الاثنين، 26 يونيو 2017

الغليون في حياة الناس



الحديث عن الغليون يدخلك الى متن التبغ روح الغليون . فللغليون تاريخ طويل وخصائص تتعلق بتقاليد الشعوب مما لا تملكه السيجارة الا ان صلة الوصل بينهما هي التبغ. وقد تكون تدخن وقد لا تكون ولكن بينك وبينه التبغ في اغلب الاوقات علاقة ما. وصاحب العلاقة المباشرة مع التبغ يترك لحواسه الخمس ان تشارك في قطف اللذة طالما انه متعدد الاستعمالات فقد يشرب وقد يرشف  كالقهوة على مهل.

يروى ان الملكة الفرنسية كاترين ده مديسيس كانت تنقع اوراق التبغ وتشرب السائل التبغي. وقد ينشق كما كان يفعل الكاتب مارون عبّود في "نشوقه" أو كما كان يفعل فلايدريك بروسيا الثاني  الذي  كان يملك 1500 علبة نشوق وقد يمضغ كورق القات اليمني.

السيجارة حاليا هي الاستهلاك الاكثر رواجا وشيوعا ولكنها لا ترضي كل الاذواق فثمة النارجيلة وهي ، في تسميتها العربية، غليون مائي تجمع بين العدوين اللدودين الماء والنار، فكل منهما يمحو الاخر الا في دنيا النراجيل حيث ينتعش الجمر بجوار الماء بفضل الكركرات المائية وحيث تتحد الاضداد وتتعانق لتوليد لذة شرقية على اطراف الشفاه. وهناك طبعا الغليون وهو موضوع حديثنا ويمثل اختلاط النار بالخشب، وفي الامر بعض الغرابة، طالما ان الخشب مادة قابلة للاشتعال ورغم ذلك فان الغليون يحتضن النار دون ان يحترق الخشب. يقاوم النار يفنيها ولا يفنى.

التدخين مضر بالصحة ولكن نجد الانسان ولوعا بما يضرّ، فما السبب؟ ومتى اكتشف الانسان هذه اللذة المقيتة التي يقع اسيرا لها فلا يقدر، من بعد، على تركها الاّ بشق النفس؟ هي بالتأكيد عادة جاءت مع اكتشاف النار لانها محتاجة الى النار حتى تترعرع اللذة، وهي، اي النار، فاصل حضاري بين النيء والمطبوخ على ما يقول علماء الانتروبولوجيا.

وهذا ليس عبثا بقدر ما هو قراءة لصلة الوصل بل صلة الرحم بين الانسان والنار. وهل التبغ  الذي يحترق على الشفتين غير عملية بلع للنار؟ وفي العربية كلمة معبرة جدا عن واقع هذه الصلة وهي كلمة "حميم" ذات المعنى  المزدوج فهي تعني نار جهنم، من جهة، ولكنها من جهة اخرى، وصف لعلاقة حميمة بين شخصين؟

التبغ صار كالقهوة والشاي لا مفر منه الا بالف جهد. ولا بد من لمحة عن التبغ لفهم الدور الديني اوالاجتماعي للغليون  فهو لا ينفصل عن التدخين بل يعتبر  الوجه الارقى لهذه العادة الحارقة. فهو ذو جذور دينية، وطقوسه تعود الى الاف السنوات وقد ارتبط اتباطا  متينا بتلك الطقوس  فالذين درسوا النبتة دراسة انسانية واجتماعية لاحظوا انها وريثة القرابين التي كانت تقدم للالهة بل ان بعض القبائل كقبيلة "مايا" كانت تعتبر التدخين نوعا من التماهي مع الالهة، ورغبة مكنونة في كسر العجز البشري بل ذهبت الى ما هو ابعد من ذلك  حين اعتبرت ان "شاكمول" اله المطر والخصب في معتقدها كان يدخن (وهنا ايضا ارتباط وثيق بين الماء والنار) وتستدل هذه القبيلة على صحة معتقدها بادمان "شاكمول" على التدخين من خلال الظواهر الطبيعية التي تتناثر في الفضاء. فالغيوم الحبلى بالمطر ليست الا الدخان الذي ينفثه "شاكمول" من شفتيه ومنخريه والدخان كان  امتيازا للكهنة وفرسان القبيلة؟( اي حماة الارواح والاجساد معا) وما زالت له الى الان سطوة سحرية عند المشعوذين والمنجمين حيث ترى الدخان يعبق في غرفة المنجم، وكانما ذلك توكيد لاصله الديني او الاسطوري الاول.

اما الغليون بحد ذاته فله اثر سحري كما عند قبيلة "باوني" في اميركا الشمالية.  وهو ليس حكرا على الرجل فقط ففي افريقيا هو للرجال والنساء على السواء.

وكان ثمة غلايين جماعية يستعملها الهنود الحمر وهي عبارة عن حفرة في الارض مليئة بالتبغ يتحلق حولها رجال القبيلة، وفي يد كل فرد انبوب يمتص به الدخان. وكان الغليون كذلك بطاقة هوية عند بعض القبائل بل يعرف الانسان عدوه من شكل الغليون الذي كان بمثابة ورقة طلاق عند قبيلة "بنجوراس" القاطنة في جنوب اوغندا. فالمرأة هناك تقوم بالاعتناء بغليون زوجها وتنظيفه وحشوه ووضعه في مكان امين. وحين يريد تطليق زوجته يغير مكان الغليون  يضعه في مكان بشكل يعرضه للسقوط والكسر واذا ما سقط وانكسر وقع الطلاق.ولا يمكن  ساعتئذ للحياة الزوجية ان تستعيد حياتها الطبيعية  الا بقيام اهل الزوجة بشراء غليون جديد للرجل الغاضب. فللغليون عدة وظائف فهو رمز الضيافة والتكريم وقد ينتقل الغليون من فم الى فم كما يتعامل البعض مع "نبريش" النرجيلية.

وفي كثير من المتاحف نجد الغلايين التي تحكي سيرة القبائل خصوصا ان عددا من القرارات الحاسمة عند بعض القبائل الحمر كانت لا تؤخذ الا في جلسة غليونية. وكان القرار الاخير في يد الغليون وذلك يتم باشعال الغليون ورفع ادعية الى السماء بل الغليون وسيط القبيلة إذ  يدور  حامل الغليون حول حلقة رجال القرار وكل الانظار متجهة الى الغليون فاذا ما سقط ارضا من يد حامله اصيبوا بخيبة امل لان ذلك يعني ان الالهة غير راضية عنهم وانها لا تريد ان تستلم رسائلهم الدخانية.

اما طريقة انتقال الغليون الى العالم الغربي فان ذلك قد تم على يد كريستوف كولومبوس هذا المغامر البحري الذي حمله معه من عند الهنود الحمر ويروي كريستوف في مذكراته انه حين وصل الى ارخبيل الباهاماس لفت نظره دخان يخرج من افواه الناس وانوهم فدفعه الامر الى تجريبه ومن ثمّ تابط النبتة وعاد بها الى اوروبا. ويذكر ان اول غربي عوقب على تدخين التبغ هو رفيقه البحار "رودريكو ده خيريس" اذ انه اراد ان يجرب غليونه الذي حمله الى اسبانيا فحكمت عليه محاكم التفتيش لمدة عشر سنوات بتهمة ممارسة السحر فهو يخرج الدخان من فمه وانفه مما لم يعتده اهل اوروبا من قبل.

يقال ان اول من قام بزرع نبتة التبغ في الغرب هو الراهب رامون بان الذي ذهب الى هايتي عام 1496 في حملة تبشيرية. علاقة النبتة بالراهب لا تخلو من مسحة دينية!

في اواسط القرن السادس عشر كانت هذه النبتة قد بدات تتاقلم مع التربة الغربية فدخلت عادة التدخين بالغلايين الى كل البلدان بل فتحت معاهد لتعليم فن التدخين كما فعل اخد سكان لندن حين علق على كاتدرتئية سان بول اعلانا مفاده انه يعطي دروسا في كيفية استعمال الغلايين ولقد دخلت نبتة التبغ الى البيوت للزينة كما دخلت باريس عام 1560على اساس انها نبتة طبية على يد الطبيب الفرنسي في برشلونة "جان نيكوت" الذي اشتق لفظ النيكوتين من اسمه. ولقد صارالنيكوتين جزءا من حياة الناس، وتحول الى رمز لاشياء كثيرة اذ انه كان من الصعب استئصال كل موروث الغليون الميثولوجي، ففي هولندا مثلا وخاصة في غودا التي اشتهرت في صناعة الغلايين اخذ الغليون دورا اجتماعيا مميزا لا سيما في شؤون الحب والزواج، وغليون اليوبيل الفضي والذهبي للزواج. في الخطبة يشتري الخاطب غليون الخطبة ويطلب من الفتاة ان تشعل له غليونه كدليل منها على موافقتها فهو لا يحتاج للتصريح اللفظي. الغليون يقوم بدور الرسول، ولكن الزواج يتم وفق مراحل ثلاث ، اشعال الغيون من قبل الفتاة للمرة الثالثة هو الاعلان الرسمي عن قبول العريس ويوم الزفاف يهدى للعريس غليون العرس.

في المانيا تدخين الغليون كان من مواصفات الرجولة، في القرن التاسع عشر. اما في فرنسا فان الغليون ابان الثورة الفرنسية اخذ طابعا سياسيا فكان الغليون يعبر عن موقف سياسي كما اشتهرت الغلايين ذات المحارق الدالة على ابطال الثورة.

في القرن العشرين خلال الحرب العالمية الثانية كان الغليون يحل محل الرسائل السرية، وضعيته في الفم او في اليد توقيت خفيّ لموعد او تاخير لموعد حسب ما يذكر الكاتب "بيار نورد". وفي بريطانيا حاول هارولد ويلسون زعيم حزب العمال اقناع خصمه السياسي بتدخين الغليون للمساهمة في تقريب وجهات النظر بينهما.

في اي حال التبغ والغليون دخيلان على المجتمع الاوروبي واديا الى نوع من خلخلة الوضع السائد، فهناك من وقف ضد التبغ واعبر النبتة شرا اتيا من العالم الجديد. وكان صاحب الغليون في البدء منبوذا ومهددا فالعقاب صارم يصل احيانا الى حد القتل يذكر مثلا الكاتب الالماني كواشيم فرانك ان السلطان العثماني احمد الاول كان يأمر بجدع انف المدخنين ثم يدار بهم في الازقة واعناقهم مربوطة بالحبال اما السلطان مراد الرابع فانه امر بقطع رؤوس المدخنين. وفي روسيا اقر القيصر ميخائيل فيدوروفيس منع بطرس الاكبر الذي لقب لفرط ولعه بالغلايين بصديق الغلايين.

والغليون قبل ان ياخذ شكله الخشبي العملي كان يصنع من الآجر والخزف ولكن هشاشة هاتين المادتين جعلت الناس تفتش عن بديل لحل مشكلة الهشاشة، فالمعدن حارق لا يحل المشكلة،  ودوره للتزيين اكثر مما هو للتدخين.التفتوا الى الخشب خشب الزان والجوز والقبقب والدردار بل ان الافارقة كانوا يستعملون ورق الموز يلفون الورقة في شكل القمع ويغرزون فيها انبوبا. ولكن الغليون لم ياخذ شكله الرسمي الا من جذور جنيبة الخلنج والمعروف عن هذه الجنيبة انها لا تدجن فهي برية تنبت وفق مذاقها وترفض الاقليم الاصطناعي ولا يستعمل منها الا جذورها لصناعة الغلايين. تستخرج مع حلول فصل الشتاء وتحفظ في مكان رطب لفصل الصيف. تقطع الجذور وتسلق لطرد الاصماغ  والانساغ المتبقية في جوفها وتجفف عدة اسابيع قبل ان يعمد الى تشكيلها النهائي.

باي شيء يمتاز الغليون عن السيجارة؟  وهل الوظيفة واحدة؟ سؤال لا يطرحه  فقط رجال الاعلان لغزو الاسواق بل يطرحه ايضا علماء الاجتماع وعلماء النفس في الغرب. الغريب في الامر ان الغليون عند الشعوب البدائية  كان هو السائد يستخدمه الشاعر والساحر والانسان العادي، فكيف تمت هذه النقلة الطبقية وكاد ان يصير حكرا على طبقة معينة؟

كثيرون درسوا وجوه الخلاف بين طرق التدخين، عقدوا مقارنات وربطوا التدخين بالعصر، قالوا ان الزمن الراهن هو زمن السرعة، وزمن الشندويس والسيجارة تؤدي دورها في  زمن السرعة هذا، تتاقلم مع السرعة، مع الشارع، البعض قارنها بالشندويش فهي تدخن على الماشي، كما تؤكل السندويشة على الماشي، تاكلها لتسد جوعك، والسيجارة وجبة سريعة حاضرة جاهزة للاحتراق وتلبية رغباتك. تمنحك لذة فقدت بريقها يشعلها المدخن في اي وقت، وكيفما اتفق، دونما طقوس. في حين ان الغليون هو وجبة دسمة. وعلاقة مدخن السيجارة بسيجارته علاقة انية الية تنطفىء بانطفاء السيجارة وطبيعة السيجارة شبيهة بطبيعة الحياة الراهنة حيت العلاقات هشة وعابرة وانية.

يحلو هنا لعلماء النفس ان يقولوا ان مدخن السيجارة يحسد ضمنا مدخن الغليون لانه يقدر ان يتحدى السرعة يعبىء محرقة التبغ على مهله، يتحسس الغليون، يجس نبضه، غبر مبال بوطأة الزمن السريع.

الولع بتدخين الغلايين هو رغبة خفية في الهروب من الزمن الضاغط، والغليون ليس طيعا كالسيجارة وهنا مكمن لذته، هو كالنارجيلة الى حد كبير، يحتاج الى وقت، والى جهد، والى فراغ. ليس بالضرورة فراغا مقيتا فالراحة طلب جسدي ومطلب روحيّ ايضا.

في الغرب قبل تكاثر المقاهي كان هناك اماكن لتاجير الغلايين كما في بعض المقاهي العربية حيث تؤجر النراجيل كانوا يتحلقون ويمارسون حرق التبغ ( كانهم يستعيدون دور الغليون الهندي في قبائل الهنود الحمر) والآن في اوروبا توجد نواد خاصة بمدخني الغلايين، يوحد بينهم حبهم للغليون. ومدخن الغليون يشعر هناك ان نسبا فريدا يربط بينه وبين مجهولين قد لا تربطه بهم الا هذه الرغبة الغليونية.

يحاول كثير من المدخنين للسجائر بناء علاقة مع الغليون، فيشتري ال"مسوجر" غليونا يجربه، يسقط في التجربة ونادرا ما يستمر، يستعين بالسيجارة على اخماد رغبته النيكوتينية ويعترف بفشله في تدجين الغليون العصي.

الغليون ليس كالسيجارة ليس غرضا للرمي فما ان تنتهي مهمته حتى يعود الى جيب صاحبه وقد يبقى في يده يتلذذ بملامسته وملاسته. فمدخن الغليون يعتمد على حاسة اللمس يده هي التي تقرّر، فلكل يد ما يناسبها. وتصبح احيانا علاقة المدخن بغليونه غلاقة حميمية، وفي اللغة الفرنسية تعبير دال على متانة العلاقة بين الطرفين، وهو "كسر غليونه" اي قضى نحبه، الغليون حياة.

كتاب كثيرون يفضلون الغليون على السيجارة ، ويبرّر البعض ذلك في ان الغليون يتأقلم مع الفم ويترك لليد حرية الحركة.الكاتب يحتاج الى يده اكثر مما يحتاج الى فمه، في حين ان علاقة السيجارة بالفم ليست على ما يرام، فنادرا ما رأيت مدخنا يترك لفافة التبغ في فمه الى تلفظ أنفاسها الأخيرة على شفتيه، اما الغليون فانه لا ينتهي وهو قد يتحول الى ذكرى ولكنه لا يتحول الى عقب سيجارة مصيرها الدفن في منفضة!


ملحوظة: كتبت هذا المقال ونشرته في باريس

 في مجلة الفرسان العدد 659

 الصادر: الاثنين 17 ايلول 1990.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق