الأحد، 18 يونيو 2017

عروس المتنبي


دخل التاريخَ العربيّ، والشعرَ أيضاً، نداءٌ خرافيّ الأصداء خرج، ذات فاجعة، من شفتي امرأة عبّاسية. ونداؤها كان مقروناً باسم خليفة من الخلفاء العباسيين، وهو المعتصم الذي لبّى نداء المرأة (وامعتصماه)، وكان فتح عمّورية ترجمة قانية لندائها. ولعلّ الفضل في بقاء صرخة المرأة، طازجةً، يعود للشعر أكثر ممّا يعود للسياسة أو للعسكر، أي ربّما كان الفضل يعود إلى أبي تمّام الشاعر العربيّ الكبير، رجل المجازات المدهشة والاستعارات الغريبة. ولكن ليس غرضي أنْ أتناول شعر أبي تمّام ولا حياة المعتصم. إنّما هي توطئة لتعليق على بيتٍ لشاعر آخر هو المتنّبي. أحببت الإشارة إلى أبي تمّام فقط للقول إنّ بيت المتنبّي لم يكن فريد القسمات والملامح وإنما هو سليل نمط من النظر إلى الأشياء يسبق قول أبي تمام نفسه الوارد في قصيدته "فتح عمّورية" ذات المطلع الباسق. 

السيف أصدق إنباءً من الكُتُبِ          في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللَعِبِ.

وأشير فقط إلى أنّ الشاعر يرى وجه شبه خفيّ وغريب بين الخرائب والحرائق المندلعة من مدينة عمورية وربع ميّة المعمور المتألّق – ولاسمها المائيّ صلة ضدّية بالحرائق- ويرى في اللهب الأحمر خدود صبايا خفرات، فيقول:

مَا رَبْعُ مَيَّةَ مَعْمُوراً يُطِيفُ بِهِ               غَيْلاَنُ أَبْهَى رُبىً مِنْ رَبْعِهَا الخَرِبِ
        ولا الْخُدُودُ وقدْ أُدْمينَ مِنْ خجَلٍ               أَشهى إلى ناظِري مِنْ خَدها التَّرِبِ

في شعرنا العربي كثير من الأبيات التي تقوم على توليف المتنافرات وتأليف ما بينها بحيث إن قراءتها تستولد الدهشة والاستغراب من جرأتها على تشكيل المعنى الشعري وفق هوى النفس. متصفح المكتوب العربي سيقع، لا ريب، على عدد ضخم من الصور الطريفة المعبرة عن ذاتيّات كاتبيها. نرى ذلك في بيتَي أبي تمام الولوع بتنافر الأضداد. سأكتفي،هنا، ببيت المتنبي باعتباره عينة لا أكثر. وشاعرنا ذو مهارة جبارة مستلّة من طينة ذاته في خلق الصور وبثها في تضاعيف شعره المجلجل، الرنان. والبيت من قصيدته الميميّة في سيف الدولة التي مطلعها:

على قدْرِ أهْلِ العزْم تأتي العزائِمُ    وتأتي على قدْر الكرامِ المكارمُ.

والبيت هو:

نَثَرْتَهُمْ فَوْقَ الأُحَيْدِبِ نَثْرَةً          كما نُثِرَتْ فوق العروس الدَّراهِمُ

الضمير"هم" في" نثرتهم" يعود إلى جثث الأعداء أيْ أنّ الصورة التي تنبثق منها مفردات هذا البيت تقوم على علاقة ضدّية غريبة الدلالات ظاهراً. فمن ناحية، ثمة القتلى المنثورون فوق الأحيدب وهو اسم جبل، ولا يخلو المكان من لون الدم المسفوك، ومن ناحية أخرى، ثمّة العروس وثوبُها الأبيض الفضفاض الذي تنثر عليه الدراهم. كيف اجتمعت وتكوّنت هذه الصورة المتنافرة في خيال الشَّاعر؟

هل كان خيال المتنبي ساديّاً حين صاغ من هذه المتنافرات بيتا شعرياً شديد الغرابة والواقعية في آن؟ كيف تولد الانسجام من هذا التنافر الدلاليّ بين الأبيض والأحمر؟ وأين يكمن وجه الشبه بين العروس ورؤوس القتلى؟

علينا أنْ نتأمّل المشهد الشعريَّ بعينيْ أبي الطيّب نفسِه إذا ما أردنا أنْ نرى في الصورة ما رآه الشاعر من تناغم وانسجام وصدق في وجْه الشبه. فالقتلى هم من الطرف الآخر، وقتلهم يعني انتصاراً، وفي الانتصار غبطة ونشوة وكلّ دلالات الحبور. العروس تحمل في المخزون الخياليّ والنفسيّ للرجل النشوة والجمال. من هنا ندرك أنّ الصورة المشهدية التي أتحفنا بها المتنبِّي لم تكنْ تعبّر عن الواقع المرئي بقدر ما كانت تعبر عن الواقع النفسيّ الذي كان يعيشه المتنبّي لحظة الانتصار، وهو واقعٌ منتشٍ بمشهد الدم ومنظر الجثث والرؤوس المتطايرة كالدراهم فوق جبل له شكل ثوب العرْس الأبيض. من يتخيّل، في أيّ حال، ثوب زفاف كامد الألوان؟ والجبل يحمل لزيادة حدّة المشهد اسماً دالاًّ على غير صعيد-  أغلب الأسماء في الكتابات الفنية الفذّة ليست جاهزة وإنّما مفصّلة على مقاس غايات النصّ- فهو من جهة، ورد في صيغة التصغير ليوحي بضيق المكان على رحابته، وهو، من جهة أخرى، اسم يتضمّن في الدلالة اللغويّة لصيغته الراهنة ولجذْره على السواء تشويهاً مضاعفاً: تشويه تصغير وتحقير وتشويه خلْقة. 

إنّ القبح، قبح منظر القتلى ومشهد الدم، شبيه بجمال تشرق أنواره من طلّة العروس. هذا القبح يخدم، في نظر الشاعر، هدفاً نبيلاً وجميلاً، والهدف هو الذي يحدّد طريقة النظر، ويعدّل من معنى المشهد، وعليه يغدو هذا القبح الأحمر جمالاً فاتناً بهيّاً يستدعي بدوره حضور صورة تلائمه وتمثّله خير تمثيل وهي، هنا، صورة عروس متلالئة ببياض ثوبها ولمعان الدراهم المنثورة فوقها.

ومن هنا يبدو أنّ المعنى لا يكتمل أحياناً إلاّ باستشفاف الحالة النفسيّة والشعوريّة للقائل لأنّها هي التي تنتقي المفردات وتنتقي الصور وتدمج بين المتنافرات دمجاً حميماً كما تؤلّف بين الصور التي ليس لها، إلاّ على مستوى الظاهر، ذلك التنافر الصارخ، وهو تنافر قد يخدع النظرة الأولى، وهي- أي النظرة الأولى- حمقاء، كما كان يقول الخطيب القزوينيّ صاحب " تلخيص المفتاح".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق