الخميس، 15 يونيو 2017

نحت كلمة بوركيني Burkini

 
البوركيني والميني

النحت مصطلح لغويّ ويقصد به توليد كلمة جديدة من كلمتين أو أكثر، والعربية إلى هذا اليوم لم تنشطْ نشاطاً فعّالاً في هذا الحقل. فالنحت أشبه بأرض بور في بستان اللغة العربية، أرض بور لا تعني أنّها غير قابلة للاستصلاح الزراعيّ.
سبب ترك النحت أرضاً بوراً هو الطبيعة اللغوية، في نظر بعض اللغويين، للغات الساميات، والعربية من أكبر أبناء العائلة اللغوية سنّاً، بل قل إنها عميدة اللغات الساميات، ولكن الكسل العربيّ يكاد أن يحوّل حتى الطبيعة العربية طبيعة عقيماً، وأقصد الطبيعة اللغويّة.
من عالم الجغرافية يمكن أيضاً أن نستعين ببعض المفردات، وكنت منذ قليل استخدمت عبارة " الأرض البور" وكلمة " بور" من مقلع الجغرافيّة تشير إلى قطعة أرض. هناك تعبير هو " التصحّر"، والتصحّر مرض يصيب الأرض لأسباب أغلب الأحيان إنسانيّة، فالإنسان وحش نهم ومدمّر للطبيعة!
الإنسان ثاقب الأوزون، وما أدراك ما ثقب الأوزون!
خطرت ببالي عبارة " ‫‏التصحّر اللغوي" للكلام على دور العرب في تصحير الطبيعة الاشتقاقيّة للغة العربية. والمقصود بالاشتقاق هو أن تأتي إلى جذر من الجذور العربية ( هل من الضروري لفت النظر الى أن كلمة جذر ‪#‎racin هي كلمة نباتية؟ والبعض يسمّي الجذر رحماً ‎matrice كما نرى في بعض كتب المستعربين) وتستولد منه كلمات كثيرة، فأغلب أرحام الجذور ولود. فمن رحم ( ج م ع) مثلا تولد كلمات كثيرة: جامع، جميع، مجموع، مجمع، مجتمع، جامعة، مجامعة، جماع، جماعة، استجمع ... من ثلاثة حروف تولد كلمات كثيرة، هذه ميزة سامية . هذه الميزة مفتوحة، قابلة لتوليد كلمات غير موجودة ولا بدّ من إيجادها لاحتضان الأفكار والمفاهيم والأشياء الجديدة.
ليس شرطاً أن تعيش الكلمة، فالأعمار بيد الله، ومهما تقدّم الطبّ فإنّ الموت بالمرصاد! يرصد الناس كما يرصد الكلمات.
ويمكن خلق جذور لغوية، لا حدود لها. ومن أعاجيب ‫‏الفراهيديّ الفذّ أنّه تكلّم على " المهمل" من الجذور: والمهمل نوعان:
مهمل عاقر، ومهمل غير عاقر. المهمل العاقر هو ابن طبيعته الصوتية، وسأعطي مثالاً. هل من السهل التلفّظ بهذه الكلمة التي سأكتبها الآن، ولتكن : هَخْهَحَهْ، دون تأتأة وارتباك في الشفتين؟ من أين اتت صعوبتها؟  وهي لا تختلف عن وزن القهقهة؟ أتت لا ريب من طبيعة حروفها، والعرب تسمّي ذلك " ‫‏تنافر الحروف"، تنافر الحروف هو الذي سبّب عقم الجذر.
ولكن المهمل غير العاقر سآخذ مثالاً عنه يفيض بالدم والجنون وهو " د ع ش " ، هذا الجذر مهمل غير موجود في العربية، ولن تعثر عليه في أيّ قاموس عربي تراثي ، ومع هذا فهناك كلمة من مشتقاته المرعبة وهي ‫( ‏داعش ) على صيغة فاعِل، وهي مفردة حيّة ترزق على الأفواه والأقلام، وتملأ الشاشات بآثارها المدمرة لكثير من قيم المشرق! "‫دعش" هي بثابة كوب فارغ كان ينتظر من يملؤه، ولكن لم يخطر ببال جذر "دعش" أنه كوب سيمتلىء بالدم البشري!
النحت باب واسع يحلّ مشاكل لغوية كثيرة، شرط أن لا يتعامل المرء مع اللغة بذهنيّة حنبليّة وإنّما بذهنيّة ‫جاحظيّة!
كلامي هنا عن نحت موجود ولكنّه أيضاً أرض بور قد تحتاج إلى بعض السماد، واستصلاح الأراضي اللغويّة يوازي استصلاح الأراضي الزراعيّة!
قلت ان النحت الذي سأتكلم عليه هو نحت موجود، ولكننا نخاف منه، ونخاف أن يؤذي مشاعر اللغة العربية، رغم يقيني انه لا يؤذي العربية بقدر ما يسمح لها بتغيير الجوّ! اللغة على شاكلة الناس! هل وجدت قانوناً في العالم يستطيع أن يمنع الزواج المختلط؟ هل هناك قانون قادر على فرض سيطرته وتطبيق بنوده مهما أوتي من قدرة تعسّفيّة؟ والزواج المختلط مفهوم واسع. فقد يكون بين دينين، هل يستطيع قانون مهما كان صارماً أن يمنع زواج مسلمة من مسيحيّ؟ هناك سيوف كثيرة مسلطة على أعناق هذا الزواج، ولكن هل استطاعت هذه السيوف أن تمنع هذا النوع من الزواج؟ الهجرة ثغرة تدافع فيه الممنوعات عن نفسها.
الواقع الإنسانيّ، عمليّاً، يسخر من كلّ القوانين. والواقع اللغويّ يسخر من كلّ القوانين، ويفكّ رقبة كلّ القوانين.
والزواج المختلط متعدد الأشكال والألوان والأعراق.
هناك سعوديّات مسلمات مثلاً متزوجات من بريطانيين مسيحيين!
هل استطاع القانون السعوديّ منع هذا الزواج الذي يغير في دم التكوين؟
القانون غربال. والقانون اللغويّ كالغربال فيه الكثير من الثقوب!
كلامي عن الزواج المختلط هو للحديث عن الكلمة بنت الزواج المختلط، ولا أخصّ اللغة العربية وحدها، فالاختلاط اللغوي حالة تسري في كلّ اللغات باختلاف في النسبة أو الكمّ.
الخلاسي هو ابن ‫‏الزواج المختلط، أي كشقراء تخرج من رحم زنجيّة، أو زنجيّ يخرج من رحم شقراء!
فتاة شقراء ولكن كلّ ملامح وجهها تدلّ إلى أنّها من قارة إفريقيا: الشعر المكزبر أو المفلفل، الأنف المفلطح، الشفتان المكتنزتان... الخ. والسبب أنّ أمّها الزنجية تزوّجت من رجل سويديّ أشقر، فكانت هي هذا المزيج الأوروبيّ الإفريقيّ.
منذ فترة وأنا أقوم باصطياد هذه الكلمات الخلاسية، واليوم قرأت كلمة بوركيني ‪‎burkini. وهذه الكلمة هي نحت لغويّ، ولا تخلو من تضادّ دلاليّ. المفردة الواحدة من زمان قادرة على حمل الأضداد.
‫كلمة ‏"بوركينيّ" توحيد بين مفردتين: ‫البُرْقُع و‫‏البيكيني. البرقع حاجب، والبيكيني كاشف! البوركيني هي الجامع للأضداد،  توحّد ما بين الحجب والكشف. وهذا النوع من المفردات هو ما أسميته بـ" ‫‏النحت الخلاسيّ"!
البوركيني هو فكرة دينية وتجارية في آن، ولكنّه عكّر مياه الشواطىء الفرنسيّة، وعكّر مزاج بعض البلديات في الجنوب الفرنسيّ!

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق