الاثنين، 26 يونيو 2017

مصائب قوم المتنبي

لكلّ لغة أمثالها التي تعيش معها، وتخرج في المناسبات من أفواه الناس لتعزيز موقف أو إبداء رأي أو إسداء نصيحة أو تفنيد فكرة. ومن مهارة الأمثال والأقوال المأثورة انّها تتخلّى عن السياق التي وردت فيه. فكلّنا نستعمل القول المأثور" مصائب قوم عند قوم فوائد" على سبيل المثال، ولا يمكن لأحد ان يحدد عدد المناسبات التي أدرجت فيها هذه العبارة. وإذا سألت من يستعمل هذا القول عن صاحبه لقال لك : "لا أعرف"، أو "لا يعنيني أمر القائل ولكن يعنيني القول". وهو في هذا محقّ، ففي ميدان الأقوال المأثورة لا قيمة كبيرة للقائل الذي يتوارى اسمه في الظلّ.
ولكن شاءت المقادير أن يكون قائل هذا القول معروف من عدد كبير من الناس من غير أن يعرف الناس أنّ هذه العبارة من بنات أفكاره، وهو الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وأقصد المتنبّي. ومن خلال هذا المقال سأتناول بعض الجوانب اللغويّة التي تنطلق من هذا القول المأثور ولكن لتعبّر عن مسألة لا نأخذها كثيراً بعين الاعتبار، وهي أنّ المعنى العامّ الذي نراه أمام أعيننا ليس بالضرورة أن يكون معنى عامّاً، كلّ الكلام الذي يخرج من الفم مقيّد بخلفيّات، وهذا القول ليس أكثر من خيط من شبكة، وليس من الجيّد أن نتعامل معه دائماً على أنّه ليس خيطاً وإنّما شبكة. لا اللغة بريئة ولا الناس الذين يستعملون اللغة ابرياء، حتّى السذاجة قد تكون ،أحيانا،ً قناعاً، والبراءة اللغويّة خبثاً لغويّاً.


المصائب في هذا القول المأثور، كما نرى، عامّة، لا وجه لها ولا ملامح، وهي فضلاً عن كونها عامّة استثمرت، أيضا،ً النظام اللغويّ النحويّ لتعزيز عموميّتها من خلال ورودها في حالة التنكير. ولكنّها عمليّاً ليست نكرة كلياً، لأنّ السِّياق يؤدّي دور لام التعريف في حالات كثيرة، والسياق المباشر لهذا البيت هو شطره الأوّل:




بذا قضَتِ الأيّامُ ما بَينَ أهْلِهَا مَصائِبُ قَوْمٍ عِندَ قَوْمٍ فَوَائِدُ




هنا ننتبه إلى أنّ المتنبي كان يحاول نقل ما يدور في خلد الأيّام، والأيّام في اللغة العربية، ليست كلمة حياديّة، فهي قد تعني الأقدار، ولكنّها في العصر الجاهليّ كانت مصطلحاً يعني "حروب العرب"، وعليه فـ "أيّام العرب" هي صراعاتهم ونزاعاتهم، انتصاراتهم وإخفاقاتهم، وهذه الناحيّة الدلالية لا يمكن إسقاطها من هذا البيت بحسب تصوّري، ولا يمكن نكرانها، من خلفيّة العنوان الذي وضعه عميد الأدب العربيّ لكتابه الجميل في السيرة الذاتية: " الأيّام" وأقصد دلالة رغبات الضرير الصغير طه حسين في الانتصار على الظلام "المحدق" به. ولكن رغم التوقّف عند كلمة "الأيام" فإنّ المعنى لا يزال عامّاً، وهذا من الأمور التي كان يرغب بها المتنبي لتأمين مستقبل زاهر لكلماته ولتأمين قدرتها على الاكتفاء الذاتيّ. الأمثال المأثورة لها طبيعة مائية، سيّالة، وهذا ما يمنحها القدرة على التسرّب من شقوق الدلالات واتخاذ أمكنة تليق بحضرتها.


خطر ببالي ذات يوم أن أبحث عن لام التعريف لهذه المصائب الواردة في حالة التنكير، والأمر ليس في غاية الصعوبة، يكفي في هذا المقام أن تفتح فهرس ديوان المتنبي على الداليات، اي القصائد التي تنتهي بحرف الدال، ثمّ تبحث بين مجموعة من الاحتمالات المحدودة عن القصيدة التي ورد فيها هذا البيت. ولديوان المتنبي تقسيمات متعددة، منها تقسيم زمنيّ، كما هو الحال في شرح الواحديّ الذي رتّب شعر المتنبّي بحسب زمان نظمه، أي من زمن صباه وصولاً الى آخر قصيدة نظمها وليس بحسب القافية كما هو الحال في ترتيب أغلب الدواوين التراثية. والقصائد تعنون بعنوان مأخوذ من اسم المقول فيه الشعر، فهناك "السيفيّات" وهي القصائد التي مدح المتنبي فيها أمير حلب سيف الدولة، والكافوريّات هي التي قالها مدحاً أو هجواً في كافور الإخشيديّ في مصر.


وكان هذا المثل فرصة لي لإعادة قراءة قصيدة ممتعة للمتنبي قالها في سيف الدولة، ومطلعها:




عَوَاذِلُ ذاتِ الخَالِ فيّ حَوَاسِدُ وَإنّ ضَجيعَ الخَوْدِ منّي لمَاجِدُ




يشير البيت الأوّل الى عناصر متعددة ظاهرة، وأتوقف عند كلمة " حواسد" لأشير إلى أنّ لمفردة "الحسد" وتصريفاتها مكانة مرموقة في شعر المتنبي وفي حياته الخاصّة، وذلك حين نعرف ان الشاعر اختار لابنه اسماً غريب الأطوار ودالاّ على إحساس الشاعر بإنّه محاط بالحسّاد. لقد اختار اسم " محسّد" لولده، ولا أظنّ أنّ هذا الاسم خطر ببال أب من قبل أو من بعد! والبيت يشير إلى أنّه مطلع غزليّ أيضاً من خلال " ذات الخال"، " الخَوْد" - بمعنى الفتاة الحسنة الخلق، ذات الغنج والدلال- ، " ضجيع"، والفتيات المتواريات خلف لفظتي" عواذل" و"حواسد".


تصف القصيدة انتصارات سيف الدولة في مواقع وأماكن عديدة في معاركه ضدّ الروم، والقصيدة تحدد أسماء مواضع دارت فيها المعارك التي انتهت بالظّفر على الأعداء. الفوائد في نصّ الشاعر تشير إلى جهة من صفّ أعداء سيف الدولة لا إلى صفّ سيف الدولة. وكذلك المصائب تشير إلى جزء من صفّ الأعداء أيضاً. كان الشاعر يتحدث عن الخسائر الفادحة التي لحقت بالأعداء، فمن أين جاءت الفوائد للأعداء؟ في ظاهر الأمر غرابة سرعان ما تزول حين نعلم ما هو المقصود بالفوائد؟ وهذا ما توضحه الأبيات التي تسبق مباشرة عبارة " مصائب قوم عند قوم فوائد"، وهي:




فلَم يَبقَ إلاّ مَنْ حَمَاهَا من الظُّبى لمَى شَفَتَيْها وَالثُّدِيُّ النّوَاهِدُ


تُبَكّي علَيهِنّ البَطاريقُ في الدّجَى وَهُنّ لَدَينا مُلقَياتٌ كَوَاسِدُ


بذا قضَتِ الأيّامُ ما بَينَ أهْلِهَا مَصائِبُ قَوْمٍ عِندَ قَوْمٍ فَوَائِدُ




تكشف الأبيات القناع عن وجه المعنى كما يقال، فنعرف أنّ مَن قطف ثمرة الفائدة من المعركة هنّ الفتيات،" السبايا" اللواتيّ "حمتهنّ" أنوثتهنّ الناهدة من حدّ السيف، ولكنّها فائدة ملوّثة بالسبْي والكساد.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق