإنسان، لأنّه أضحى لا يلمح في نفسه شيئا آخر سوى حيوانيّته وقد تجلّت له على نحو سافر. وهي تسفُر على نحو مهول في المجاعات. ففي هذه الكوارث لا يتحوّل الإنسان إلى شيء بسبب الجوع وإنّما هو قد حُدّد سلفا بأنّه شيء. فعندما نقتل الحيوان ونقطّع جسده ونشويه ونأكله فإنّنا بهذه الأعمال نؤكّد ضمنيّا أنّ هذا المأكول إنّما هو مجرّد شيء (2). غير أنّ هذه الأعمال إذا ما أُجريت على الإنسان، فقُتِّل وقُطّع وشُوِي وأُكل، أضحى هذا الصّنيع في حدّ ذاته شنيعا بشعا فظيعا. وهو فظيع لأنّه يضعنا في مواجهة مباشرة مع هذا الشّيء دون أيّ وساطة رمزيّة كتلك الّتي تصنعها التّعريفات الأنطولوجيّة اللاّهوتيّة الميتافيزيقيّة. فعلى سبيل المثال ما إن تزول من أنظمة القرابة نجاعتها الرّمزيّة l’efficacité symbolique الّتي تجعلنا ننظر إلى الإنسان على أنّه شبيهُنا notre semblable، حتّى يضحي الإنسان إمّا آكلا أو مأكولا (3). ولا تعوزنا الأمثلة الحديثة أو القديمة على ذلك الأمر.
ففي الصّين توجد عادة قديمة معروفة باسم "يي شي إر شي"، وتعني بالحرف الواحد تبادل الأطفال لكي يؤكلوا. وقد أحييت هذه العادة في المجاعات الّتي اجتاحت الصّين الشّعبيّة بين عامي 1959-1962 أيّام حكم ماو تسي تونغ حيث مات جوعا ما بين ثلاثين وأربعين مليون نسمة (4).
ونجد في العهود الوسيطة أحداثا مشابهة. ففي رحلة عبد اللّطيف البغدادي إلى مصر المعروفة بـ"كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر" ينقل هذا العالم الطّبيب (5) في الفصل الثّاني من المقالة الثّانية (6) وقائع المجاعة الّتي اجتاحت مصر بسبب نقصان مياه النّيل وزيادة الأسعار المجحفة وهجرة النّاس إلى المدن كالشّام والمغرب والحجاز واليمن ودخولهم أفواجا أفواجا إلى القاهرة. وقد أفضت المجاعة إلى دمار الفضاء العموميّ، وتحوّل عقد المدينة الاجتماعي إلى قانون غاب يفترس فيه النّاس بعضهم بعضا، الكبير يأكل الصّغير، والقويّ يلتهم الضّعيف. يقول في وصف ما جرى:
"ودخلت سنة سبع (يقصد سنة597) مفترسة أسباب الحياة، وقد يئس النّاس من زيادة النّيل، وارتفعت الأسعار وأقحطت البلاد وأشعر أهلها البلاء وهرجوا من خوف الجوع (…) واشتدّ بالفقراء الجوع حتّى أكلوا الميتات والجيف والكلاب والبعر والأرواث، ثمّ تعدّوا ذلك إلى أن أكلوا صغار بني آدم، فكثيرا ما يعثر عليهم ومعهم صغار مشويّون أو مطبوخون، فيأمر صاحب الشّرطة بإحراق الفاعل لذلك والآكل." (رحلة عبد اللّطيف البغدادي، ص132).
وفي موضع آخر ينقل ما يلي: "ورأيت مع امرأة فطيما لحيما فاستحسنته، وأوصيتها بحفظه. فحكت لي أنّها بينا تمشي على الخليج انقضّ عليها رجل جافّ ينازعها ولدها، فترامت على الولد نحو الأرض حتّى أدركها فارس وطرده عنها. وزعمت أنّه كان يهمّ بكلّ عضو يظهر منه أن يأكله، وأنّ الولد بقي مدّة مريضا لشدّة تجاذبه بين المرأة والمفترس. وتجد أطفال الفقراء وصبيانهم ممّن لم يبق له كفيل ولا حارس منبثذين في جميع أقطار البلاد وأزقّة الدّروب كالجراد المنتشر، ورجال الفقراء ونساؤهم يتصيّدون هؤلاء الصّغار ويتغذّون بعم، وإنّما يعثر عليهم في النّدرة، وإذا لم يحسنوا التّحفّظ." (رحلة عبد اللّطيف البغدادي، ص.ص133-134).
يمكن أن نقول إنّه رغم تشابه ظاهرة المجاعة في كلا المثالين فإنّ الأسباب الّتي تفسّرها مختلفة. ففي مثال الصّين تُعزى المجاعة إلى تدخّل النّظام السّياسيّ (7). أمّا في حالة مصر فإنّ الأسباب قد كانت طبيعيّة بالدّرجة الأولى. وهي تتعلّق بنظام جريان النّيل "وكيفية زيادته ونقصانه". ففي رحلة البغداديّ اضطرب نظام جريان النّيل لمّا هيمنت حال [التّفريط] ببلوغ المدّ حدّا كان فيه دون ستّ عشرة قدما. وهي حال تقابل في نظام درجات الحاجة إلى القوت "ما هو دون الكفاية": "وأمّا ما نقص عن ستّ عشرة ذراعا فيُروى به ما هو دون الكفاية، ولا تحصل منه ميرة سَنَتهم، ويكون تعذّر القوت " (رحلة عبد اللّطيف البغدادي، ص126). وعندما تبلغ الحاجة إلى الأقوات هذه الدّرجة فإنّه يجوز لنا أن نصف هذا الحدث بأنّه "انتقال كارثيّ une transition catastrophique" أو كارثة catastrophe. وقد أربك هذا الانتقال الكارثيّ مسارات المعاين في الرّحلة وأثّرت في كفاءته العيانيّة وجعلتها تتحوّل وتتقلّب على نحو كان به الفظيع. ولكن قبل كلّ شيء ما الفظيع؟
جاء في لسان العرب ما يلي: " فَظِعْتُ بالأَمر أَفْظَعُ فَظاعةً إِذا هالَك وغلَبك فلم تَثِق بأَن تُطِيقَه… ". وإن قارنّا هذا التّعريف بما جاء في اللّسان الفرنسيّ لوجدنا أنّه يوافق أحد المعاني الثّلاثة البارزة في تعريف لفظ «horrible». فقد جاء في قاموس "Le petit Robert" أنّ من معاني هذا اللّفظ ما يفيد مجاوزة الحدّ "qui passe les bornes". وهذا الإفراط في تجاوز المقدار نجده في المعنى الثّاني الّذي يفيد قبيح جدّا وسيّء جدّا. ولكنّه ينفرد بمعنى الهلع. فلفظ «horrible» يعني كذلك "ما يحملنا على الهلع، وما يملؤنا خوفا وتقزّزا qui fait horreur, remplit d’horreur et de dégoût". وفي تعريف «horreur» نجد التّعريف التّالي: "انطباع عنيف يسبّبه مرأى شيء أو التّفكير في شيء بشع /فظيع أو دنيء/حقير impression violent causée par la vue ou la pensée d’une chose affreuse ou ignoble". ولكن من الشّيّق أن يرتبط لفظ الفظيع في اللّسان العربيّ بالماء. فممّا جاء في تعريفه: "والفَظِيعُ الماءُ العذبُ، والماءُ الفَظِيعُ هو الماءُ الزُّلالُ الصَّافي…". وليس معنى الماء ببعيد من سياق الرّحلة. فقد صرف الفصل الأوّل من المقالة الثّانية للحديث عن نهر "النّيل وكيفية زيادته ونقصانه وقوانين ذلك". ومن الطّريف أنّ الفصل الثّاني من المقالة الثّانية من نصّ هذه الرّحلة، وهو المخصّص لذكر ما جرى من "حوادث سنة سبع وتسعين وخمسمائة" قد بدأ بهذه العبارة "ودخلت سنة سبع مفترسة أسباب الحياة، وقد يئس النّاس من زيادة النّيل"(رحلة عبد اللّطيف البغدادي، ص132)، وانغلق في آخر الفصل تقريبا باليأس نفسه من الزّيادة. يقول البغداديّ: "(…) فقاس فيه ابن أبي الرّداد قاع البركة فكان ذراعين. وأخذ في زيادة ضعيفة بأضعف من السّنة الخالية، ولم يزل في زيادة ضعيفة إلى ثامن من ذي القعدة وهو السّابع عشر من مسرى، فزاد إصبعا، ثمّ وقف ثلاثة أيّام، فأيقن النّاس بالبلاء، واستسلموا للهلكة، ثمّ أخذ في زيادات قويّة أكثرها ذراع إلى ثالث ذي الحجّة، وهو السّادس من توت، فبلغ خمس عشرة ذراعا وستّ عشرة غصبعا، ثمّ انحطّ من يومه وانهزم على فوره، ومسّ من البلاد محلّة القسم فكأنّما زارها طيف خياله في الحلم." (رحلة عبد اللّطيف البغدادي، ص142).
ويبدو أنّ الفظيع في هذا السّياق المائيّ قد أصبح من المعاني الأضداد. فإذا لم تجاوز زيادة ماء النّيل حالي [الضّروريّ] و[نهاية الضّروريّ] صنّف الفظيع تصنيفا إيجابيّا. ولكنّه إذا جاوز حدّي [الإفراط] و[التّفريط] صنّف الفظيع تصنيفا سلبيّا وانقلب إلى كارثة من نتائجها الوخيمة خراب العمران والمجاعات والأوبئة والموت. وفي مثل هذه الأحوال ينقلب نشاط المؤلّف/المتلفّظ من التّصنيف إلى التّقييم، وينقلب معه فضاء المراقبة الّذي شغله المعاين لنقل "الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر" وتأسيس جزء من الموسوعة، إلى فضاء انفعاليّ مولّد للقيمة. فعندما يهيمن الانفعاليّ le thymique على الوصف تنقلب التّصنيفات les taxinomies إلى تقييمات axiologies (8). وحينئذ لا تتحدّد قيمة المواضيع المعاينة على نحو موضوعيّ كما يجري في الوصف عادة، وإنّما بردود فعل المعاين المختلفة على ما يجري في محيطه من "الحوادث المعاينة". وهي في الجملة ردود فعل سلبيّة محكومة بالنّفور ممّا يشاهده المؤلّف/المتلفّظ بأرض مصر. هذا النّفور هو في الواقع شكل من أشكال حضور مقولة الانفعاليّ la catégorie thymique في خطاب الرّحلة. ونستعمل لفظ الانفعاليّ في هذا السّياق بوصفه موقفا عامّا موسوما بالانجذاب أو بالنّفور. وعندما تصبح مواضيع العيان ممّا ينفّر المعاين منها، وتجعل الفاعل الذّات sujet يرغب في الانفصال عن موضوع العيان فإنّ مقولة الانفعاليّ تكون حاضرة بوجه واحد من وجهيها الّذي يطلق عليه قريماس لفظ│dysphorique│أو "ما ينفّر"، ويقابلها لفظ │euphorique│أو "ما يجذب". فرغبة الانفصال هي الّتي تجعل موضوع العيان مشحونا بقيمة سلبيّة. وهذا يعني أنّ القيم الّتي يمكن أن يشحن بها الموضوع، فتجعله موضوعا مقيّما axiologisé بالمعنى السّميوطيقيّ للفظ axiologie، إنّما هي نتاج علاقة من صنف خاصّ تنعقد بين القيم والذّوات. فإذا كانت "محبّة موضوع أو كراهته تحدّدان قيمته عند الذّات " كما يؤكّد برنتانوBrentano ، أو " إنّما القيمة هي الّتي تتسبّب في محبّة الموضوع" كما يقول شيلر Scheler، أو " إنّما الشّوق يخلق القيمة " كما يذهب آهرنفالز Ehrenfels، أو "القيمة تولّد الشّوق" كما يرى مينونغ Meinong (9) فإنّ هذه الأقاويل جميعا تحملنا على أن نتساءل: ألا يكون الفظيع ضربا من الإسقاطprojection الانفعاليّ الضّروريّ في تشكيل المعنى والقيمة؟
ينبغي أن نشير إلى أنّ الفظيع في نصّ الرّحلة قد بني بطرق مختلفة. فعلى المستوى التّصويريّ figuratif من الخطاب نجد أنّ صورة الجثّة هي أشدّ الصّور هيمنة في هذا الفصل، بحيث أنّ معظم الأحداث المنقولة إنّما هي مشاهد أو أخبار قد كان موضوعها جثث أولئك الّذين أُكلوا أو ماتوا جوعا أو نبشت قبورهم أو طفت جثثهم في نهر النّيل، دون أن يتعمّد المؤلّف/المتلفّظ رؤية هذه الجثث. فكثيرا ما يحدث العيان بالصّدفة والاتّفاق، بحيث أنّه من الصّعب من كثرتها وانتشار الجيف في كلّ مكان من مدن مصر وقُراها أن لا يراها. يقول البغدادي: " ومن عجيب ما شاهدت أنّي كنت يوما مشرفا على النّيل مع جماعة، فاجتاز علينا في نحو ساعة نحو عشرة موتى كأنّهم القرب المنفوخة، هذا من غير أن نتصدّى لرؤيتهم ولا أحطنا بعرض البحر…" (رحلة عبد اللّطيف البغدادي، ص139). فالجثّة بما هي من الصّور الملحّة في هذا الفصل تعني في مقابلها اللاّطيني cadere أو cadavre في اللّغة الفرنسيّة، أي ذاك الّذي سقط. وتربك الجثّة هويّة ذاك الّذي يواجهها. ولعلّ تجنّب النّظر إليها هو شرط من شروط وجود الحيّ ليستمرّ في الحياة. ولعلّ نفور المؤلّف/المتلفّظ من رؤية الجثث، رغم أنّه طبيب يعود إلى أنّ الجثّة هي نفاية، بل هي من أشدّ النّفايات قرفا وإثارة للتّقزّز. فالنّفور منها هو تأسيس لتلك الحدود القصوى، أو الحدّ الّذي يعني تجاوزه أنّ جسدنا قد سقط بدوره، وأضحى جثّة. بيد أنّ صورة الجثّة لا تمثّل سوى شكل واحد من أشكال حضور مقولة الانفعاليّ la catégorie thymique في خطاب الرّحلة. فمن أشكال حضور هذه المقولة الأخرى نقل المؤلّف/المتلفّظ في بناء الفظيع بعض الحوادث الّتي تظهر تهافت بعض الأنظمة الرّمزيّة وهشاشتها المريعة، نخصّ بالذّكر منها نظام القرابة. ففي بعض الحوادث المنقولة لا ينهض الفظيع على عدم تعرّف الآكل إلى قرابته بالمأكول وإنّما إلى أنّ القرابة تصبح ذريعة لأكل القريب (10). وقد نقل البغدادي بعض الأخبار في هذا الشّأن، يقول:
"ورأيت صغيرا مشويّا في قفّة وقد احضر إلى دار الوالي ومعه رجل وامرأة يزعم النّاس أنّهما أبواه، فأمر بإحراقهما ""(رحلة عبد اللّطيف البغدادي، ص132). وفي موضع آخر ينقل هذا الخبر: "… وحَكَى لي من أثق به أنّه اجتاز على امرأة تَجَرِيّة (من قبائل تجرى Tigre الحبشيّة، أي أصلها حبشيّ) وبين يديها ميّت قد انتفخ وتفجّر وهي تأكل من أفخاذه، فأُنكر عليها، فزعمت أنّه زوجها. وكثير ما يدّعي الآكل أنّ المأكول ولده أو زوجه أو نحو ذلك. ورُئي مع عجوز صغير تأكله، فاعتذرت بأن قالت: إنّما هو ولد ابنتي، وليس بأجنبيّ منّي، ولأن آكله أنا خير من أن يأكله غيري. " (رحلة عبد اللّطيف البغدادي، ص137).
وعلى هذا النّحو لا يصبح الفظيع مولّدا لكلّ دناءة أو حقارة l’abject في الإنسان، وإنّما هو كلّ ما يربك الهويّة والأنساق والنّظام، فلا يحترم الحدود والمراتب والقواعد (11).
غير أنّ أطرف أشكال حضور مقولة الانفعاليّ تظلّ بلا منازع صورة فرار المؤلّف/المتلفّظ من رؤية المشاهد الفظيعة. وهذا يؤكّد ما جاء في بعض ما فحصنا من معاجم اللّغة بأنّ الفظيع ينتمي إلى سجلّ العيان.
لننصت إلى هذا الخبر…
"ووجد في رمضان وبمصر رجل وقد جرّدت عظامه عن اللّحم، فأكل وبقي قفصا كما يفعل الطّبّاخون بالغنم، ومثل هذا أعوز جالينوس مشاهدته، ولذلك تطلّبه بكلّ حيلة، وكذلك كلّ من آثر الاطّلاع على علم التّشريح. وحينما نَشَّم (12) الفقراء في أكل بني آدم كان النّاس يتناقلون أخبارهم ويفيضون في ذلك استفظاعا لأمره وتعجّبا من ندوره. ثمّ اشتدّ قربهم إليه واعتيادهم عليه بحيث اتّخذوه معيشة ومطيّة ومدّخرا وتفنّنوا فيه، وفشا عنهم، ووُجد بكلّ مكان من ديار مصر، فسقط حينئذ التّعجّب والاستبشاع واستهجن الكلام فيه والسّماع له. ولقد رأيت امرأة يسحبها الرّعاع في السّوق وقد ظفر معها بصغير مشويّ تأكل منه، وأهل السّوق ذاهلون عنها ومقبلون على شؤونهم، وليس فيهم من يعجب لذلك أو ينكره، فعاد عجبي منهم أشدّ، وما ذلك إلاّ لكثرة تكرّره على إحساسهم حتّى صار في حكم المألوف الّذي لا يستحقّ أن يُتعجّب منه." (رحلة عبد اللّطيف البغدادي، ص.ص132-133).
إنّ هذا الخبر وأضرابه في رحلة البغدادي يمثّل مشهدا من بين مشاهد كثيرة من الحوادث المعاينة بأرض مصر سنة سبع وتسعين وخمسمائة للهجرة. واللاّفت للانتباه فيها أنّ معظم المشاهدات قد تصدّرت بفعل "رأيت"، ممّا يدلّ على غلبة العيان وطغيانه في رحلة البغدادي. ولا يمكننا في هذا السّياق تفسير هذه الظّاهرة على نحو شامل ولذلك نقتصر على إبداء ببعض الملاحظات:
1 ـ أنّ فعل الوصف لا يمكن إجراؤه إلاّ إذا ثبّتنا موضوعا مّا وعيّنّاه وتمكّنّا من فصله عمّا كان موصولا به. فالعيان هو ضرب من التّقسيم يجرى على مسترسل هو في هذا النّصّ │مصر│فإذا انفصل من هذا المسترسل جزء منه أمكن وصفه، أي تمثيله بواسطة العلامة، أو تأويله ببعض المفسّرات الّتي تكشف جانبا من مضمونه.
2 ـ أنّ فعل الوصف لا يمكن إجراؤه في حال الفوضى، لأنّ حال التّقلّب والتّحوّل هي من قبيل الحوادث الطّارئة. فهي وليدة الصّدفة والطّارئ والمفاجئ. وهي لأجل ذلك كانت أحداثا فريدة مخالفة لكلّ نظام. وكلّ ما كان فريدا لا يمكن أن ينتظم أو يصنّف أو يدرج في أيّ نظام غير نظامه الخاصّ. فكلّ ما يتحدّد موقعه خارج كلّ نظام هو فريد singulier، ويعتبر صنيع كلّ فريد خرقا للعادة والرّتيب المألوف. ولا يمكن قياس كلّ ما هو فرديّ وفريد بأقيسة العامّ، فالفريد لا يمكن إثباته إلاّ باستحالة قيسه على العامّ.
3 ـ أنّ "الحوادث الفريدة" لا يمكن إبلاغها بالوصف، لأنّ كلّ فريد خارق للعادة والرّتيب المألوف لا يمكن نقله إلاّ بواسطة الحبكة القصصيّة، أي بمقولة القصّ (13). ولأجل ذلك لم تتعلّق "الحوادث الفريدة" في رحلة عبد اللّطيف البغدادي بـ"الأمور المشاهدة … بأرض مصر" وإنّما بـ"الحوادث المعاينة بأرض مصر"، وهي حوادث قد شغلت من حيّز الرّحلة الفصلين الأخيرين من المقالة الثّانية، أي حوادث سنة سبع وتسعين وخمسمائة وحوادث سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. ولأجل ذلك طغت مقولة السّرد فيهما على الوصف بصفة مطلقة.
4 ـ أنّ المؤلّف/المتلفّظ لم ينقل كلّ ما جرى ووقع وإنّما كلّ ما اتّفق له أن رآه على وجه الصّدفة لا بالقصد والنّيّة. ونعتبر أنّ كلّ "ما أمكن نقله" و"ما لم ينقل" كلاهما مؤسّس لمفهوم الفظيع. فإذا عرّفنا الحدث بأنّه حادث الاصطدام مع الواقع، أو هو هذا اللّقاء الصّادم traumatique مع الواقع فإنّنا نعرّف الفظيع بأنّه سلسلة من الأحداث الصّادمة الّتي يمكن عيان بعضها بالاتّفاق، والامتناع عن عيان بعضها الآخر لأنّ الفظاعة بلغت حدّا من البشاعة لا يطاق ولا يحتمل. ونجد صورة من هذا الامتناع صريحة في نصّ الرّحلة. فقد صرّح البغدادي نفسه بأنّه " لو أخذنا نقصّ كلّ ما نرى ونسمع لوقعنا في التّهمة أو في الهذر، وجميع ما حكيناه ممّا شاهدناه لم نتقصّده ولا تتبّعنا مظانّه، وإنّما هو شيء صادفناه اتّفاقا، بل كثيرا ما كنت أفرّ من رؤيته لبشاعة منظره. وأمّا من يتحيّن ذلك بدار الوالي فإنّه يجد منه أصنافا تحضر مع آناء اللّيل والنّهار." (رحلة عبد اللّطيف البغدادي، ص133). فالفرار يؤكّد أنّ الفظيع ينتمي إلى سجلّ العيان، ولكنّه يمثّل في الوقت ذاته حالا من أحوال النّفس état d’âme موسومة بعدم احتمال المعاين رؤية ما آلت إليه أحوال الأشياء états de choses من فوضى بلغت في العالم الخارجيّ حدّا جاوز مقدار الاحتمال، فأضحى من فظاعته لا يطاق.
الهوامش:
1- انظر: Bataille, Georges: (1973-1995) Théorie de la religion. Texte établi et présenté par Thadée Kolossowski, tel Gallimard, p23. 2- انظر: Bataille, Georges: Théorie de la religion, op.cit, pp 52-53. 3- ينقل (البغدادي، عبد اللّطيف: كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر، (المعروف برحلة عبد اللّطيف البغدادي إلى مصر) إشراف وإعداد وتقديم عبد الرّحمن عبد الله الشّيخ، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب،1998، ص134) "وإذا أحرق آكلٌ أصبح وقد صار مأكولا لأنّه يعود شواء ويستغنى عن طبخه.". 4- انظر كتاب، ميريديث، روبين: الفيل والتّنّين. صعود الهند والصّين، ودلالة ذلك لنا جميعا، ترجمة شوقي جلال، عالم المعرفة، الكويت، العدد359، 2009، ص29. 5- انظر ترجمته في كتاب، ابن أبي أصيبعة، موفّق الدّين أبو العبّاس: عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء، دار الثّقافة، بيروت ـ لبنان، د.ت، الجزء الثّالث، ص.ص330-350. وقد ورد في فهرست كتبه ذكر الرّحلة.6- البغدادي، عبد اللّطيف: كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر، م.م، ص.ص132-142. والإحالات على هذا الكتاب ستكون داخل المتن.7- انظر: (ميريديث، روبين: الفيل والتّنّين، م.م، ص.ص 27-30.) حيث يذكر أنّه في عام 1955 أقدم ماو على تشكيل المزارع الجماعيّة، فحظر على الفلاّحين امتلاك الأراضي أو أن يبيعوا ويشتروا لحسابهم الخاصّ ما أنتجوه من محاصيل إلاّ ما زرعوه في مساحات صغيرة. ولم تمض غير سنوات حتّى انخفض الإنتاج بنسبة 40 في المائة في أرض كانت تنتج ما يكفي البلاد من طعام. وبلغ العجز في الغذاء أسوأ حالاته بعد مضيّ ثلاثة أعوام، أي عام 1958 عندما ضمّ برنامج ماو "القفزة الكبرى إلى الأمام" التّعاونيّات الرّيفيّة، فخلقت هذه السّياسة مجاعة عمّت أنحاء البلاد. وأثناء المجاعة "كانت مخازن الغلال زاخرة حتّى في داخل شياوغانغ في مقاطعة أنهوي الّتي أصيبت بأشدّ الأضرار. وكانت مخازن غلال الجيش مملوءة ومتخمة. وكانت الصّين تصدّر القمح بينما النّاس يتضوّرون جوعا.8- انظر: Greimas, Algirdas.Julien: (1983) Du sens II. Essais sémiotiques. Éditions du Seuil, p93.، ويحدّد Greimas مقولة الانفعاليّ la catégorie thymique بلفظين متضادّين يطلق عليهما: │euphorique│أو ما يجذب، و│dysphorique│أو ما ينفّر.9- انظر: مادّة " thymique" بقلم Sorin Alexandrescu من معجم: Greimas, A.J et Courtés, J: Sémiotique Dictionnaire raisonné de la théorie du langage ،Tome2 ، op.cit, p238. 10- انظر: Kristeva, Julia: (1980) Pouvoirs de l’horreur. Points/Essais , p13الّتي ترى أنّ الدّناءة والحقارة l’abjection تتأسّس بعدم معرفة الأقارب. لا شيء أليف عند الإنسان الدّنيء. ونحن نرى أنّ هذه الدّناءة تبلغ حدّ الفظيع حين يلتهم القريب قريبه باسم القرابة ذاتها.11- انظر: Kristeva, Julia: Pouvoirs de l’horreur, op.cit, p12 12- جاء في اللّسان: " نَشَّمَ القومُ في الأَمر تَنْشِيماً نَشَبوا فيه وأَخذوا فيه قال ولا يكون ذلك إِلاّ في الشّرّ ".13- انظر: Ricœur, Paul: Temps et récit, t 1, op.cit, p

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق