السبت، 24 يونيو 2017

آثار أحمر الشفاه




النسيان نعمة هذا ما يعلنه القول المأثور، وهو صحيح في أحيان كثيرة ولكنه ينقلب أحيانا إلى كارثة ونقمة، وقد يتسبّب في خراب بيوت راسخة البنيان، وخصوصا انه ماهر في إخراج كلّ العفاريت الزرق، بيديه الخفيّتين، الخفيفتين، من قماقمها.

وثمّة حكاية لفتت نظري عن زوجين لا تشوب حياتهما أو حبهما أية شائبة. كانت أيامهما تجري رقراقة كأنهار العسل المصفّى، ولم يكن في قلب أيّ واحد منهما شكّ تجاه الآخر. والثقة أمان بخلاف الشكّ الذي يفتت الصخر ويعكّر صفو أنقى العلاقات.اعتاد الزوجان أن يفترقا، كلّ صباح، على قبلة. وكانا يعتبرانها كفنجان القهوة تنعش ساعات الفراق وأوقات العمل. والقبلة كانت عادية يغلب عليها طابع الحنان والمودّة. وكثير من الأزواج يتبادلون هذا النوع من القبلات الخالية من الدسم الأرجوانيّ!

ذات صباح، والرجل يهمّ بمغادرة البيت، انزلقت القبلة المعتادة إلى عنق الرجل انزلاقة بريئة. ولعلّ السبب في هذه الانزلاقة هو العطر الجديد الذي أهدته إياه زوجته عشيّة الليلة الأخيرة بمناسبة عيد ميلاده الأوّل من مرحلة حياته الجديدة.

عند انتهاء دوام العمل وهو في طريقه إلى البيت عرّج على أحد الصيّاغين لشراء هديّة شكر على عطر الأمس، خصوصاً أنّه من هواة المبادرات العطرة. قدم لزوجته عقد ذهب فسرّت به كثيراً. كانت عينا الزوجة تلمعان بالحبّ والفرح وهي ترى لمعة الذهب. وفجأة، انتفضت، تغيّر لونها، صار أصفر كلون اللؤم. قالت له والكلمات ترتجف من الغضب على شفتيها: أنت كذّاب. لم يكن يسمع هذه الكلمة منها إلاّ من قبيل المزاح أو الغنج الأنثويّ. وهو لا يكذب، حتى الكذب الأبيض لا يعترف به، ويستغرب تمويهه الخبيث بالألوان. يجد ان الصمت بديل نبيل عن الكذب. كان الكذب يطنّ في أذنيه طنين البرغش الذي يدنو من أذنيك وأنت في الفراش على وشك ان تغمض عينيك على حلم. فلم تتّهمه بالكذب؟ وراحت الخواطر السوداء تنهمر على رأسه كالدبابيس، حين سمعها تقول بصوت كالصراخ المجروح : أنت كذّاب، خائن، غبيّ. تكثفت صدمته. لم يعد يعرف ماذا يقول، ارتبكت الكلمات على شفتيه. ما بك؟ عن أية خيانة تتكلمين؟

قرّبتْ بيدين عصبيتين مرآة الجيب من وجهه وقالت له: انظر... انظر أيّها الوغد. انظر أحمر الشفاه. زاغت عيناه. ثمّة، فعلاً، أحمر شفاه على عنقه. ولكن كيف وصل إلى عنقه؟ شفتان مرسومتان بالأحمر، بين الأذن وقبّة القميص. ثمّة أمور تحصل ولا يمكن استيعابها. الشفتان الحمراوان شاهدان ملكان لا يكذبان ولا يمكن نكرانهما. حبيبتي، لا أعرف عنهما شيئاً. تعرفين أني لا أكذب. وعندي إيّاك بكلّ نساء الأرض. كل كلمة كانت تحفر في قعر ريبتها أكثر فأكثر. وتقول: حبيبتي؟! ماذا؟ أتستهبلني؟ أتضحك عليّ؟ أتريدني أن أكذّب عينيّ؟ أتيت بالعقد القذر لإخفاء عملتك الحمراء. لماذا تكذب عليّ؟ لماذا؟ وراح ملح دمعها ينهش أسيل خدّيها.

نفض ذاكرته نفضاً، توسّل كلّ ذرّة من ذرّاتها، حاول استدرار عطف الذكريات، ولكن دون جدوى. ظلّت ذاكرته خرساء، وكأنّها تسخر، في عبّها، من الموقف المتدهور بين الزوجين. كادت أن تصل علاقتهما إلى تلك اللحظة المدمرة المجنونة. لم يتذكر أبدا ان الأحمر الملعون على رقبته هو أحمر شفتيها هي. ولم تتذكر، هي أيضاً، ان الأحمر المشتبه به هو أحمر قبلة الصباح البريئة. كان الوقت كالجمر يحرق أعصابهما. ولا شيء يقدر على إنقاذ الموقف إلا ذاكرتها أو ذاكرته. كاد يجنّ، التهمة راكبته من" رقبته" حتى أخمص قدميه. من يخرجه من جحيم ظنونها، أو من الذاكرة الخائنة الماكرة؟

راح يسترجع كل لحظة من وقته في العمل، لم تعبر شفتان ساعات نهاره. وفيما هو منغمس في تباريح التذّكر إذ بقهقهة تطلّ من بين شفتي زوجته التي أقبلت نحوه وراحت تغمره بالقبل. تذكّرتْ أن أحمر الشفاه لم يكن إلاّ بصمات قبلة الصباح المنسيّة.

... وراحا معا يلعنان "نعمة" النسيان المفخّخة!



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق