الأربعاء، 23 يناير 2013

الجدل الديني في الأندلس


د. عبد الله بن إبراهيم العسكر

قسم التاريخ بكلية الآداب

جامعة الملك سعود

الرياض 14/3/1429هـ

الموافق 22/3/2008م


مدخل:

الجدل الديني بين معتنقي الديانات السماوية أو غيرها سمة من سمات حوار الحضارات وصفة من صفات الرقي المعرفي وقبول الآخر. بل هو يأتي في الذروة من بين موضوعات كثيرة يدور بشأنها التحاور والمناظرة، ذلك أن لاشيء حقاً يفرق الأمم شيعاً وفرقاً متنافرة مثل معتقدات بعض الفرق الدينية التي تنحو منحى التطرف والعنف. من هنا جاء ت مقولة : (أن أكثر المناظرات صعوبة هي ما يتعلق بالدين أو المذهب) ولعل مصطلح (التعصب). عند إطلالة دون تقيد لا يذهب إلا للتعصب الديني الضيق، ومع هذا يظل الحوار الديني هو المفتاح الحقيقي، لمعظم المشكلات التي عرفها وعانها المسلمون في حياتهم. والحق أن الحوار الإسلامي ــ اليهودي ــ النصراني أو ما يعرف الآن بحوار الأديان هو ما اختاره المسلمون الأوائل في الأندلس كطريق للتعايش السلمي، ومن ثم كطريق للدعوة الدينية، دعوة قائمة على الإقناع والاقتناع، وهو طريق سلكه المتحاورون كمدخل حيوي لتحاول الثقافات المختلفة، وهو بالتالي ما ولد حضارة إسلامية أندلسية، تعتبر بحق أول حضارة إنسانية أرست مبادئ ما نطق عليه اليوم اسم: (حوار الحضارات).

جاء في القرآن الكريم عدة آيات بينات عن الجدل والمحاورة منها (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً) ومنها ( فقال لصحابه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً ونفراً) وكذلك (قال صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً). وأيضا (لقد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير). وكذلك (هاأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) وكذلك (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهو لا يظلمون) وقوله تعالى (إن الذين يجدلون في ءايت الله بغير سلطان أتهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببلغيه) وأخيراً (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )([1]).

بل إن السورة الثامنة والخمسون في القرآن الكريم تدعى "سورة المجادلة" لهذا لا يستغرب أحدنا أن يجادل الإنسان في أمور كثيرة ومنها الأمور الدينية ، فالجدل صفة إنسانية لازمة. وهي سبيل من سبل الحوار وتبادل الثقافات وتلاقحها، وهي سبيل من سبل الدعوة إلى الحق. يقول الإمام الغزالي في هذا الصدد : إن الجدل منازعة بين متفاوضين لتحقيق الحق وأبطال الباطل([2]). والمتصفح للعدد الكبير من الآيات التي تأتي فيها كلمات الجدل أو الحوار يستخلص أن الجدل القرآني يشترط عناصر أساسية لقيام الجدل واستقامته وهي : شخصية المتجادلين أو المتحاورين، وخلق الأجواء المواتية للجدل، والمعرفة بموضوع الجدل، أخيراً أسلوب الجدل. وأكاد اجزم أن المجادلين المسلمين توفرت لهم تلك العناصر([3]).

الجدل الديني في الأندلس:

شهدت الأندلس الجدل الديني بين الديانات السماوية الكبرى( اليهودية ــ والنصرانية والإسلام) في القرون الثلاثة الهجرية (القرون الرابع والخامس والسادس). وتزعمه طائفة من علماء المسلمين، ومثلهم من رهبان النصارى وأحبار اليهود . والحق يقال إن تلك المجادلات أنتجت علماً كبيراً أتخذ له فيما بعد مسمى " علم مقارنة الأديان" وهو علم لا يزال يلقى قبولاً في أوساط الدوائر الأكاديمية المعاصرة، وإن كان للأندلس الإسلامية أن تفخر بأشياء فلا شك أن الحوار الحضاري الذي تم على أرضها بين الشعوب العرقية والدينية يأتي في مقدمة ما تفخر به وتزهو.

ضم المجتمع الأندلسي طوائف وأعراقاً متعددة وهي التي كونت اللحمة الاجتماعية والثقافية التي ميزت الأندلس عما جاورها من بلدان أوربية. يأتي على رأس تلك الطوائف: المسلمون وهم خليط من العرب والبربر والموالي من أصواف فارسية وبيزنطية والمولدين، ثم النصارى وهم خليط أيضاً من سكان البلاد الأصيلين من عرقيات أوروبية مثل الصقالبة، ثم اليهود وهم قله ولكنهم شكلوا قوة ثقافية وجدلية.

ويأتي على رأس ما ذكرنا المستعربون Los Mozarabes المسيحيون الذين عاشوا في ظل الدولة الإسلامية. ثم يأتي المدجَّنون Los Medejares المسلمون الذين درجت حياتهم تحت سيادة المسيحية.

وكانت الحياة الفكرية والعلمية في الأندلس في القرون الرابع والخامس والسادس توصف بأنها قرون العلم الحق والفكر النير، وحرية التعبير، مع بعض الانتكاسات التي عرفتها الأندلس في بعض حقبها التاريخية، وطالت الحرية العلمية والفكرية، وهي انتكاسات تعتبر شذوذاً عن القاعدة، ولا أدل من ذلك مما قام به المنصور بن أبي عامر عندما أنشأ "ديوان الندماء" وكانت مهمته العناية بالشعر والاحتفاء بالشعراء. ومثل ذلك يقال عن ملوك الطوائف الذين شغفوا بالعلم وكانوا أنفسهم علماء وأدباء. وانتشرت في الأندلس دور العلم والمكتبات في المساجد والكتاتيب. وذكر المقرى في كتابه: (نفح الطيب) ربما نقلاً عن ابن حزم في كتابه: (جمهرة أنساب العرب) أن للحكم المستنصر (ت 366هـ ) مكتبه في قرطبة تحوى ما لايقل عن 400.000مجلد([4]).

ولم تمنع الحروب التي أشتد أوارها بين المسلمين والنصارى خصوصاً في القرن السادس الهجري من استمرار الحوار الحضاري بين أصحاب الديانات الثلاثة، فكان لا يكاد يمر عام إلا وتشهد الأندلس صراعاً مسلحاً بين المسلمين وأصحاب مختلف الطوائف النصرانية، ولعل تاريخ قرطبة - معقل العلم والفكر في الأندلس - خير من يمثل المدينة التي عاشت ويلات الصراع المسلح بين المسلمين والنصارى، ولكنها في الوقت نفسه تزخر بالعلماء المسلمين يناظرون ويجادلون الطوائف الأخرى، ولكن الجدال والمناظرة تقف عندما يشتد الصراع المسلح ، ويأخذ السيف مكان القلم، ويسود الحقد النصراني، لدرجة القيام بالتخريب والدمار وحرق الكتب والنهب كما حدث لقرطبة عام ( 540 هـ). حيث عاث الجنود النصارى في الحي الشرقي لقرطبة ومزقوا المصاحف، وأحرقوا الأسواق وكان مثل ذلك العمل مدعاة للتنديد من قبل النصارى المعتدلين فيما بعد أمثال المؤرخ الألماني يوسف أشباخ الذي أدان ذلك العمل([5]).

لم يعرف علماء الأندلس المسلمين الجدل والمناظرات في العقود الأولى لدخول المسلمين أيبيريا وذلك راجع لتفرغ المسلمين لمهمة توطيد السلطة الإسلامية ، وراجع أيضاً لعدم اتساع معرفة الأسبان باللغة العربية معرفة تخولهم الاطلاع على الفكر الإسلامي. أما بعد استقرار العرب، وشيوع اللغة العربية بين المستعربين والمسلمين الجدد. فقد شهدت الأندلس انصرافا قوياً من الشباب إلى الثقافة الإسلامية واللغة العربية لدرجة أطراح ما عداهما من المعارف. وفي هذا الصدد ما أبلغ شكوى الأسقف ألفارو Alvaro de Cordoba أسقف قرطبة، وذلك سنة 240هـ/ 854م حيث من انصراف الشباب الإسباني عن اللغة اللاتينية والثقافة النصرانية، وهو ينعى فيها على إخوانه في الدين أنهم نسوا حتى لغتهم اللاتينية([6]).

دخل علماء المسلمين في الأندلس في تحاور حضاري رفيع المستوى، لا من حيث الأسلوب فقط، ولكن من حيث المنهج والمعاني والموضوعات المطروقة التي غطت ميادين دينية وفلسفية عديدة. وقد أنطلق المتحاورون من كل الطوائف الدينية لتحقيق أهداف معلومة للكل. وينبغي الاعتراف أن الإسلام كعقيدة وشريعة وتطبيق هيأ الأرضية المناسبة لمثل ذلك التحاور الحضاري. فكما هو معروف لم يطلب الإسلام من الأسبان الذين دخلوا فيه إلا التلفظ بالشهادتين لقاء تمتعهم بكامل الأهلية الإسلامية، وترك للذين اختاروا البقاء على دياناتهم السابقة حرية الدين والشريعة والحكم، ولم يتعرض المسلمون لسواد النصارى فضلاً عن ساداتهم. وفوق ذلك فإن المسلمين استعانوا باليهود ــ وهم الطائفة المضطهدة من قبل القوط النصارى ـــ وولوهم المناصب العلياً وقربوا المتعلمين منهم، فاستوزر عبد الرحمن الناصر والحكم الثاني الطبيب اليهودي حسداي بن شبروط. (945ــ 970م). واستوزر الأمير حبوس في غرناطة الأديب اليهودي المعروف: إسماعيل بن النغريله صاحب كتاب (القصص اليهودي ) وصاحب أكبر مكتبة شخصية في الأندلس([7]).

لقد تعامل المسلمون مع نصارى الأندلس بتسامح كبير، ولقد تمتع رجال الدين المسيحي بحرية دينية، وسمح لأساقفة النصارى بعقد مؤتمراتهم الدينية (وأغلبها مخصص للتبشير). في المدن الأندلسية الكبيرة مثل: المؤتمر الديني الذي عقد في قرطبة عام 582م ومؤتمراً أشبيلية عام 872م وغني عن القول أن الحكومة الإسلامية سمحت للنصارى بتشييد العديد من الكنائس([8]). وكان بعض فقهاء المسلمين في الأندلس يتخذون من النصارى مساعدين لقضاء حوائجهم ولا يجدون في ذلك غضاضة، فقد ذكر الطرطوشي أن الفقيه ابن الحصار استعمل جاره النصراني على قضاء حوائجه ومنافعه([9]). وكذلك مشاركة بعض المسلمين النصارى احتفالاتهم الدينية مثل: عيد ميلاد المسيح وعيد سان خوان ولاشك أن تلك المشاركة الروحية ترجع إلى التعايش السلمي بين الطائفتين([10]).

بل وصل بعض النصارى إلى مناصب عالية في الحكومة الإسلامية فقد استوزر المقتدر بن هود (ت: 474). ملك سرقسطة أبا عامر بن غند شلب النصراني([11]). وفعل مثله محمد بن عبد الرحمن الأوسط (ت 273هـ) الذي صار كبير الكتبة عنده قومس ابن أنتُنيان النصراني وهو الذي جعل من يوم الأحد إجازة رسمية للدولة([12]).

إذن يمكن القول إن الجو السياسي والديني والعلمي الذي أظل العلماء في الأندلس كان مواتياً لانطلاق أكبر تحاور حضاري عرفته أوروبا في تاريخها القديم والوسيط، والفضل كما قلت يعود للحكومة العربية الإسلامية التي رسخت قولاً وعملاً منهج التحاور العلمي وأشاعت جواً من الحرية الفكرية تمتع بها الكل، وقد درس خالد السيوطي الجدل الديني في الأندلس، واستخلص أهم الأهداف التي سادت الجدل الديني، وهي بدورها تعتبر من سمات التحاور الحضاري بين الديانات السماوية في الأندلس([13]).

من تلك الأهداف استعمال الجدل الديني في الأندلس في عصور عديدة من قبل المتحاورين المسلمين والنصارى من أجل الدعوة إلى الإسلام، ومن أجل التبشير بالنصرانية. وقد أبان تجادل أصحاب الديانات عن روح التسامح السائد بين المتجادلين من علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب، ولعل ذلك راجع للتقاليد التي أشاعها المسلمون حكاماً وعلماءً ومنها حرية التعبير والاعتقاد الديني لكل الطوائف والملل.

وقد بيّن الجدل الديني الدائر آنذاك مقدار احترام الإسلام والمسلمين للرأي الأخر. وهذا الملمح يعد بحق رافداً من روافد الحضارة الإسلامية التي عرفت التعدية في العقائد والمذاهب والأفكار والرؤى، وكما هو معروف في الإسلام فإن الاختلاف سنة من سنن الله في الكون. ولعل أكبر ثمار الجدل الديني ما توصل إليه المسلمون عقلياً، وما أقر به بعض علماء أهل الكتاب المنصفين فيما بعد من أن كثيراً من عقائد أهل الكتاب السائدة آنذاك يفتقر للبرهان المقبول . وقد اعترف بذلك بعض علماء النصرانية. ونجد تلك الاعترافات مبثوثة في مؤلفاتهم الجدلية، فيذكر الصفي بن العسال في كتابه: (الصحائح في جوارب النصائح) أن العقائد النصرانية غير برهانية([14]). وينقل عن بولس الرسول مقولته المشهورة: "لم أبشركم بحكمة الكلام لئلا يتعطل صلب السميح "([15]). وفي هذا القول الأخير ما يغني عن الاسترسال ذلك، أن بعض العقائد النصرانية لا تصمد أمام الجدل العلمي.

لقد بلغ من معرفة علماء المسلمين المشتغلين بعلوم الكلام والفلسفة درجة عظيمة في ميدان الجدل حتى أصبح عند الإمام جمال الدين أبي عمرو عثمان بن عمرو بن أبي بكر المعروف بابن الحاجب المتوفى عام (ت646هـ ) علماً بذاته، يؤلف فيه كتاب مستقل عنوانه: "منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل" وهو كتاب في غاية الإتقان والبحث العقلي، وتدوير الأدلة النقلية لتطابق الفكر والعقل . أو كتاب علم الجَـذَل في علم الجَـدَل" لنجم الدين سليمان بن عبد القوي الطرفي (ت716هـ )كما كشف الجدل الديني عن براعة المسلمين في علم المنطق، نجد مصداق ذلك لدى فقهاء وعلماء شرعية مثل أبن حزم والباجي اللذين لم يشتهرا كفلاسفة أو علماء في المنطق. والحق أن المرء لتصيبه الدهشة من تمكن علماء المسلمين من الجدل المنطقي، وهم الذين لم يتوسعوا في دراسة المنطق اليوناني أو الفلسفة اليونانية، ومعرفتهم الواسعة بعقائد أهل الكتاب. ومن أمثلة ذلك ما نجده عند القرافي (ت 648هـ ) ولو أنه من علماء المشرق الإسلامي، في كتابه القيم: (الأجوبة الفاخرة في الأسئلة الفاجرة) كما أن معرفة المشرق الإسلامي لأهل الكتاب تكشف للمراقب عن تفوق المجادل المسلم على مستوى المؤلفات والرسائل الجدلية، أو على مستوى المناظرات الشفاهية. مثال ذلك كتاب: (عيون المناظرات) لأبي على عمر السكوني (ت: 717 هـ) الذي يحوي عدداً من المناظرات مع اليهود والنصارى تنتهي كلها بإفحامهم، وانقطاعهم عن الحجاج الديني، وأحياناً باعتناق بعضهم الدين الإسلامي.

وأوضحت المجادلات الدينية كثراً من الصراعات الفكرية التي تحاور فيها علماء المسلمين فيما بينهم، وفي أحيان تقاتلوا بشأنها وعانت منها الأمة الإسلامية بأسرها، وتبين أن مرد تلك الصراعات تأثر علماء المسلمين بما عليه الطوائف غير المسلمة. مثال ذلك القول بقدم القرآن وتشددهم في ذلك. والمعتزلة يخافون من أن يضاهي القول بقدم القرآن كلمة الله أدعاء النصارى قدم المسيح، لأنه كلمة أيضاً ([16]). وأثبتت تلك المجادلات الدينية الإسلامية مع أهل الكتاب مقدار ما ساهم به فكر بعض الفرق الإسلامية مثل الأشاعرة والمعتزلة والماتردية من جهود فكرية وفلسفية للمنافحة عن الإسلام والمسلمين. ومن هذا أيضاً ما لا حظه ابن حيان(ت:467هـ) من أن مقاتل بن سلميان أخذ عن اليهود والنصارى بعض تفسير القرآن الذي يوافق كتبهم الدينية مثل تشبيه الرب سبحانه وتعالى بالمخلوقين([17]).

وساهمت المجادلات الدينية التي استمرت طويلاً بين علماء المسلمين ونظرائهم من اليهود والنصارى في نشأة علم الكلام الذي شهد قبولاً من قبل بعض المسلمين وغيرهم من علماء أهل الكتاب، بل وفوق هذا يمكن القول إن المجادلات الدينية كانت أساساً متيناً في نشأة ما أطلق عليه مؤخراً أسم "علم مقارنه الأديان" ولا شك أن العالم الإسلامي ابن حزم الأندلسي من مؤسسي هذا العلم.

وعند تناول ظاهرة الجدل الديني بين المسلمين وغيرهم من أرباب الديانات الأخرى، إنما نسعى إلى إثبات أن ذلك الحوار والجدل أديا إلى بروز ظاهرة أخرى لا تقل عن الأولى في الأهمية وهي ظاهرة " الاحتكاك الثقافي" وهو احتكاك أدى إلى تفاعل حضاري بين الأندلس والدول الأوروبية المجاورة. حيث تم تبادل الزيارات العلمية بينهما، وقامت الوفود من الطرفين بزيارات متبادلة. وتم أيضاً تبادل الرسائل التي يحرص أن يقول فيها كل طرف الحجج القوية لتأييد ما يذهب إليه. مثال ذلك الرسائل التي بعث بها راهب فرنسي إلى المقتدر بن هود(ت474هـ) حاكم سرقسطه يدعوه إلى اعتناق النصرانية، وتكررت رسائل ذلك الراهب مما دعا بالمتقدر إلى الطلب من القاضي أبي الوليد الباجي (ت 474هـ) أن يتولى كتابة الرد، خصوصاً أن القاضي الباجي له مؤلف مشهور في الرد على أهل الكتاب ومحاجتهم عنوانه، ( السراج في علم الحجاج) ومثل هذا رد الخزرجي على أحد القسيسين.

جدل أهل الكتاب:

عُرف الجدل الديني بالجدل بين التوحيد والتثليث، وهو جدل سابق لدخول المسلمين شبه جزيرة أيبيريا. وكان الجدل الديني يدور بين الأرثوكس من جهة والأريوسيين من جهة أخرى، وهما أهم طائفتين نصرانيتين في شبه جزيرة أيبيريا وقتذاك. لقد رفض الأريوسيون قرارات مجمع نيقيا لعام (325م) القائلة بألوهية المسيح، ولم يروا فيه أكثر من كونه بشراً ورسولاً. ولما دخل الإسلام أسبانيا وانتشر رأي بعض علماء النصارى أن الإسلام لا يعدوا أن يكون صورة من المذهب الأريوسي، لذلك كثر في مجادلاتهم ومناظراتهم من أن الإسلام هرطقة نصرانية كما يذهب الراهب نيكولا دي كو في كتابه: "نقد القرآن"([18]). وأخذ الكتاب النصارى يطلقون على مخالفيهم الأريوسيين لقب(مسلمون) وهو لقب يحمل معاني الاحتقار . ولعل هذا كما يقول روجية جارودي سبب عزوف علماء النصرانية الأرثوذكس من الدخول مع علماء الإسلام في جدل ديني حتى منتصف القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي([19]).

أما بعد ذلك التاريخ فقد ظهرت مؤلفات جدلية ألفها علماء الدين النصراني واليهودي لنقد الدين الإسلامي. وكانت البداية في مؤلفات الجدل الديني عند أهل الكتاب غير موفقه من حيث الأسلوب والمنهج المتبع, وليس هناك سبب للشطط وسوء اللغة المستخدمة في المؤلفات الجدلية إلاّ تسامح المسلمين والتزامهم الجدل بالحسنى، فظهرت مؤلفات تتصف بقذف الإسلام عقيدة وشريعة ولكن تلك الحالة لم تستمر إذ دخلت الأطراف المتجادلة في حوار عملي رصين، صحيح أنه كانت هناك بعض التجاوزات ولكنها لا تشكل السمة الغالبة.

في مطالع القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي ظهر كتاب لمؤلف مجهول عن سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وانتشر ذلك الكتاب عند مثقفي الأندلس انتشاراً واسعاً. وكان الكتاب يحتوي على أفكار مغلوطة ومفاهيم مكذوبة، وقد بيّن علماء المسلمين ذلك عندما استعرضوا الكتاب وراجعوه، ومع هذا أصبح الكتاب الحجة والمرجع شبه الوحيد للمحاورين من أهل الكتاب. ثم ظهر كتاب إيولوجيو San Eulogio عام (851م ) وعنوانه: "ذكرى الشهداء" ويعنى بهم المقتولين النصارى في المواجهات الحربية مع المسلمين فيما عُرف بحركة الاستشهاد في قرطبة، التي اندلعت في منتصف القرن التاسع الميلادي ( ما بين سنتي 236-245 هـ/ 850-859م)
ويهدف إيولوجيو من وراء كتابه تذكير الشباب النصراني بذكرى أسلافهم، وإلى وقف اعتناق الإسلام من قبلهم. ثم أخرج القس ألفارو
Alvaro عام (854م) كتاباً في نقد الإسلام أسماه " نقد المحمدية" احتوى على فهم مغلوط لشعائر الإسلام وخاصة الآذان والصلاة. ويعلق المستشرق راينهات دوزي على تلك الكتب المغلوطة ويبدي استغرابه حيال رجال الدين المسيحي الذين يعرفون الإسلام واللغة العربية ومع هذا فقد شوهوا العقيدة الإسلامية. ([20])

وفي القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي حيث بدأ الضعف والسقوط يأخذ بالممالك الإسلامية، نشطت المجادلات الدينية من الجانب النصراني، وأخذت المناظرات الشفاهية أو المكتوبة شكل تخصص دقيق، أجتهد له القوم، فتخصصوا في الدراسات العربية والإسلامية، وكانوا دائماً يرددون مقولة مؤداها أنهم إنما يدرسون الثقافة العربية لينقلوا العلوم والفلسفة اليونانية والهلنستية التي ترجمها علماء العرب في الشرق من اللغتين اليونانية والسريانية إلى اللغة العربية، لذا فهم يستعيدون علومهم من العرب. وتمكن الرهبان النصارى من تأسيس حلقات العلم الدينى لإعداد جيل من الفقهاء يستطيعون مقارعة حجج المسلمين واليهود على السواء. وكان من ثمره تلك الجهود العلمية أن قصد الأندلس أحد علماء تلك الحلقات، وهو بطرس المكرم Pierre Le Venerable، وهو فرنسي من الرهبانية البندكتية، ورئيس دير كلوني، من أجل التزود من العلوم العربية والإسلامية، وعندما رجع إلى ديره أخذ يصنف المؤلفات الجدلية للرد على العلماء المسلمين واليهود([21]).

كما أنجز توما الأكوينى Thomas d'Aquin (ت 1274م) من الرهبان البندكتينين دراسة ضخمة بعنوان: "خلاصة ضد الكفار" وكان يهدف من وراء كتابه أن يصبح مرجعاً للمبشرين النصارى العاملين بين المسلمين. وكذلك فعل رايموندو مارتينى R.Marini وكتب كتاباً عنونه " خنجر الإيمان" وكان رايموندو مارتيني يهدف من وراء كتابه إلى الرد على المسلمين واليهود على حدٍ سواء ([22]).

وصنف المبشر النصراني ريموند لول R. Lull الذي قُـتل في شمال أفريقية عام
(1314م). كتاب " الزنديق" وأدراه على شكل رواية أبطالها يهودي ونصراني ومسلم. وتحتوي تلك الرواية على أخطاء كثيرة. ثم ألف رواية أخرى عمادها مناظرة بين ريموند النصراني وعمر المسلم، حيث أدار مناظرة بين الاثنين انتصر فيها لريموند. والحق أن ريموند لول أمضى سنوات غير قليلة من عمرة يبشر بالنصرانية بين أظهر المسلمين، ولكن لم يحالفه الحظ. وبأت محاولاته بالفشل، والحقيقة الغريبة التي تستحق التوقف عندها أن كل المؤلفين السابقين، وكل المجادلين من علماء اليهودية والنصرانية اعتمد واستفاد من المؤلفات الفلسفية والعملية لكل من: الغزالي، وأبن رشد، وابن سيناء، وابن باجه, وابن طفيل، وابن عربي التي ترجمت إلى اللاتينية وكانت الأساس القويم للنهضة الأوروبية فيما بعد([23]).

أما المحاورون من اليهود فيأتي على رأسهم إسماعيل ( صموئيل) ابن النغريلة وهو من أعلام القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. كتب ابن النغريلة عدة كتابات جدلية طاعناً في صدق القرآن الكريم، والشعائر الإسلامية الأخرى. ويظهر أن ابن النغريلة استغل التسامح الذي أشاعه المسلمون في الأندلس، وكذلك الحرية شبه المطلقة التي منحها المسلمون ليهود الأندلس، وهي حرية لم يألفوها من قبل من لدن الرومان ثم القوط النصارى. أقول فتجرأ ابن النغريلة وأمثاله على الإسلام وتعاليمه جرأة لا تمت للتحاور والمجادلة العلمية بصله، وهو أمر دعا علماء الأندلس للرد عليه. وفي أحيان استعمال اللغة القاسية التي يجيدها. بقول ابن حزم وهو من الذين تصدوا لابن النغريلة: "فإن بعض من تلقى قلبه للعداوة للإسلام وأهله، وذوبت كبده بغضه الرسول صلى الله عليه وسلم، من متدهرة الزنادقة المستترين بأذل الملل وأرذل النحل من اليهود، أطلق الأشر لسانه وأرخى البطر عنانه، واستمشخت لكثرة الأموال لديه نفسه المهينة، وأطغى توافر الذهب والفضة عنده همته الحقيرة، فألف كتاباً يقصد فيه بزعمه إلى إبانه تناقض كلام الله عز وجل في القرآن، اغتراراً بالله تعالى أولا، ثم بملك ضعفه ثانياً، واستخفافاً بأهل الدين بدءاً، ثم بأهل الرياسة في مجانة عوداً([24]).

ويمثل إسماعيل بن النغريله مثال اليهودي المثقف الذي أوقف حياته في المنافحة والمدافعة عن اليهودية واليهود، وثلب الإسلام والمسلمين. درس إسماعيل الأدب العربي والفلسفة الإسلامية وكان نابغاً وصل إلى أرفع الدرجات الوظيفية، فتبوء منصب الوزارة في عهد حبوس وأبنه أمراء غرناطة، ولما مات إسماعيل خلفه في الوزارة أبنه يوسف الذي لا يقل عن أبيه إخلاصا لدينه، وزاد بأن استطال على الإسلام والمسلمين، واشرأبت في زمنه اليهود وتطاولوا على المسلمين.

وكان يوسف هذا كاتباً لبلقين بن باديس بن حبوس ولي عهد ابيه ملك غرناطة. وكان بشهادة ابن بسام قد نظر في كتب المسلمين والعرب، ونقل عنه ادعاؤه القدرة على نظم القرآن شعراً وموشحات. ([25])

وقد صور الشاعر أبو إسحاق الإلبيري" إبراهيم بن مسعود بن سعيد التجيبي" (ت 459هـ)، الحالة التي عليها يوسف وطائفته اليهودية في قصيدة نونيه مشهورة، ثارت العامة بسببها وقتلوا يوسف وهم يرددون أبيات تلك القصيدة.

ثم يأتي يهودا اللاوي المعروف في الأوساط العربية في طليطله بأبي الحسن اللاوي. وهو صاحب كتاب: " الحجة والدليل في نصرة الدين الذليل". وتقوم فكرة هذا الكتاب على قصة خيالية ملخصها أن أحد ملوك الخزر أراد التعرف على الدين الإسلامي والنصراني، بينما استبعد الدين اليهودي لقلة أتباعه. وبعد المقارنة استبعد الإسلام لأن معجزته القرآن الكر يم المكتوب باللغة العربية، وهي لغة لا يمكن لغير العرب من تلمس الإعجاز فيها، ولا يمكن لغيرهم من التفريق بين القرآن الكريم وغيره من الكتب العربية. أما النصرانية فلأنها في قتال وحرب مستمر مع الإسلام، وهذا في حد ذاته دليل على فساد الديانتين، ولو كان فيهما خير لما اقتتلا، أو لأتنصر الدين الحق على ما سواه، ومن هنا فقد وقع اختيار ملك الخزر على الديانة اليهودية. وهي قصة موغلة في الخيال. والخيال لا يعد حجة في المناظرات الدينية([26]).

جدل المسلمين:

أنفق علماء المسلمين الجهد والوقت والمال في سبيل التعرف على معتقدات أهل الكتاب وعلومهم الدينية. ثم قاموا بعقد المناظرات الشفاهية مع الرهبان والقساوسة والمفكرين النصارى واليهود. وألفوا الكتب التي تتكيء في معلوماتها على الكتب الدينية المعتمدة عند الطرف الأخر، واستعانوا بعلم المنطق والعقليات والفلسفة لدحض آراء المناوئين للإسلام، وبيان فساد عقيدة أهل الكتاب.

وعند تأملنا المنهج الجدلي لعلماء المسلمين نجد أنهم اعتمدوا على المنهج التركيبي والمنهج التحليلي، وزاوجوا بين المنهجين، وكانت طريقتهم في الجدل تبدأ بمرحلة تحليل النص أو الفكرة، يعقب ذلك ثلاث مراحل هي على التوالي: التركيب ثم التحليل ثم التوليف. وتلك المراحل هي ما تعرف اليوم باسم "الجدل الدياليكتيكي Dialectic" ([27]).

أول ما نواجه من الرد والمناظرات هي تلك التي تصدت للمستعرب الأسباني المسلم أبي عامر أحمد بن غرسية وهو من سبي المسلمين، ومع أنه نشأ مسلماً، إلا أنه يحمل في داخله عقيدة شعوبية ضد الإسلام والعرب، وقد تصدى له أبو جعفر أحمد بن الدودين البلنسي([28]). وممن جادل علماء النصارى الشيخ أبو الطيب عبد المنعم القروي (ت 493هـ ) وقد صنع مجادلته بأسلوب (قلتم وقلنا) أو ما يطلق عليه اسم (الفتلقة) وهو أسلوب من أشق أساليب المحاججة والمناظرة([29]).

وتأتي مناظرات ومؤلفات ابن حزم (ت 456هـ) والقاضي أبي الوليد الباجي (ت 474هـ ) وأحمد بن عبدا لصمد الخزرجي (ت 582هـ) والفيلسوف أبن رشد
(ت 595) وأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي. (ت671هـ) والفقيه أبي عبد الله
محمد بن الفرج المعروف بأن الطلاع، (ت 497هــ)، تأتي كلها في الذروة من الجدل الديني الإسلامي تجاه الملل والنحل غير الإسلامية.

ويتضح من خلال استعراض أدبيات الجدل الديني الإسلامي في الأندلس أن كتابات ومناظرات العلماء المسلمين الجدلية يغلب عليها أمران: الأول يتمثل في الدفاع عن الدين الإسلامي عقدية وشريعة ونبوة دفاع علمي دقيق، وبأسلوب هاديء ضد حجج المجادلين من أهل الكتاب. الأمر الثاني يتلخص في المحاولات الناجحة لنقص العقائد الدينية اليهودية والنصرانية، وكانت المحاورات تتم في الغالب بصورة كتابية، وبمعنى تأليف المسائل والردود. وفي أحيان أخرى تتم المحاورة في شكل مناظرة بين عالمين يشهدها نفر من أتباع أديان المتناظرين.

وأهم القضايا التي استأثرت باهتمام الأطراف المتحاورة هي ما يلي: دحض حجج أهل الكتاب المتعلقة بمذاهبهم المتعددة، ومن ثم البرهنة على بطلانها. وبيان فساد مذاهب النصارى المتعلقة في القول بفكرة الاتحاد والحلول. والبرهنة النقلية والعقلية من كون التوراة والإنجيل محرفين لا يشبهان ما أنزل على النبيين موسى وعيسى عليهما السلام. والخلوص إلي إثبات نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، والمقارنة الشرعية والنقلية والعقلية بين عديد من الشعائر الإسلامية وما يقابلها في النصرانية واليهودية، والخلوص إلى أن الشعائر في الديانتين اليهودية والنصرانية قد دخلها كثير من الزيادة والنقصان ، وأصبحت لا تتواءم مع الشرع الإلهي والعقل الإنساني، ولهذا تبقى الشعائر الإسلامية هي الصحيحة.

لقد أصبحت المحاورات الجدلية بين أتباع الديانات السماوية الثلاثة في الأندلس نبراساً يقتفى أثرة علما ء ما بعد القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وكذلك بعد سقوط الأندلس النهائي، نجد مصداق ذلك في محاورات الموريسكي محمد الكازر التي دونها في كتاباته. بل إن المحاورات والمجادلات الدينية بالأسلوب الأندلسي قد انتقلت إلى البر المغربي، حيث يقوم أحد الفارين من الأندلس إلى المغرب وهو: أو العباس أحمد بن القاسم بن أحمد بن الفقية قاسم بن الشيخ الحجري الذي فر من الأندلس عام 1007هـ/ 1598هــ وسجل قصة فرارة في كتاب لم يصلنا عنوانه: " رحلة الشهاب إلى الأحباب " أقول ألف الشهاب الحجري كتابا آخر لم يصلنا عنوانه: " العز والرفعة والنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع" نقل فيه محاورته راهب نصراني بأسلوب المكاتبة وهو الأسلوب نفسه الذي كان سائدة في الأندلس قبل القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي. ولم يكتف الشهاب الحجري بالبر المغربي لأننا نجده قد شد الرحال مجادلاً ومحاوراً علماء النصرانية في عقر دارهم في فرنسا وهولندا. ودوّن ملخص لمحاوراته ومجادلاته في كتاب سماه: " ناصر الدين على القوم الكافرين"

والواقع أن قمة المحاورة والمجادلة الدينية بين علماء الأديان السماوية الثلاث وقعت في القرنين الخامس والسادس الهجريين/ الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، ولعل ذلك راجع إلى روح التسامح الديني، التي سادت مدن الأندلس قاطبة، وليس من المستبعد أنه راجع أيضاً لنشاط حركة التنصير. الشيء نفسه يمكن أن يقال عن زيادة عدد الداخلين في الإسلام من شباب النصارى واليهود نتيجة للمحاورات الدينية، وعلى الأخص شباب نصارى إشبيلية الذين اعتنق مجموعة منهم الإسلام([30]). لقد نشطت موجة كتابة الردود من قبل أحبار اليهود في القرن السادس الهجري؟ الثاني عشر الميلادي، وتوسعت دائرة الجدل الديني بين علماء الأديان السماوية في الأندلس.

ومن أبرز من تصدى لحركة التنصير أو حركة الـتأليف اليهودية بأسلوب المجادلات والمناظرات الدينية الإمام أبو محمد على بن سيعد ابن حزم الظاهري (ت 456هـ) والشيخ أبو جعفر أحمد بن عبد الصمد الخزرجي (ت 582هــ ) والشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي (ت 671هـ ) لقد قام كل منهم بعمل فكري وجدلي كبيرين، وناقشا قضايا عقيدية وتشريعه في الدينين: النصراني واليهودي محاولين البرهنة على فسادها وعورها.

أما ابن حزم فنقد عقيدة الإلوهية لدى أهل الكتاب وعقيدة صلب المسيح وأنسنة الإله، وتأليه الإنسان، وعقيدة التثليث . كل ذلك وغيره ورد في مؤلفاته الموسوعية:
( الفصل في الملل والأهواء والنحل ) (والأصول والفروع) (والرد على ابن النغريلة اليهودي) وكانت مجادلات ابن حزم شاملة وعميقة وقاسية، وكانت مؤثرة لدرجة أن علماء التوراة اليهود أدخلوا تغيرات في النصوص التوراتية نتيجة مجادلات ابن حزم مثل ما فعل موسى بن ميمون (ت 603هـ ) الذي تأول مُعظم النصوص التجسيمية الواردة في التوراة بناء على ملحوظات ابن حزم ونقده. وفي هذا الشأن يقول السمؤال بن يحيي المغربي (ت 570هـ) في كتابه: " بذل المجهود في إفحام اليهود"ما نصه:

"عندهم ـــ يقصد أهل الكتاب ــ من كفريات التجسيم كثيراً، على أن أحبارهم تهذبوا كثيراً عن معتقدات آبائهم بما استفادوه من عندهم بما يدفع إنكار المسلمين عليهم ما تقتضيه الألفاظ التي فسروها ونقلوها، وصاروا متى سئلوا عما عندهم من هذه الفضائح استبرؤوا بالجحد والبهتان من فضيع ما يلزمهم من الشفاعة"([31])

أما الشيخ أبو جعفر أحمد بن عبد الصمد الخزرجي فقد ركز على نقد عقيدة الإلوهية لدى أهل الكتاب، وعقيدة صلب المسيح، وكذلك نقد الأناجيل المعتمدة لدى النصارى في زمنه، وقد ألف الخزرجي كتابه العظيم الموسوم: "مقامع هامات الصلبان ومراتع رياض الإيمان" وهو كتاب تم تحقيقه مرتين، وله كتاب أخر لا زال مخطوطاً عنوانه: "مقام المدرك في إفحام المشرك" وللخزرجى تجربة فريدة فقد تم أسره من قبل الفرنج النصارى، وفي مقامه ذاك تمت محاولات عديدة لتحويله من الإسلام إلى النصرانية. ولكنه قاوم بشجاعة العالم، ورد وفند ما أثير حول الإسلام من قبل آسريه.

ومن العلماء أيضاً الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي صاحب كتاب "الجامع لأحكام القرآن" الذي جادل حول تناقضات الإنجيل، وبرهن على صدق وقوع تحريف التوراة. وناقش قضية صلب المسيح. كما أنه أبان بطلان كثير من المعجزات النصرانية، وكتب كثيراً من الردود ورد على القس حفص بن البر صاحب كتاب "العقائد" وهو كتاب أتخذ بمثابة دليلاً ومعيناً للمجادلين النصارى عند تحاورهم مع المسلين. وينسب للقس حفص بن البر أنه نظم مزامير داود شعراً. ألف القرطبي كتاباً شاملاً في الجدل الديني أسماه : " الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة محمد عليه الصلاة والسلام" ويرى المؤرخون أهمية كبيرة لكتاب الخزرجي في ميدان الجدل الديني لموسوعيه حجمه وكبره، وتطرفه للخلاف العقدي بين الإسلام والنصرانية.

وجملة القول أن مؤلفات أولئك العلماء، خصوصاً مؤلفات الإمام ابن حزم قد بُنيت على قواعد صلبه، أدت إلى نشوء علم اسمه: علم مقارنه الأديان وقواعده. لقد كان ابن حزم رائداً في ميدان النقد التاريخي، ورائداً في ميدان الفلسفة والعقليات ، ويكفي أنه أول من نص على دور بولس الرسول في تحريف الإنجيل، وهو قول سبق به علماء النصرانية واللاهوت النصراني في العصر الحديث. وكان ابن حزم أكثر علماء الأندلس مجادلة ومناظرة لعلماء اليهود. ولقد كان ابن حزم صريحاً وواضحاً في مداخلاته الدينية، وكان لا يقر ما عليه الصوفيين في كل الأديان، ولكن نصيب الصوفيين المسلمين من نقده يٌعد الأكثر والأقوى، وكان يرى أن الصوفية تٌفسد الدين. وقد كان نصيب الصوفي محمد بن عيسى الإلبيري من هجوم ابن حزم كبيراً. ولا يٌستبعد كما يقول المستشرق الأسباني آسين بالاثيوس من أن محمد بن عيسى هذا من تلاميذ مدرسة محمد بن عبد الله بن مسرة بن نجيح القرطبي الصوفي المشهور (ت 319هـ) وهي مدرسة لعبت دوراً في نشر الصوفية الإسلامية في الأندلس([32]).

لقد شكلت النقاشات الحامية التي جرت بين علماء الأديان الثلاثة مقدمة ضرورية. ورصعت صفحات ناصعة في ميدان الحوار الديني، وكانت الروح المتسامحة السائدة بين المتحاورين هي ما شجع عدداً من العلماء من مختلف الطوائف للدخول في دائرة الجدل الديني، طالما أنهم لن يتعرضوا للمساءلة أو العقاب من قبل المسؤولين الحكوميين، لدرجة أن بعض القضاة الذين يشهدون المحاورات الدينية يصمون آذانهم عندما يتلفظ أحد المتحاورين من أهل الكتاب بما يعد قذفاً في جنب الإسلام أو نبيه، وذلك خشية أن يوقع عليه العقوبة المشروعة([33]).

وقد بلغ من اتساع دائرة التسامح الديني آنذاك أن القاضي محمد بن عمر ابن لبابه (ت 314هــ) أفتى بعدم إيقاع حد الردة على يافع أندلسي بعد إسلامه بسبب ضغط أبويه. ومثل هذا فتوى القاضي عبيد الله ابن يحيى (ت 279هـ) بخصوص فتى أندلسي رأي النكوص عن إسلامه بعد أن سجله القاضي، وجاء للقاضي لتسجيل رجوعه لدينه السابق، النصرانية، فتم له ما أراد([34])

ومما يسهل ملاحظته أن المحاورة الدينية بين المسلمين واليهود في الأندلس أكثر وأشمل من مثلياتها في الشرق الإسلامي، نظراً للثقل الثقافي اليهودي في الأندلس وقتذاك. وأمر أخر لا يقل وضوحاً عن سابقة وهو: أن أسلوب المناظرة، ومنهجية المحاورة وطرائق المجادلة الأندلسية قد أثرت في شكل وطبيعة المحاورات في الشرق الإسلامي، ودليلنا على ذالك أن القرافي (ت 684) وهو من علماء المشرق قد تأثيراً كثيراً بالخزرجى، لدرجة أن من لا يعرف القرافي يعده من علماء الجدل الأندلسيين([35]).

وأزعم أن الجدل الديني بين الديانات المساوية الثلاث شكل سمة من سمات الحوار الحضاري الذي عرفته الأندلس، وهو حوار حضاري، أنتج العقلية الأندلسية المتفتحة، وأدى إلى لقاء الثقافات المختلفة على صعيد واحد، وأدي إلى تلاقح العقول، وهو حوار حضاري ما أحوجنا اليوم لمثله، فقد أثبت التجربة الأندلسية أنه إذا ما توفرت الأجواء الصحيحة والتسامح فإن الدين لا يشكل عقبه أمام الحوار الحضاري، وإن الدين لا يصبح كما يقول البعض من أنه كان سببا من أسباب الصدام الحضاري، وإذا ما ابتعد عن التعصب والتحزب. والجدل الديني كما اتضح من التجربة الأندلسية، جدل قائم على قبول الرأي والرأي الأخر، وعلى فتح باب الخيار أمام المتجادلين وغيرهم، وعدم إجبارهم على قبول مالا يرضون، أو التقليل من شأنهم، ولم يرد في المصادر ما يشير إلى أن المتجادلين والمحاورين من أتباع النصرانية أو اليهودية قد تعرضوا للضرب أو السجن، ناهيك عن القتل. وهذا هو الجدل الديني المطلوب. الجدل الديني الذي يؤدي إلى حوار حضاري. وهو الحوار الحضاري الذي شهدته الأندلس، وقام بين الحضارة الإسلامية وحضارة أهل الكتاب بشقيها اليهودي والنصراني.





([1]) انظر الآيات في القرآن الكريم على التوالي: (1) الكهف :54 (2) الكهف: 34 (3) الكهف: 37 (4)المجادلة:
1 (5) آل عمران: 66(6) النحل : 111(7)غافر : 56(8) النحل :125.
([2]) الطوفي، نجم الدين سليمان بن عبد الكريم الطوفي الحنبلي، عَـلَم الجَـذل في عِـلم الجَـدَل، تحقيق فولفهارت هاينريشس، فيسبادن 1987م ، ص 4.
([3]) محمد حسين فضل الله، الحوار في القرآن، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1985م، ص36.
([4]) المقري، شهاب الدين أحمد بن محمد، نفح الطيب من غصن الندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين الخطيب، تحقيق محمد البقاعي، دار الفكر، بيروت 1986م، ج 1، ص184
([5]) يوسف أشياخ، تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين ، ترجمة محمد عبدا لله عنان ، القاهرة 1958م،
ص230.
([6]) يقول ألفارو، "إن إخواني المسيحيين يدرسون كتب فقهاء المسلمين وفلاسفتهم، لا لتفنيدها بل لتعليم أسلوب عربي بليغ، وآسفاه إنني لا أجد اليوم عالماً يقبل على قراءة الكتب الدينية، والإنجيل بل أن الشباب المسيحي الذين يمتازون بمواهبهم الفائقة أصبحوا لا يعرفون علماً أو أدباً ولا لغة إلا العربية، ذلك أنهم يقبلون على كتب العرب في نهم، ويجمعون منها مكتبات ضخمة، تكلفهم الأموال الطائلة، في الوقت الذي يحتقرون فيه الكتب المسيحية وينبذونها " خالد عبد الحليم السيوطي، "الجدل الديني بين المسلمين وأهل الكتاب بالأندلس" في: ( ابن حزم الخزرجي) دار قباء، القاهرة، 2001م، ص 74.
([7]) ابن الخطيب، لسان الدين أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن سعيد الغرناطي، الإحاطة في أخبار غرناطة، تحقيق محمد عبدالله عنان، مكتبة الخانجي، القاهرة 1974، ج1، ص131.
([8]) جوستاف لوبون، حضارة العرب، ص277.
([9]) الطرطوشي، سراج الملوك، القاهرة 1319هــ، ص 154.
([10]) أحمد مختار العبادي، "الأعياد في مملكة غرناطة" مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد، المجلد الخامس عشر، 1970م.
([11]) محمد بن عبدالله عنان، دول الإسلام في الأندلس(دول الطوائف) مكتبة الخانجي، القاهرة، 1988م ، ص 412.
([12]) الخشني، أبو عبدالله محمد بن حارث بن أسد القيرواني، قضاة قرطبة، الدار المصرية للتأليف والنشر، القاهرة، 1966، ص 76.
([13]) خالد السيوطي، الجدل الديني ، ص ص 62-73.
([14]) هو: الصفي أبو الفضائل بن العسال (ت: 1260م) وعائلة العسال عائلة نصرانية مصرية عاشت واشتهرت بمصر في القرن السابع الهجري.
([15]) الصفي من العسال، الصفائح في جوانب النصائح، 1463م، ص 21.
([16]) الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة (حوادث سنة 218).
([17]) المقري، ابن عبد الرحمن الملطي، (ت377هــ). التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، تحقيق محمد زينهم عزب، مكتبه مدبولي، القاهرة 1993م، ص 3.
([18]) روجيه جارودي، الإسلام في الغرب (قرطبة عاصمة الروح والفكر) ترجمة محمد الصدر، دار الهادي، بيروت، 1411هــ ، ص 29. يعود الفضل في التنبيه على أهمية موضوع جدل أهل الكتاب إلى المستشرق افسباني ميكيل دي إيبالثا. أنظر مقالته " ملاحظات حول تاريخ الجدل الإسلامي ضد العقيدة المسيحية في الغرب الإسلامي " Arabica, vol. xiii, fasc.1, fevrier. 1971, pp. 99-106
([19]) روجه جارودي، الإسلام في الغرب ، ص . ص 17 - 28؛ وأنظر أيضاً: إسماعيل الأمين، العرب لم يغزوا الأندلس (رؤية تاريخية مختلفة) رياض الريس للنشر. لندن، 1991، ص 214.
([20]) R.Dozi, Historia de las Musulmanes de Espana, trad. Esp. Porfederico de Castro, ed. Buenos Aures, 1946. pp. 394-395
([21]) نجيب العقيقي، المستشرقون، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1964م، ج 1، ص 122.
([22]) نجيب العقيقي، المستشرقون، ج 1، ص 128ـــ 131.
([23]) نجيب العقيقي، المستشرقون،ج1 ص 116ـــ 117.
([24]) ابن حزم القرطبي، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الظاهري ، رسالة في الرد على ابن النغريلة اليهودي، تحقيق إحسان عباس، مكتبة دار العروبة، القاهرة 1960م ، ص 81.
([25]) ابن حزم القرطبي، رسالة في الرد على ابن النغريلة اليهودي، ص 13
([26]) السيوطي، الجدل الديني، ص 18.
([27]) إدريس حمادي، المنهج الأصولي في فقه الخطاب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1988م ، ص 21.
([28]) ابن بسام، أبو الحسن علي بن بسام الشنترينى، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1979م ج2، ص713.
([29]) ابن بسام، الذخيرة، ج2، ص719.
([30]) الونشريسي، أحمد بن يحيى بن عبد الواحد، المعيار المغرب والجامع المعرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب، تحقيق مجموعة من الأساتذة، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، 1981م، ج8.
([31]) السيوطي، الجدل الديني، ص 154.
([32]) نجاح محمود الغنيمي، علماء الملل والنحل، دار المنار، القاهرة، 1987م ، ج1، ص 77.
([33]) محمد أبو زهرة، تاريخ الجدل، دار الفكر العربي، القاهرة، 1980م ، ص 148.
([34]) أبو الإصبع عيسى بن سهل الأندلسي ، الأحكام الكبرى (وثائق قي قضاء أهل الذمة مستخرجة من مخطوطة الكتاب)، تحقيق محمد بن عبد الوهاب خلاف، المركز العربي، بيروت، ص ص 42 ــــ 46.
([35]) السيوطي، الجدل الديني، ص 265.

هناك تعليق واحد: