بلال عبد الهادي
الإنسان كائن لا يكفّ عن الكلام، حتى ولو لم ينبس ببنت شفة. ولسيغموند فرويد عبارة شهيرة تقول: «ذاك الذي تصمت شفتاه يثرثر بطرف أصابعه». والكتاب الذي بين أيدينا، يؤكد أن الإنسان بمقدوره ان يتكلم بأصابعه وعينيه وهزّات كتفيه، وأيضاً بملابسه وعصاه وسبحته،... ثمة قدرة إنسانية هائلة على التعبير، وشديدة التنوع، نادراً ما تلقى عناية المؤلفين العرب.
المؤلفات التي تتناول كلام الجسد قليلة العدد في اللغة العربية، من هنا قيمة كتاب مهدي أسعد عرار «البيان بلا لسان، قراءة في لغة الجسد». والكتاب قيّم فعلاً وهو قراءة حديثة وتراثية في آن، أي انه يعتمد على أفكار وآراء ونظريات علم التواصل الحديثة، والبحث عن مقابلات عربية لها متناثرة في أمّهات تراثنا العربي.
متتبع الكتاب الصادر عن «دار الكتب العلمية في بيروت»، يلحظ غنى تراثنا العربي بالكلام عن لغة الجسد، أو بيان الصمت، ومن تناول هذه المسألة لم يكن من النحاة أو اللغويين فقط بل اهتم بها شعراء وأدباء وفلاسفة وعلماء في أصول الفقه. ولعل لغة العيون هي الأكثر تداولا، فالشعراء والكتاب والعشاق كلهم يكتبون بعيونهم مواجدهم ورغباتهم وأشواقهم. وبحسب أحد الشعراء:
فالعين تنطق والأفواه صامتة
حتى ترى من ضمير القلب تبياناً.
ويلفت الكاتب النظر إلى لغة الجسد عبر السيدة مريم التي نذرت للرحمن صوما مغايرا للصوم المعهود وهو الصوم عن الكلام. لكن الصوم عن الكلام لا يعني عدم استخدام وسائل أخرى، وإلا لتعذر التواصل مع ما يعنيه ذلك من مكابدات ومشقات حياتية لا يطيق الإنسان تحملها، وعليه كان ثمة بدائل ووسائل غير صوتية تقوم مقام اللغة المنطوقة.
الأمثلة عن التواصل غير اللغوي كثيرة يبث بعضها الكاتب في مؤلفه منها إشارات الشرطي الذي ينظم السير بحركات يديه. ويشير أيضا إلى كلام الثياب، والثياب تنطق بما لا يقوله اللسان أو بما يخفيه أو ينكره. والكاتب يرى ان كلام قميص سيدنا يوسف هو الذي نطق بحقيقة ما حدث.
يقوم العلماء اليوم على دراسة الإشارات وتعابير الجسد بشكل مفصل ليعرفوا المكتسب من الفطري منها، فتبين لهم ان المعاني الفطرية التي يبثها الجسد لا تخلو من ست انفعالات عالمية، وهي البهجة والحزن والاشمئزاز والخوف والغضب والدهشة.
الكاتب يشير أيضا إلى طواعية لغة الجسد كما هو شأن اللغة المنطوقة. ولا ريب في أن أطروحات علم اللغة الحديث أفادت كثيرا في سبر دلالات لغة الجسد. وبما ان للجسد لغة كما هو شأن اللسان فلا بد من أن يكون لهذه اللغة نحوها وصرفها ومعجمها وبلاغتها. فالإنسان في سبيل توصيل فكرة ما، لا يكتفي بلباس لغوي واحد للفكرة الواحدة، إن تلوين الفكرة بألوان كثيرة إمكانية تتيحها اللغة والأمر نفسه نلحظه في لغة الجسد حيث انه من المتاح قول الشيء نفسه بتعبيرات جسدية مختلفة.
لا توجد أي لغة في العالم، بدائية كانت أم حضارية، لا تعرف الترادف اللغوي او المشترك اللفظي، أي كون المفردة الواحدة تدل على أكثر من معنى، فالمشترك الحركي موجود في لغة الجسد كما هو موجود في اللغة. لنأخذ هزة الرأس فهي تعني القبول او الرفض او الطرب. وهل يختلف أمر هزة الرأس هنا عن معنى «العين» المتعدد؟
من هنا يشير الكاتب إلى أن السياق هو الذي يحدد المعنى المقصود من الحركة، ويتكلم عن «الترادف الحركي»، كالتعبير عن الرفض إما بهزّ الرأس وإما بالإشارة باليد على سبيل المثال. ويدرس الكاتب أيضا المحظورات من الإشارات. فلكل لغة محظورها أيضا مهما ارتقت حضاريا، لأسباب دينية او جنسية او بسبب ما تثيره بعض الكلمات من خوف فيعمد مستعمل اللغة إلى تلطيف القول عبر الكناية أو عبر عبارات ملطفة كمن يحاول أن يقصّ من مخالب مفعول الكلمة الخشنة. وما نلحظه على صعيد المحظور اللغوي له مترادفات على صعيد بعض الإشارات التي تثير الاستهجان.
إن بعض الناس يلعبون بالكلام، يشوشون الدلالات، فيقف المرء حائرا أمام ألفاظهم، وما يحدث على صعيد الكلام يحدث أيضا على صعيد الإشارات، أي ان المرء قادر على التلبيس والتزييف والتمويه، إلا أن الجسد يصدر إشارات عفوية مضادة لكشف الزيف، وهذا ما يقوله عالم الإشارات الان بيتز على سبيل المثال، ولكن الأمر يتطلب تدريباً للعين.
ويشير الكاتب إلى أن ثمة إشارات مشتركة بين الشعوب، أشبه بلغة عالمية، ولكن ليس كل إشارة لها مدلول واحد، ويأخذ مثالا على ذلك إشارة الدائرة التي يشكلها الإبهام مع السبابة ويلحظ المؤلف ان هذه الإشارة يتغير مدلولها بتغيّر المكان الذي تشكل فيه فهي في أميركا تدل على الموافقة، ولكن في اليابان تشير إلى النقود. لكل عضو جسدي نبرته الخاصة في الخطاب، ولعل هذا ما دفع « ناتالي باكو» إلى القول:» ان مشيتنا تؤلف جزءا من هويتنا». ومن طريف ما يتناوله الكاتب اثر المهنة على لغة الجسد، فالمعروف ان الإنسان على الصعيد اللغوي لا بد له من ان يتأثر بمهنته كذلك تتأثر لغة الإشارات لديه بالمهنة التي يقوم بها. وهذا النوع من الدراسات طريف وسوف يقدم لنا معلومات ثرّية جدا عن لغة التواصل الجسدية. فهل لغة الأستاذ الجسدية حتى خارج قاعات الدرس هي نفسها التي يستعملها ضابط في الجيش مثلا؟ أليس لكلّ مهنة طريقة في استخدام الجسد؟ تساؤلات تحتاج الإجابة عنها إلى دراسات ميدانية مستفيضة ومصوّرة. والتصوير جزء أساسي في عملية التقاط وتحليل لغة الإشارات. وفي فصل دلالات الألبسة وإيحاءاتها يشير الكاتب الى كيف ان اللباس يشي بالانتماء الجغرافيّ او الديني او العرقيّ أو اللغويّ أو العمري. فكما لكل فترة عمرية نمط من الكلام والتعبير هكذا الأمر في ما يخصّ اللباس، ولكل مقام هندام. الكاتب وهو لغويّ ينطلق من منطلقات لغوية فيدرس الإشارات واللغة التي يتوسلها الجسد من منطلق الدالّ والمدلول. الدالّ الواحد ليس له مدلول واحد، وهذا التعدد في المدلول يفهم الإنسان بالفطرة قسماً كبيراً منه، وهو لذلك يستثمره في مآرب كثيرة منها: حال الشحاذ الذي يختار، بكل ما تحمله هذه المفردة من تعمّد، لباساً رثّاً او ممزقاً لأنه يريد توصيل رسالة تثير حالات عطف معينة لدى الرائي.
الإنسان يستخدم يديه للتعبير وهما من متممات الكلام اللفظي، وبعض الناس تصاب أفواههم بالخرس في حال قيدت أياديهم. والكاتب يشير إلى اهتمام العرب قديما في تسجيل كلّ حركات اليد ومنح أسماء مخصوصة لكل حركة، وهذا ما فعله الثعالبي في كتابه الغني «فقه اللغة»، حيث نرى انه خصص لليد بابا بعنوان «تفصيل حركات اليد وأشكال وضعها وترتيبها»، وتشمل اليد أيضا الأصابع، إن أي إنسان في حال انتبه إلى تصرفات جسده يدرك كمّ الكلمات التي يتلفظ بها جسده عفواً. والكاتب لا يكتفي بالجسد وإنما بعلاقة الجسد مع بعض الإكسسوارات او المتممات كالسيجارة والسبحة والعصا، حيث يتوقف طويلا عند دلالة السيجارة، وطريقة مدخنها في نفثه للدخان ودلالات ذلك على نفسيته. والمتمعن في علاقة المدخن مع السيجارة قد يلقط القلق او الفرح او الخجل او جملة متناقضة من العواطف التي يجيش بها دخان شفتيه. ويتناول أيضا علاقة الأصابع مع السبحة، ولا ريب في أن السبحة تستحق بمفردها كتابا قائما برأسه في عالمنا العربي لاستعمالاتها الكثيرة ودلالاتها التي تمتص أحيانا من توتر حاملها، وتكفي نظرة إلى علاقة الأصابع بحبات السبحة أو انتقال السبحة من يد إلى أخرى لرؤية حالات حامل السبحة؟ ويقف الكاتب عند دلالة العصا وتجدر الإشارة هنا إلى الكتاب الموسوعيّ الطريف الذي وضعه أسامة بن منقذ عن العصا. وقد ورد ذكر العصا في القرآن الكريم كما في هذه الآية الكريمة: «قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهشّ بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى». ومآرب العصا الأخرى جزء منها تواصلي. وكان الجاحظ يرى ان «المَخاصِر والعصيّ من مرافق الخطبة» والعرب كانت «تخطب بالمخاصر» بحسب تعبير الجاحظ، والمخْصرة نوع من العصي. ويستشهد الجاحظ ببيت شعر ورد فيه عبارة «وحْي المخاصر»
مجالسهم خفْض الحديث وقولهم إذا ما قضوا في الأمر وحي المخاصر
ويعتبر الكاتب ان طعن الشعوبية على العرب باستخدام العصي والخناصر إنما هو من باب اختلاف الثقافات.لأنّ الحركة المقبولة في ثقافة ما قد تكون مرذولة في ثقافة أخرى.
ومن الأمور التي يشير إليها الكاتب حدود المناطق الجسدية. حدودها غير مرئية، ولكن تكفي رؤية شخصين يتحاوران حتى ندرك من حركاتهما، من خلال التراجع والتقدم عن المسافة الشخصية لكل فرد.
ويخصص الكاتب فصلا للغة الإشارات في القرآن حيث يعمد قارئ النصّ القرآني إلى الدلالات الإشارية لبعض الأفعال أو التعابير لتجسيد صورة المعنى كما في الآية: «ثم ذهب إلى أهله يتمطّى» أو في الآية « فجاءته إحداهما تمشي على استحياء» وعبارة «على استحياء» تزود عين القارئ بمشهد حيّ يحدد نوعية المشية. وكان العرب في الجاهلية يعمدون إلى التخاطب بالأقدام، وهذا ما تظهره الآية الكريمة: «ولا يضربن بأرجلهنّ ليعلم ما يخفين من زينتهن».
من العبارات التي يستشهد بها الكاتب عبارة للغزالي يقول فيها «إنّ كلّ من طلب المعاني من اللفظ ضاع وهلك». وما يوضح بعضاً من عبارة الغزالي قول آخر لابن جنّي أحد كبار دارسي اللغة العربية نقلاً عن صديق له كان يقول: «أنا لا أحسن أن أكلّم إنساناً في الظلمة» لأنّ الظلمة تمحو لغة الجسد ومعالم البيان. والأقوال العربيّة المأثورة التي منها «ربّ إشارة أبلغ من عبارة»، أو«ربّ لحْظ أبلغ من لفْظ»، أو «إنّ الحوار لمأخوذ من الحَوَر» ليست إلا من قبيل التأكيد على أن بيان الإنسان ليس وقْفاً على اللسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق