الثنائيّات جزء من صلب الحياة، فهناك الليل والنهار،
والذكر والانثى، ولكن هذه الثنائيات ليست ثنائيات صارمة، فالنهار ينبثق من قلب
الليل، والليل ينبثق من قلب النهار. والذكورة لا تخلو من بعض الأنوثة، والأنوثة لا
تخلو من بعض الذكورة، من دون أن يكون في ذلك طعن في ذكورة أو أنوثة. وثمة آية
كريمة تتناول تماسّ الأضداد تقول: " تُولِجُ
اللَّيْلَ فِي الْنَّهَار،ِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، وَتُخْرِجُ
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ " (
آل عمران/ 27 )، وهذا ما يشير اليه رمزٌ صينيّ شهير جدّاً، يعرف بالين واليانغ yin yang،
وهذا الرمز البسيط يمثّل جوهر الفكر الصينيّ، وجوهر الحياة نفسها، جوهر الحياة بما
في ذلك الوجه الآخر لها أي الموت.الاسماء تحمل بذور اضدادها في كلّ حرف من حروفها،
فالشيخوخة بذرة تحتضنها الطفولة، والليل آخر مسار النهار.
لقد اتّخذ هذا الرمز الصينيّ شكل الدائرة المقسومة
بدورها الى شطرين يرمز كل شطر منهما الى الحركة المستديمة، وفي وسط كلّ شطر دائرة
صغيرة من لون الشطر المخالف لها وهي بمثابة نواة التحوّلات القادمة، ممّا يعني أنّ
الاضداد تتلاقى وتتوالد من بعضها بعضاً وتتحوّل بشكل مستمر، تحوّل بطيء، صامت،
خفيّ، قد لا تلحظه العين الاّ بعد وقت، ولكنّه لا يتوقّف لحظة عن التحوّل. لا أحد
ينتبه إلى حركة عقرب الساعات بخلاف عقرب الثواني مثلاً، ولكن من بإمكانه أن يجزم
أن ما لا تراه العين يتحركّ - وهو عقرب الساعات- لا يتحرّك. العين خدّاعة ومن هنا
قول يزداد صواباً، يوماً بعد يوم، لحكيم الصين كونفوشيوس يقول فيه:" لا تصدّق
نصْف ما تراه عيناك".
وجدت أنّ هذا الرمز السيّال والمتحوّل يمكنه أن ينطبق
على اللغة انطباقاً تاماً من حيث طبيعة اللغة الثنائية. فاللغة تكتظّ بالثنائيّات،
فهناك الصوت والمعنى، ثمّ المعنى الذي ينشطر بدوره الى شطرين: المعنى المجازيّ
والمعنى الحقيقيّ. وحركة المعنى من المجازيّ الى الحقيقيّ، ومن الحقيقيّ الى
المجازيّ كحركة الين واليانغ حركة دائبة لا تتوقّف، كما ان في قلب كلّ حقيقة لغوية
مجازاً ينتظر البزوغ. وثمّة عبارة للغويّ العربيّ الفذّ ابن جنيّ يقول فيها:"
إنّ أغلب اللغة مجاز"، وهذا صواب إلى حد بعيد. ولكن ما هي حقيقة المعنى
الحقيقيّ؟ وما هي حقيقة المجاز؟ إنّ من يتأمّل حركة الدلالات يكتشف أنّ الثبات في
مسائل المعنى وهْم من الأوهام، والدراسة التاريخيّة لدلالات المفردات تكشف لنا من
خلال خطّها البيانيّ الشديد التعرّج كيف أنّ الحدود بين الحقائق والمجازات هشّة
للغاية، فما يكون حقيقة من الحقائق في زمن من الأزمان قد يغير من مجراه اكتشاف غير
لغويّ يغيّر من مصيره اللغويّ، اللغة طينة لزجة تنتقش فيها تصاوير ما يحدث في هذا
العالم، فكلّنا نقول إلى اليوم " طلعت الشمس" مثلاً، العين ترى أنّ
الشمس تتحرّك، طالعةً نازلةً، في كبد السماء ، الا ان العلم اكتشف ان الشمس لا
تتحرّك، ومع هذا ظلّت العبارة هي هي، لم يتغيّر منها حرف واحد، ولكنّ معناها نسف
من أساسه. طرأ على حياة العبارة تغيير جوهريّ، نقلها من حيّز الحقيقة، على السنة
الناس، إلى حيّز المجاز. وقد تجد من يتعامل مع عبارة " طلعت الشمس" على
اساس انّها حقيقة كونيّة لا مجاز لغويّ فما يكون منك إلاّ أن تشكّ في سويّة ذهنه. وقد
نشهد تحولّات عبارات من حقيقتها الى مجازيتها، وقد تكون بسيطة، او تافهة، ولكن
اللغة لا تتحمّل وزر التفاهة، وسأعطي
مثالاً حيّاً عن لحظة تتحوّل فيه حقيقة بعض التعابير إلى مجاز يبدأ يشقّ طريقه
أمام عينيك. اكتب الآن هذه الكلمات من غير ان استعين بالقلم، أو ان يكون هو الوسيط
بين الفكرة والورقة، الورقة التي اكتب عليها الآن ليست ورقة، هي ورقة مجازية،
افتراضية، والقلم لم يعد قلماً صار لوحة مفاتيح وملامس أبجديّة، تخرج هذه الكلمات الى النور من دون ان تستعين
بخدمات القلم، لم يعد لها حاجة إلى وسيلة قلم. و"الوسائل رسائل" على
قولة عالم الاتصالات مارشال مكلوهان. ما جعلني أتناول هذه النقطة القلميّة هو
قراءتي ذات يوم العبارة التالية "بقلم فلان" في رأس مقال، وانا أعرف
تماماً أنّ الكاتب صاحب المقال قد توقف عن كتابة مقالاته بالقلم من وقت ان حضر
الحاسوب، ولا تزال عبارة " بقلم..."
تسبق اسمه. ان عبارة " بقلم..." بالنسبة له لا تمت الى الحقيقة
بصلة من الصلات، عبارة انهارت حقيقتها أمام النقرات على لوحة المفاتيح، ولكن
بالنسبة لغيره قد تكون حقيقة مائة بالمائة، ثمّة كرّ وفرّ دائمان في ميدان الكلام
بين اللغة والمجاز. ومن الطريف جدّا مطاردة التحوّلات التي تعيشها المفردات، تعيش
الكلمة في كنف الحقيقة لفترة تطول او تقصر، ثمّ تكتسب، لظرف من الظروف، معنى
مجازيّاً ويكون للمعنى المجازيّ الغلبة على المعنى الحقيقيّ ثمّ مع كثرة الاستعمال
يتحوّل المجازيّ من فرط رسوخه إلى معنى حقيقيّ لا يخطر ببال من يعبر عينيه أو
أذنيه أنّه معنى غير حقيقيّ. فمن يخطر بباله، مثلاً، أنّ جذر" هلك"
يعني، في الأصل، "السير على القدمين"، والهلاك بمعنى الموت ليس إلاّ
معنى مجازيّاً اشتدّ عوده وتحوّل بحكم الشيوع الى معنى حقيقيّ توارى خلفه المعنى
الحقيقيّ الأوّل؟ وحين يتحوّل المعنى المجازيّ إلى معنى حقيقيّ يسعى مجدّداً لأنْ
يكون له مجازه الجديد لأنّ جناح الحقيقة اللغويّة
وحده لا يرفرف.
مقال من كتاب " لعنة بابل"
تأليف: بلال عبد الهادي
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق