كتاب نسائيّ بامتياز يغوص في يوميّات المرأة وحميميّاتها وعلاقتها مع لسانها وتعلّقها بأشيائها وجسدها، كما يتناول مفهوم الصداقة الذي ينبني على أسس مغايرة لمفهوم الصداقة التي ينسجها الرجل، وينفتح الكتاب على مجمل سلوك المرأة، اللفظيّ منه والجسدي.
الاهتمام بالظاهرة اللغوية عند المرأة حديث الميلاد نسبيّاً، كما يُعَدّ، إلى حدّ ما، أحد تجليات اللسانيّات الاجتماعيّة، في العالمين الغربيّ والعربيّ. وهذا ما يعالجه كتاب المؤلفة الكندية جوزيه فوجلْز «لغة البنات السرية» الصادر بالفرنسية عن دار «منشورات الرجل»(Les editions de l’homme)، في كيبك/كندا.
ان اللغة سلوك وهذا يعني ان السلوك، أيضاً، لغة، من هنا ينفتح الكتاب على مجمل سلوك المرأة، اللفظيّ منه والجسدي. والاهتمام بالظاهرة اللغوية عند المرأة حديث الميلاد نسبيّاً، كما يُعَدّ، إلى حدّ ما، أحد تجليات اللسانيّات الاجتماعيّة، في العالمين الغربيّ والعربيّ.
كان كلام المرأة وصوتها، على امتداد حقبات مديدة من التاريخ، بمثابة عورة لا بدّ من سترها أو تكميمها. فكان ان لاذت المرأة بالصمت، إلا انه صمت موارب، ظاهريّ. فالمرأة تحبّ الحكي، انه طبيعتها البيولوجية والحياتية. وفي القديم حين كان يسمح للمرأة بالحكي فذلك إمّا بسبب انتمائها لعالم الكهانة المغلف بالسحر، وإمّا لكونها إحدى الملكات. وتشير جوزيه فوجِلْزْ إلى التعاليم الكاثوليكية والبروتستانتية التي كانت تعرّف المرأة الصالحة بأنّها تلك «المطيعة، الصموت، الورعة».
وكانت المرأة تنتهز غياب الرجل لخرق هذا الكلام المحظور، وهو هنا، ليس ذلك الذي يدرج تحت باب «التابو»، وإنما الكلام العادي. الضروريّ والبسيط. والرجل لا يزال، إلى الآن، يهزأ من كلام النساء، وعبارة «حكي نسوان» المتداولة إلى اليوم، غرباً وشرقاً، تطفر من الفم كمرادف للكلام الخاوي، الخالي من المعنى. وترى الكاتبة أنّ هذه النظرة هي التي أدّت إلى ولادة ما يعرف بلغة النساء السرّيّة. ولا تنكر الكاتبة دور الحركة النسائيّة في إخراج لغة النساء من المطبخ كما تقول. فالمرأة لم تتمرّد على المطبخ لأنّها لا تحبّ الطبخ (في الكتاب كلام كثير عن المطبخ كمولّد للكلام)، إذْ نادراً ما تجد امرأة لا تقيم علاقة ما مع الطبخ، إلاّ أنّ نظرة الرجل الدونيّة بخصوص علاقة المرأة بالطبخ، هو ما جعلها تتمرّد على المطبخ. ولا يخلو الكتاب من طرائف متنوّعة، اجتماعيّة وتاريخيّة، تتناولها الكاتبة من منظور انتروبولوجيّ. كما ان جوزيه فوجلز تثير الكثير من التساؤلات التي تعتبرها مميّزات نسائيّة. كأنْ تطرح التساؤل التالي: هل من علاقة بين عمر المرأة المديد، مقارنة بالرجال، وبين لغتها أو أسلوبها بالكلام؟
الأكيد ان المرأة لا تتعامل مع اللغة بالطريقة نفسها التي يتعامل بها الرجل، وهذا ما يعكف على دراسته علم اللغة الإحصائيّ والأسلوبيّ، فالخلاف بيّنٌ على المستوى المعجميّ وعلى مستوى تركيب الجمل، وعلى مستوى استخدام أقسام الكلام أو أساليب التعبير. فنسبة صيغ الاستفهام في حوارات المرأة على سبيل المثال، أعلى من نسبتها في حوارات الرجال. ولا ريب في أنّ سبر لغة المرأة سوف يفصح عن الخطّ البيانيّ المتعرّج والمتغيّر للمجتمع الإنسانيّ.
تعترف الكاتبة من خلال استشهادها بمثل غالي قديم (نسبة لبلاد الغال)، يقول إنّ «سلطان المرأة لسانها سواء كانت عجوزاً أو فتيّة». فالمرأة تحكي، تحبّ الحكي، وتقول الكاتبة إنّ المرأة تستهلك من الكلمات أكثر مما يستهلكه الرجل، فالمرأة قادرة على أنْ تنطق بسبعة آلاف كلمة في اليوم، في حين ان الرجل لا يتلفّظ بأكثر من ألفي كلمة. وما يشفع للكتاب هو أنّه مكتوب بقلم إمرأة تقف في صفّ النساء، أيْ أنّ أغلب وجهات النظر المعروضة في تضاعيف الفصول هي نظرات نسائيّة، لا ترى في الكلام عيباً أو منقصة.
والكاتبة تكرس فصلا للكلام عن علاقة المرأة مع أزيائها، ولا ريب في ان عالم الأزياء شديد الفتنة والغنى، وكتاب الناقد الفرنسي رولان بارت «نسق الموضة» بيّنُ الدلالة على هذا الغنى. فالمرأة تعتبر اللباس امتداداً للذات أكثر من كونه مجرّد حاجة لحماية الجسد من مزاج الطقس المتقلب، اللباس صورة عنها، جزء منها، تتمة لشخصيتها. والكاتبة تلتقط من أفواه النساء كلامهن عن اللباس فتقول: إنّ لكلّ حالة لبوسها، حالة اجتماعية، أو نفسية، أو عاطفية. فاللباس يعكس وينعكس على نفسية المرأة. فكم من فستان قلب نفسيّة امرأة، أنقذ روحها من كآبتها أو محا احساسها بحزن عاتٍ! وتلفت المؤلفة النظر إلى أنّ المرأة لا تلبس لتلهو بأعين الرجال. فقد تكون هذه المسألة، في بعض الأحيان، آخرَ همها، وإنما هي تلبس لتغيظ أعين النساء التي لا ترحم، لأنّ المرأة تحكم على الظاهر أكثر من الرجل، فهذا الأخير قد لا ينتبه حتى إلى لباس زوجته. عين المرأة تلقف الألوان، فاللباس بالنسبة لها كأحمر الشفاه، الذي، كما تقول الكاتبة، عمره أكثر من أربعة آلاف سنة، بحسب ما تبيّن بعض الكشوفات في علم الآثار. والمرأة تنفق على ملابسها خمسة أضعاف ما ينفقه الرجل. واللباس يشمل أيضاً الأحذية، وتتوقف الكاتبة، في نهاية فصل اللباس، عند تاريخ الحذاء وتشير إلى «الكعب العالي»، وتقول إنّه من اختراعات النحات ليوناردو دي فينشي، كما تذكر بعض العادات والتقاليد التي ربطت السلطة الأبوية برمزيّة الحذاء، فتروي أنّ الأب في الأعراس الإنجليزيّة، قبل ألف عام، كان يمنح العريس حذاء يعود لابنته، وذلك للتعبير عن انتقال السلطة أو الوصاية من الأب إلى الزوج، ولكن هذا الحذاء كان يرمى عالياً (بدل باقة الزهر)، ويحمل للفتاة التي تلتقطه البشارة بالزواج التالي. وتتكلم المؤلفة عن الفتيات اللواتي يعالجن مآزقهنّ عن طريق الشراء و«لحس واجهات» المحلات بحسب التعبير الفرنسيّ. ان الشراء علاج من حزن، أو تنفيس عن زواج فاشل. والمرأة لا تحبّ أنْ تكون وحدها حين تشتري، إنّ للتسوّق النسائي طقوساً جماعية لأنّه يترافق مع الكلام. والثياب لها صلة بمفهوم الرشاقة، وبما أنّ المرأة تهتمّ أكثرَ بجسدها فهي، على ولعها بالمرآة، لا تثق بمرايا المحلات، لأنها تخضع للعبة الأضواء فتخدع لذا نجد ان الفتاة تحتاج إلى صديقة ترافقها في عملية التسوق لتقوم بدور المرآة السحريّة الصادقة. لا يخلو كتاب جوزيه فوجلز من بعض الملاحظات أو النصائح، فالفتاة قد لا تعجبها قَصّة شعرها ومن هنا فإنّ عليها ان تغيّر ملابسها بما يعدِل من نظرتها لشعرها، أيْ أنّ وضع القصة في سياق جديد كفيل بتغيير النظرة. إنّ المسألة هنا شبيهة بالسياق الذي يغيّر دلالات الكلمات، وتشير المؤلفة إلى ظاهرة آخذة بالانتشار في صالونات التزيين، في تورنتو، وهي ان مدير العمل يطلب من الموظفات أنْ يكنّ حاصلاتٍ على شهادة جامعيّة في العلوم الاجتماعيّة.
تشير المؤلفة إلى أنّ تشريح لغة المرأة يفصح عن اهتمام بالتفاصيل، وهذا الاهتمام يزوّد المرأة بنظرة واسعة، لأنّها تدرج في نظرتها شبكة من العلاقات الدلاليّة الرابطة للأشياء بخلاف الرجل. وترى المؤلفة أنّ الزمن المعولم الذي نحن فيه، والدور الذي تلعبه تكنولوجيا الاتصال، وتعقّد الأسواق العالمية كلّ ذلك يحتاج إلى خبرة المرأة ونظرتها بحسب ما تقول هيلين فيشر المتخصصة في العلوم الأنتروبولوجيّة. إنّ أسلوبَ العمل، اليوم، يحتاج للمرأة لأنّها، بيولوجيّاً، ومن خلال حجم المركز المسؤول عن تعدّد المهامّ في الدماغ لديها، مؤهلة للعب أدوار مثمرة على صعيد إدارة العلاقات المتشابكة.
ثم تتناول الكاتبة مفهوم المرأة للسلطة، فتقول إنّ نظرتها مبنيّة على الحوار. وهي، على حبّها الجمّ للكلام، لا تحبّ الاستئثار به. استراتيجيتها للوصول إلى السلطة بطيئة ولكن حثيثة أمّا الرجل فإنّه من هواة حرق المراحل. المرأة تصل إلى المكان نفسه الذي يصل إليه الرجل ولكنها لا تسلك الدروب نفسها التي يسلكها الرجل، فهي تؤسّس أو تمهّد للوصول، بدايةً، بشبكة مترامية ومتشعبة من «العلاقات» والحلفاء. ان فكرة الهرميّة، بحسب دراسة قامت بها «ماريان شميت ماست» من جامعة بوسطن، موجودة عند الرجل في حين أنّ المرأة لا تمنح هذه الفكرة كبيرَ اعتبار.
وقامت الكاتبة بمقاربة مَيْدانية تثبت كلامها بإجراء مجموعة حوارات ومراقبة لجلسات عمل نسائية وأخرى رجالية. تبيّن، في ختام المقاربة، أنّ كلّ رجل يحاول، من الجلسة الأولى، الاستئثار بالقيادة، أمّا في جلسة الاجتماع النسائية الأولى فلم تكن هذه النزعة واضحة الملامح بل ان المرأة، في الجلسة الأولى، تحاول سبر الشخصيّات وجسّ نبض الكلمات التي تتفوّه بها كلّ واحدة منهنّ، وهذا ما يجعل المرأة اقلّ عرضةً للخطأ من الرجال.ولكنْ حين تصل المرآة إلى سدّة القرار في شركة ما فإنّها تمسك بزمام الأمور بكفاءة عالية. وبحكم نظرة المرأة القائمة على بناء شبكة علاقات فإنّها تأخذ، حين تكون مسؤولةً عن دمج شركتين، بعين الاعتبار أموراً لا يعيرها الرجل الأهمية المطلوبة، فهي تقلق لمصائر الموظّفين، وتشعر بالألم الذي قد ينتجه صرف العمال.
إنّ «لغة المرأة السرية»، بناء لمفهوم العلاقات، هي ضرب من الاستثمار في المستقبل، فلا أحد بمنجاة من انقلاب ظهر المجنّ، وفي آخر العمر، تستطيع المرأة، بعد أن تنفض يديها من مشاغل العمر، الاعتماد على هذا الرصيد لتمضية شيخوخة ممتعة تفتقدها عادة شيخوخة الرجل، علماً أنّ الرجل لا يجبد التأقلم مع الوحدة كالمرأة، وعمره أقصر من عمرها، عموماً، بمقدار خمس سنوات، والسبب كما ترى المؤلفة هو أنّ شبكة العلاقات الإنسانية التي تنسجها المرأة اشدُّ اتساعاً وحميميّة من تلك التي يقيمها الرجل.
أيعود السبب في طول عمر النساء إلى تلك اللغة السرّيّة التي لا يرى فيها الرجال إلاّ «حكي نسوان»؟
وهذا ما يعالجه كتاب المؤلفة الكندية «لغة البنات السرية».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق