الاثنين، 19 يونيو 2017

الساموراي ومعلم الشاي


للشاي سحر خاصّ، وطقوس يعرفها جيّداً أبناء الشرق الأقصى، ولقد قرأت أسطورة عن نبتة الشاي لا تخلو من طرافة روحيّة وردت في كتاب " تاريخ الشاي" لـ Paul Butel، ولا يخلو سردها من بعض النفع الخرافيّ. تقول الأسطورة ّإنّ زاهداً بوذياً ترك الهند باتّجاه الصين لنشر الدعوة البوذية، وكان يقاوم في طريقه النعاس حتّى لا يحرم نفسه من ممارسة التأمّل وهو يسير على قدميه، الاّ أن النوم سلطان قاهر، فغلبه النعاس وعندما استيقظ غضب من عينيه جدّا، ومن جفنيه اللذين خاناه، ولم يحترما رغبته في اليقظة، فما كان منه إلاّ أنّ قصّ جفنيه ودفنهما عقاباً لهما على عصيان رغبته، وتابع طريقه الى الصين. وفي عودته لاحظ ان نبتة لم تكن من قبل موجودة قد خرجت من ضريح جفنيه، فقطف بعض الأوراق وراح يأكلها ويتحسّس مذاقها، فانتبه الى انّ لها سحرا على عينيه اذ قضت على رغبته في النوم، وحين روى حكاية النبتة التي تطرد النوم لأصدقائه جمعوا بذور النبتة السحرية وراحوا يزرعونها لتعينهم على التعبّد، وهكذا ولدت حكاية الشاي من جفني زاهد بوذيّ لتتحوّل الى ثاني مشروب في العالم بعد الماء، ولم تستطع الى اليوم حبّة البنّ أن تسقط هذه النبتة عن عرشها السامق. وثمّة في الصين من لا يحبّ أن يهين ورقات الشاي بأيّ نوع من الماء، فترى بعض عشّاق الشاي يخرجون من بيوتهم مع طلوع الضوء الى البساتين لاصطياد قطرات الندى كما تصاد الفراشات، أو كما يصطاد النحل رحيق الزهر، ويلملمون قطرات الندى العالقة في أوراق الشجر ويحملون ماءهم الرقراق والنديّ الى بيوتهم لممارسة طقوس الشراب بماء تغذّى من معين الخضرة اليانعة.

وكلمة "شاي" بصيغتها العربيّة لا تخلو بدورها من طرافة. فمن يعايش الكلمات، ويحاول تتبّع مولدها يكتشف أنّ بعض الكلمات تكون عبارة عن كلمتين توحّدتا لأسباب كثيرة، منها الالفة المستمرة، فهناك كلمات تفقد بعض احرفها من فرط الدوران على الالسنة، كما كلمة" تعال"  التي سقطت لامها من الاستعمال فصارت تلفظ "تعا"، وبالنسبة لكلمة شاي الصينية المصدر فهي تعني حرفيّاً " ورقة الشاي"، وتلفظ في الصينية " تشا ييه cha ye 茶叶 " ، " تشا" بمعنى الشاي، و"ييه" بمعنى ورقة، وهذا امر تعرفه كلّ اللغات فيما يعرف بالنحت اللغوي، ولقد لفت نظري ورود كلمة الشاي في نصّ عربيّ قديم وهو من اقدم النصوص عن اخبار الصين ولكن تحت اسم "ساخ"، ويبدو ان الكاتب العربيّ القديم اصابته الحيرة من هذه النبتة التي لم يكن قد سمع بها من قبل، والصق بها، في نصّه، صفة الغرابة.

المدخل عن الشاي للحديث عن رجل يابانيّ متخصّص في صنع الشاي وفق الطقوس اليابانيّة، ومعروف ان تحضير الشاي في اليابان له فلسفته الروحية فهو لا يرتشف فقط لمآثره الصحية،  وفي كتاب الشاي (茶の本, Cha no Hon لـ " اوكاكورا كاكوزو Okakura Kakuzo" الذي ترجمه الى العربية الشاعر سامر ابو هواش، ونشرته دار كلمة في ابو ظبي، ما يسلط الاضواء على التعامل الروحانيّ مع هذه النبتة الساحرة. والحكاية التي سأرويها الآن لا تخلو من دلالات خفيّة على الخشوع الرهيب لحظة تحضير الشاي في اليابان.  لقد فرض على معلّم الشاي ذات يوم ان يبارز سيافا ماهرا، وهو لا خبرة له في فنون القتال. فارتبك وخشي الهلاك وخشي ذلّ الفرار. كان معلّم الشاي يعمل عند شخص من الطبقة الارستقراطية ويدعى " يامانوشي" Yamanouchi ، واراد ذات يوم هذا الارستقراطيّ ان يذهب الى ايدو العاصمة اليابانية في القرن الثامن عشر، واراد ان يرافقه في رحلته معلم الشاي ليعرض امام اصدقائه مهارة معلّم الشاي في توليد تلك المذاقات المدهشة لمسحوق الشاي، وطلب منه سيّده يامانوشي ان يلبس لباس الساموراي مثلما يتطلب منه مقامه السامي، فللشاي حرمة تتبدّى في اللباس، وفيما كان يتجول، ذات يوم، في العاصمة اذ اوقفه ساموراي وتحداه ودعاه الى المبارزة. حاول ان يشرح معلم الشاي للساموراي انه لا يجيد القتال، الا ان الساموراي ادار له اذنه الصماء. ان المبارزة تعني الموت المحتم لمعلم الشاي، والرفض مجلبة لعار له ولسيده، فقبل على مضض ولكن طلب لساموراي تاجيل المبارزة الى اليوم التالي، وذهب من فوره الى اقرب مدرسة لتعليم المسايفة، ولم يكن من السهل مقابلة معلم المسايفة الاّ برسالة توصية وبناء لموعد مسبق، إلاّ ان الحاح معلم الشاي المذعور دفع بالحاجب الى السماح له بلقاء المسايف. تعاطف معلم المسايفة مع معلّم الشاي بعد أن سمع قصّته، وقرر ان يعلمه ما يجعل من ميتته ميتة شريفة، ولكن المسايف طلب منه ان يريه طريقته في تحضير الشاي، فشرع معلم الشاي بممارسة شعائره الخاصّة في تحضير الشاي، وكان هادىء الحركة شديد التركيز، اندهش المسايف من تركيز معلّم الشاي المذهل، فقال بحماس استغربه معلم الشاي: لا حاجة لك في  تعّلم فن القتال. الحالة الذهنيبة التي انت فيها كافية بالنسبة اليك لأن تواجه أيّ ساموراي. لم يفهم معلّم الشاي حرفا ممّا قاله المسايف الخبير، الاّ انّ المسايف تابع حديثه قائلا: حين ترى الشخص الذي يتحداك تخيل انك ستقدم الشاي لضيف من ضيوفك. اخلع معطفك، اطوه بعناية، وضع مروحتك اليدوية عليه مثلما فعلت الآن. حين تنتهي من هذه الشعائر ما عليك الا ان تستلّ سيفك بالروح المتيقظة نفسها التي رأيتها في كل حركة من حركاتك، وسوف ترى نفسك مستعدّة للقتال استعداداً لا يفوقه استعداد.

وافق معلّم الشاي على ما قاله الرجل، فليمت رابط الجأش أفضل من أن يلطّخ سمعة عائلته وعائلة سيّده بالعار. وفي اليوم التالي ذهب لملاقاة الساموراي، الذي لم يستطع الا أن يلاحظ التعبيرات الهادئة والمبجلة على وجه منافسه وهو يخلع معطفه، ويطويه ببرود أعصاب مرعب، ثمّ وهو يضع مروحته بأناة فوق معطفه. انهالت الوساوس على قلب الساموراي، وقال بينه وبين نفسه: معلّم الشاي سياف بارع، هذا ما تقواه حركاته، لغة الجسد لا تكذب، فتقدّم الساموراي من معلّم الشاي بكلّ تجلّة واحترام وانحنى امامه، وطلب منه ان يسامحه على تصرّفه المشين معه في اليوم السابق.

بلال عبد الهادي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق