هل كان آدم شاعراً؟
وإذا كان قد قرض الشعر فأين نطق به لسانه؟ أفي الأرض أم في السماء؟ أقبل الغواية أم بعدها؟ هل في شعره أوصاف فردوسيّة كتلك التي نراها في الشعر الأندلسيّ مثلاً؟ وشعر الطبيعة الأندلسيّ يجعل من الرقعة الأندلسية روضة فردوسية، بمائها وخضرتها، ولم يكن ينقصها إلاّ أنهار اللبن والعسل المصفّى.
يبدو أنّ بعض العرب لم يتحمّل فكرة أن لا يكون أبو البريّة شاعراً؟ أيعقل أن لا ينطق لسان آدم بالشعر، وهو باكورة الخلق؟ لم لا يكون أيضاً باكورة الشعر؟ ومن يقرأ في تراثنا العربي يجد عدّة قصائد بلسان آدم، وعلينا أن ندخل عالم الغرابة حتى يمكن لنا أن نتابع منطق من يقول إنّ آدم كان يتكلّم العربية، نثرَها وشعرَها. ولكن متى تفتّقت قريحة آدم الشعرية، قبل المعصية أم بعدها؟ هل الشعر ابن الأرض أم ابن السماء؟ علينا أن نتذكّر آراء النقّاد القدامى والشعراء أيضاً أو، على الأقلّ، بعضهم الذي يرى أنّ الكلام الذي يخرج من لسانه ليس كلامه إنما كلام كائن آخر، من وادي عبقر! وُضع، من غير أن يكون له في الأمر يد، على لسانه.
استيقظ آدم ذات صباح فردوسيّ ووجد بجانبه حوّاء ومع هذا لم يثر حضورها البهيّ والغضّ العاري لسانه على إنشاد الشعر! وكانت فرحة آدم لا توصف، تحوّل بحضورها إلى إنسـ(ان)، إذ يقال إنّ كلمة إنسان، وهي لحسن المصادفات تنتهي بألف ونون، أي تنتهي بعلامة المثنّى، ما كان لها أن تولد لو لم تخلق حوّاء التي أهدت آدم الأنس الفردوسيّ، ولكن إلى حين.
متى قال آدم الشعر؟ الذين وقفوا على قصائد آدم الثعلبيّ في كتابه الممتع، سرديّاً على الأقلّ، " قصص الأنبياء أو عرائس المجالس"، والمعريّ أيضاً في كتابه البديع "رسالة الغفران" الذي لم يعرف العرب قيمته لو لم يُشِرْ رجالات الغرب إلى احتمال أن يكون ثمّة رابط بين "رسالة الغفران" و" الكوميديا الإلهية" مفخرة الأدب اللاتيني لدانتي أليجييري. ويمكن أن ترى قصائد آدم في كتب أخرى، منها "تاريخ الرسل والملوك" لابن جرير الطبريّ، و"جمهرة أشعار العرب" لأبي زيد القرشيّ، و"مروج الذهب" للمسعوديّ.
ولكن أيّ نوع من الشعر تفوّه به لسان آدم؟ هل قال الشعر الغزليّ في جدّتنا حوّاء؟ لا أثر لحوّاء في شعر آدم، ولا أثر أيضا للمديح، من يمدح في الجنّة؟ هل نطق بالهجاء؟ ليس في مأثور آدم الشعريّ ما يدلّ على أنه هجا إبليس الخنّاس أو الحيّة ذات اللسانين!
الطريف في أمر القصائد الآدميّة أنها بنت الأرض والدم وليست بنت الفردوس. كان لسان آدم في الجنة عاجزاً، فيما يبدو، عن قول الشعر، الفردوس شغله عن الشعر، والأفراح الفردوسيّة تعاش ولا تقال، لذا منعت لسانه من تذوّق الشعر، أو أنّ لسانه كان مشغولاً بتذوّق الثمرة المحرّمة.
إذاً، أين قال الشعر؟ في الأرض الغبراء. الشعر دنيويّ، أيّاً كانت روحانيّاته. والفردوس، على ما يقول أبو العلاء المعرّي، لا ينجب الشعراء. ولكن متى ولدت القصيدة على شفتي آدم؟ هل نطق بشعر التوبة كما فعل حفيده أبو نؤاس في أواخر أيامه؟ حيث أبدع أيّما إبداع في شعر التوبة الرقيق الذي حمل البعض إلى اعتبار أبي نؤاس كان فاسقاً فترة طويلة من حياته ولكن في شيخوخته تاب وتحول إلى متصوّف، عابد، زاهد في لذائذ الدنيا ومحرّماتها بعد أن فقدت طعمها على لسانه. لم تشغل التوبة حيّزاً من شعر آدم، ولعلّ السبب هو نيله صكّ التوبة من ربّ العالمين بحسب ما ورد في الآية الكريمة: "فتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه. إنّه هو التوّاب الرحيم"(سورة البقرة، الآية:37).
حرقة الثكل هي من أوقد في قلبه جمرة الشعر. إنّ قابيل هو الذي حثّ لسان آدم على الرثاء، رثاء هابيل أوّل شهيد ساح دمه على الأرض! الشعر ابن الفجيعة والفقد والغياب وليس ابن الحضور أو الحبور. لم يحزن آدم على انزلاق الفردوس من تحت قدميه بقدر حزنه على فقد فلذة كبده هابيل الذي قضى على يد ولده. وليس أصعب من أن يعيش المرء بين نارين تشبّان في روحه وجسده. القاتل والقتيل عيناه. كيف يجرؤ قلب أب مثكول على الثأر من قاتل خارج من صلبه؟ لم يستطع آدم أن يخمد نار أحزانه إلاّ بالشعر، فقال من قلب محروق:
تغيّرت البلاد ومن عليها فوجهُ الأرضِ مغبرٌّ قبيح
تغيّر كلّ ذي لون وطعم وقلّ بشاشة الوجه المليح...
أهابيل! إنْ قُتلتَ فإنّ قلبي عليك مكتئبٌ قريح
أرى طول الحياة عليّ غمّاً وما أنا من حياتي مستريح
هل هي مصادفات "سفر التكوين" التي جعلت من الرثاء أوّل ثمرة نضجت على لسان آدم بعد أوّل عمليّة قتل شقيق على يد شقيق؟
أليس ما يدعو للحيرة أنْ تكون" فاتحة الشعر العربيّ" مرثيّة آدميّة لم تر في وجه الأرض غير الغبار الدامي؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق