السبت، 10 يونيو 2017

مشهد من قيامة أرطغرل


الصورة الجامدة سلطان، فما بالك بالصورة المتحرّكة؟ استعانت الولايات المتحدة بهوليوودها الساحرة وأفلامها المبهرة وأبطالها الأفذاذ في نشر هيمنتها وثقافتها وليس فقط بعضلاتها الفولاذيّة الباطشة. حتّى من يكره سياسة الولايات المتحدة لا يمكنه أن ينجو من سطوة أفلامها ومهارة مخرجيها في تحريك أعصاب المشاهدين وعيونهم. هذا ما تسعى الى امتلاكه دول متعددة ذات طموحات تتعدّى حدودها الجغرافية. وهذا ما أدركته تركيا من خلال مسلسلاتها التاريخية والرومانسية على السواء. وتأثير المسلسلات يفوق تأثير الأفلام، العلاقة مع الفيلم فردية بخلاف العلاقة مع المسلسل التي تكون غالب الأحيان عائلية. ومن الطريف أن يتتبّع المرء أولئك الذين ساحوا في تركيا، ودافعُهم الى ذلك رؤية الأماكن التي صوّرت فيها مشاهد المسلسلات التركية، فالفنّ عنصر جذب سياحيّ لا يستهان بدولاراته!
هنا سأتناول شيئا من المسلسل الأخّاذ " قيامة أرطغرل" ، وكلمة "القيامة" لها دلالات غنية في ثقافتنا العربية بشقّيها الإسلامي والمسيحيّ. فهناك " قيامة" المسيح، و"القيامة" المنتظرة في آخر الزمان. هذه القيامة متعددة ايضا لغوياً، فهي ذات صلة بالقوم والنهوض. ولا ريب في أن تركيا تسعى عبر أرشفة تاريخها فنيا استثمار قدرات الفنّ الخارقة في سبيل دعم نهضتها، وفي سبيل تعزيز ربط حاضر الأتراك الناهض بماضيهم المجيد، وهذا ما تفعله شعوب كثيرة في العالم.  ويروى أنّ الرئيس التركي أردوغان كان يختلس الوقت لرؤية تصوير حلقات المسلسل. يحكي المسلسل سيرة حياة أرطغرل الأب البيولوجيّ لعثمان مؤسّس السلطنة التي سميت باسمه. المسلسل لا يخضع لشروط التاريخ، وليس المطلوب منه أن يخضع لحرفية التاريخ النثرية، فشخصية ابن العربي مثلاً ، شخصية خرافية، أو أسطورية، تشبه وظيفتها وظيفة الخضر الذي يأتي لا احد يعرف كيف لينقذ البطل من خطر داهم.  فهناك " أرطغرل" التاريخيّ، و"أرطغرل" الفنّي، كما حال عنترة التاريخيّ الذي يختلف كثيراً عن عنترة الذي نراه في السيرة الشعبية.
لا يستطيع الفنّ إلاّ أن يخون التاريخ، وهنا أتذكّر مسرحية "بيازيد" التي ألّفها المسرحيّ الفرنسيّ "راسين" مغيّرا في بعض الوقائع التاريخية لأسباب فنّية. خيانة الفنّ للتاريخ، هنا، تشبه خيانة الترجمة، وترجمة الشعر تحديداً،  خيانة هي ضريبة لا مفرّ من دفعها لتمتين أواصر التشويق. وإن كنت ذكرت الخيانة فلأني لن أحكي إلاّ عن نقطة واحدة هي الخيانات، والمؤامرات، والغدر، والمكر والخديعة، والخسّة، حتّى ليظنّ المرء أنّ التاريخ ليس أكثر من سلسلة خيانات يتصدّى لها رجالات التاريخ الشرفاء. عدوّك تفهمه، تتفهّمه، تبرّر له ربّما سلوكه الدنيء تجاهك، أمّا الخيانة، خيانة الأخ لأخيه، والمرأة لزوجها، والصديق لصديقه،  وابن القبيلة لقبيلته، فهي من الأمور التي تستفزّ، وتؤلم، وتثير الغثيان. ولكأنّ التاريخ لحمتُه الخيانة وسداه كشف الخيانة. وما تقوله الخيانة في مسلسل ارطغرل تقوله كتب التاريخ، ولكن الخيانة المكتوبة ليست كالخيانة المرئية، خصوصا إذا كان المخرج ماهرا في تصويرها وتلوينها بكلّ الألوان الجهنمية. وما إن يسقط خائن أو غدّار في "قيامة أرطغرل" حتى يستلم لواء الغدر شخصُ آخر. لا تؤلمك، في المسلسل، مشاهد الوحشية التي يمارسها المغول، وتاريخ المغول حافل بالدم الذي تفوح رائحته في كتب تاريخنا العربيّ، ولا تؤلمك وحشية الفرنجة الذين قدموا الى بلادنا واستباحوا الأرض والعرض، بقدر ما تؤلمك الخيانات الداخلية في سبيل منصب أو كرسيّ.
سأتوقف هنا عند نقطة واحدة، عن شكل من أشكال الخيانات التي ينطبق عليها المثل القائل:" يقتل القتيل ويمشي في جنازته" ويرفع نعشه على كتفه، ويشارك في عملية الدفن. الأتراك مجموعة من القبائل، أمّة قبلية على غرار الأمّة العربيّة، ولكلّ قبيلة رئيسها. والدة ارطغرل من قبيلة مختلفة عن قبيلة أرطغرل، تضطر قبيلة أرطغرل للّجوء الى قبيلة والدة أرطغرل، وأحد أفرادها موظّف في الدولة، ويحلم بأن يكون أميراً على القبائل التركية، فيتعمد القتل والمكر والخديعة للوصول الى مأربه، يستخدم أخته وابنته بروحيهما الشيطانيتين لتحقيق أمنيته، فيدفع بابنته لاصطياد شقيق أرطغرل، ويدفع بأخته إلى إيقاع خال أرطغرل، وهو سيّد القبيلة، بشباكها وأيّ شباك! وهي أي أخت الحالم بالإمارة على قول مثل تركيّ " تلبّس الشيطان حذاءه بالمقلوب"، تبني علاقة مع خال ارطغرل بالحرام ثمّ تسمّم زوجته وتحتلّ مكانها، تظهر له والحبّ وتضمر له الكره، وتنتظر الوقت المناسب للتخلّص منه، وهذا ما تفعله في الأخير وفق خطّة رسمها شقيقها المخادع. تريد أن تتخلّص من زوجها وأن تتخلّص أيضاً من خادمته الوفيّة له، والتي تحبه كأبيها، وزيادة في اللؤم قررت التخلّص منه في ليلة زفاف ابنه الوحيد، لينقلب فرح القبيلة بزفاف ابن سيّدها الى مأتم لسيّد القبيلة. دسّت السمّ ، بعد انقضاء العرس، في الشراب الذي حضرته الخادمة، وأخفت قنينة السمّ تحت وسادة الخادمة. شرب رئيس القبيلة من الشراب، وشاركته في تناول الشراب المسموم ولكن في جرعات خفيفة حتّى تبعد عنها الشبهات، ثمّ راحت تفرغ أحقادها كلّها في وجه زوجها قبل أن يسقط في الأرض خائر القوى. ثم ندهت للخادمة، وندهت للحرّاس متهمة الخادمة بتسميمها وتسميم زوجها. تدخل الطبيب واستطاع ان يوقف مفعول السمّ في جسدها، ولكنه لم يستطع أن ينقذ الزوج المخدوع، ومن سوء حظّ الخادمة أن الزوج تلفّظ باسمها قبل ان يلفظ انفاسه، كان يريد ان يعلن براءة الخادمة، ولكنّه مات قبل ان ينهي جملته، فانقلب معنى الجملة وبدا كما لو انّه يؤكد على ان الخادمة هي التي سمّمته، وراحت الزوجة المخادعة تطالب بالثأر الفوريّ من الخادمة بهدف طمس الحقيقة وإبعاد أيّ شبهة عنها خصوصاً أن الخادمة كانت على علم ببعض ألاعيب الزوجة الماكرة.

بلال عبد الهادي  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق