السبت، 19 يناير 2013

قراءة في كتاب: (الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر)

 
المؤلف عبد اللطيف البغدادي (عالم موسوعي عربي اكتشف مرض السكر وعلاجه) وهو عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي أبو محمد وفق الدين الموصلي البغدادي عرف بابن اللباد وابن النقطة كان عالما بالطب والتشريح والكيمياء والنبات والفلك والمنطق كما كان مؤرخا وجغرافيا وعالما بالحديث والنحو. ولد ببغداد في منطقة تعرف بدرب الفالوذج عام (557 – 629هـ / 1162 م - 1231 م)، في أسرة من علماء الفقه والحديث، كما أخذ الأدب عن علماء مصر ودرس كتب أرسطو، وأجيز إجازات كثيرة في علوم شتى، ودرس الطب في دمشق وحلب وزار معظم البلاد العربية وبلاد الروم، وقام بزيارات عديدة إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي، والتقى بالعديد من العلماء والقادة، وكان أشهر من التقي بهم الناصر صلاح الدين الأيوبي وقد وصفه بقوله "بطل يملأ العين روعة والقلب محبة" كما التقى بالفيلسوف المصري اليهودي موسى بن ميمون وقد وصفه بقوله "أنه فاضل للغاية".، ثم استقر بالقاهرة فترة ، ومارس فيها تشريح الجثث البشرية أثناء المجاعة الناجمة من نقص مياه النيل . ثم عاد إلى بغداد بعد 45 سنة واستقر فيها إلى حين وفاته. ومن إنجازاته العلمية أنه أول من اكتشف مرض السكر ، وتشخيص أعراضه السريرية وحصرها في استرسال البول وكثرته ، والعطش الدائم ، والهزال وجفاف البدن ، وجعل علاجه في الحمية ، والتغذية المقننة، والهدوء، وراحة البال والنفس. وهو أول من برهن علي أن الفك السلفي هو قطعة واحدة، مخالفا رأي جالينوس ومن سبقه من الأطباء العرب ، بعد إقدامه علي تشريح الجثث ، وإثباته لرأيه بالمشاهدة والمعاينة المباشرة الحسية. وقد بحث عبد اللطيف البغدادي في تصالب أصناف الحمضيات ، لإنتاج أصناف جديدة بواسطة التطعيم. وتقرب مؤلفات البغدادي من 173 مؤلفًا في اللغة والفقه والطب وعلم الحيوان والرياضيات والرحلات. لم يصل إلينا منها سوى عشرون مؤلفا. ويعد كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر " من أنفس آثار هذا الرجل، وهو في الأصل مستخلص من كتاب أكبر عنوانه "أخبار مصر" كان يحوى معلومات مفصلة عن مصر، غير أنه لم يصلنا، واستخلص منه البغدادي ما استند فيه على ملاحظاته الشخصية. ويضم الكتاب مقالتين: الأولى تضم ستة فصول أولها يدور حول خواص مصر العامة، ويتناول الثاني ما تختص به مصر من نباتات، والثالث عن حيوانات مصر، والرابع عن أثارها القديمة، والخامس عن غرائب أبنيتها وسفنها، والسادس عن غرائب طعامها. أما المقالة الثانية فتنقسم إلى جزأين : الأول منهما يتناول النيل وفيضانه ونظمه، ويدور الجزء الثاني عن حوادث سنة 597 وسنة 598 هجرية وفيها وصف مجاعة شديدة ألمت بالبلاد. كما وصف زلزالاً عنيفًا ألم بمصر والشام و قبرص يوم الاثنين 26 شعبان صباحًا بل ووصف تابع للزلزال ظهيرة ذلك اليوم. واستخدم البغدادي أساليب البحث الحقلي في جمع بياناته الثقافية، مطبقًا بذلك أسلوب الإثنوجرافيا الوصفية. أثناء قراءاتي لهذا السفر العظيم راودني إحساس بأن مؤلفه يعيش بيننا هذه الأيام وهو المتوفى منذ ما يقارب الثمانية قرون، فما سطرته يداه وكأنه يقرأ الواقع المرير الذي تعيشه مصر وشعبها في هذا العصر، وما نشاهده من أحداث وغلاء وأعباء ثقيلة على كاهل هذا الشعب نتمنى أن لا يصل بنا الحال كما وصل بأجدادنا قبل 777 عاماً وفيما يلي سأتناول معكم القراءة في بحر هذا الكتاب الشيق :
المصريون..... أعراقهم وتعدادهم

تحت عنوان (رحلة عبداللطيف البغدادي في مصر) يذكر محقق الكتاب الدكتور عبدالرحمن عبدالله الشيخ أن رحلة البغدادي تورد لنا كثيراً من المعلومات التي تفيدنا في تحديد المصريين المعاصرين ومعرفة الدماء التي تسرى في عروقهم. فهو عندما يحدثنا عن جفاف أو انخفاض مستوى مياهه انخفاضاً هائلاً، وما صاحب ذلك من مجاعة وقحط شديدين حتى أكل بعض الناس بعضهم الآخر، وأكلوا الميتة حتى التي صارت رميماً، إنما هو في الواقع لا يحدثنا عن المماليك الذي جلبهم بنو أيوب أو بقايا المماليك من عصور سابقة وإنما يحدثنا عن المصريين الأصليين، سواء منهم من صار مسلماً أم ظل على مسيحيته، فهؤلاء هم الذين عز عليهم الطعام، بالإضافة لمصريين آخرين من أصول حبشية أو سودانية. أما مماليك بني أيوب وغيرهم، فقد كانت الأرزاق تصلهم ن مناطق العالم الإسلامي غير المنكوبة ومن مخازن الدولة. لكن كرم الملك العادل ومماليكه لم يظهر بشكل واضح إلا في التبرع بالأكفان، إذ يذكر لنا ابن تغري بردى في كتابه الشهير (حسن المحاضرة) أنه كفن في هذه السنة 597هـ من ماله 300.000 من الغرباء، والمقصود هنا أهل مصر (المقصود بهم سكان الصعيد والدلتا) الذين هربوا من المجاعة إلى القاهرة ووزع بعض ماله على ذوي البيوتات والمساكين. وإذا علمنا أن هذه المجاعة التي خربت بسببها مصر بحيث لم يصبح في قرى بأكملها نفس واحدة، لم تكن هي الوحيدة في التاريخ المصري، وإنما حدثتنا كتب التاريخ بإيجاز شديد عن قحط مشابه سنة 290هـ (الدولة الطولونية) وعن شدة أكلت الأخضر واليابس وراح فيها خلق كثير زمن الدولة الفاطمية عرفت بالشدة المستنصرية، اتضح لنا أن العنصر المصري الأصل تعرض لهلكة شديدة، ومع أن البغدادي قدم لنا وصفاً مفعماً بالحياة للمجاعة الناتجة عن هبوط النيل هبوطاً شديداً في أواخر أيام الدولة الأيوبية، إلا أنه من المفيد ذكر ما أوردته بعض المصادر الأصلية الأخرى، وقد اخترنا أن ننقل من حوليات ابن تغري بردى في كتاب (حسن المحاضرة) عن هذه المجاعة لأنها ضبطت الحوادث بالسنوات بشكل دقيق: حوادث سنة 597: (وفيه كان هبوط النيل ولم يعهد ذلك في الإسلام إلا مرة واحدة زمن الفاطميين، ولم يبق منه إلا شيء يسير وعم الغلاء والوباء بمصر، فهرب الناس إلى المغرب والحجاز واليمن والشام وتفرقوا وتمزقوا كل ممزق.. قال أبو المظفر: كان الرجل يذبح ولده الصغير وتساعده أمه على طبخه وشيه، وأحرق السلطان جماعة فعلوا ذلك ولم ينتهوا. وكان الرجل يدعو صديقه وأحب الناس إليه إلى منزله ليضيفه فيذبحه ويأكله، وفعلوا بالأطباء كذلك فكانوا يدعونهم ليبصروا المرضى فيقتلونهم ويأكلونهم، وفقدت الميتات والجيف من كثرة ما أكلوها. وكانوا يختطفون الصبيان من الشوارع فيأكلونهم. وكفن السلطان في مدية يسيرة مائتي ألف وعشرين ألفـاً، وامتلأت طرقات المغرب والمشرق والحجاز برمم الناس، وصلى إمام جامع الإسكندرية في يوم ما يزيد على 700 جنازة. وقال العماد الكاتب الأصبهاني: وفي 597: اشتد الغلاء وامتد البلاء وتحققت المجاعة وتفرقت الجماعة وهلك القوي فكيف الضعيف! ونحف السمين فكيف العجيف! وخرج الناس حذر الموت من الديار، وتفرق فريق مصر في الأمصار، ولقد رأيت الأرامل على الرمال، والجمال باركة تحت الأحمال، ومراكب الفرنج واقفة بساحل البحر على اللقم، تسترق الجياع باللقم. قال: وجاءت في شعبان زلزلة هائلة من الصعيد هدمت بنيان مصر، فمات تحت الهدم خلق كثير، ثم امتدت إلى الشام والساحل فهدمت مدينة نابل فلم تبق منها جداراً إلا حارة السمرة (السمرة والسامرة قوم من اليهود من قبائل بني إسرائيل يخالفون اليهود في بعض أحكامهم كإنكارهم نبون من جاء بعد موسى عليه السلام وقولهم لا مساس وزعمهم أن نابل هي بيت المقدس) ومات تحت الهدم 30.000 وهدمت عكا وصور وجميع قلاع الساحل وامتدت إلى دمشق فسقط بعض المنارة الشرقية بجامع دمشق، وأكثر الكلاسة والبيمارستان النوري، وعامة دور دمشق إلا القليل، فهرب الناس إلى الميادين وسقط من الجامع ست عشرة شرفة وتشققت قبة النسر (قبلى جامع دمشق). انتظاراً لتعليقاتكم ومداخلاتكم في هذا الجزء من الكتاب لنستطلع آرائكم في مواصلة كتابة نشر بقية القراءة أم الاكتفاء بهذا القدر من الكتاب، وإلى أن ألقاكم أستودعكم الله وأترككم في رعايته والله ولي التوفيق.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق